ملحوظة: هذا المقال من كتاب (نقد الأخلاق التطورية: ريتشارد دوكينز نموذجا) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
من البديهي من منظور الصراع من أجل البقاء أن الانتخاب الطبيعي يؤسس لتعزيز صلاحية الفرد، فكيف يمكن للانتخاب الطبيعي أن يحافظ على صفات إيثارية تكلف الفرد وتزيد من صلاحية الآخرين؟ كيف نشأ الإيثار أصلا؟ كيف نشأ الإيثار الذي هو "المقابل تماما للصراع من أجل الأكثر صلاحية"[1]؟
"لقد فُتن التطوريون بالسلوكيات الإيثارية، لا لأنها مهمة في الطبيعة فقط، بل لأن من الصعب تفسيرها من وجهة داروينية كما يظهر"[2]، وقد اعترف داروين بمدى صعوبة تفسير الإيثار: سوف يدور في الأذهان بالتأكيد أن لدي ثقة لا حد لها في مبدأ الانتقاء الطبيعي عندما لا أعترف بأن مثل هذه الحقائق المدهشة والمستقرة جدا تهدم النظرية تماما[3]، "ولطالما اعتبرت نداءات الانذار التي تطلقها الحيوان محرجة بالنسبة إلى نظرية داروين"[4]، لذلك قدمت تفسيرات مختلفة منذ داروين إلى الآن، فقد حاول داورن أن يفسر هذه النماذج الإيثارية من خلال منظور أوسع للانتخاب الطبيعي، بأن يجعله يعمل على مستوى صلاحية المجموعة لا الفرد فقط[5]، وظل مفهوم الانتقاء الجماعي حاضرا إلى الستينات، وبعد التمركز حول الجين انقلب الوضع تماما على الانتقاء الجماعي، فأعمال ويليام جيمس وماينارد سميث وويليام هاملتون وروبرت تريفرز وغيرهم قد نالت بكل قوة من الانتقاء الجماعي، وتحول البحث منذ هذه الفترة إلى المعلومات، والانتقاء الجيني، وتحول المنطق الدارويني إلى وحدات مشفرة تخلق الحياة، تميل لأن تكون أنانية، ليست الوحدات هي الكائن الحي الأناني ولا مجتمعه الأناني، إنما الجين الأناني، فالمجموعة الأنانية "لا تترك أي مجال للتفاعلات التعاونية، فلا مجال للإيثار هنا، والظاهرة المسيطرة هي الاستغلال الأناني من قبل كل فرد لأي فرد آخر، أما في الحياة الفعلية فقد نقع على بعض الحالات إذ يبدو أن الأفراد تتخذ خطوات فاعلة بغية حماية الأفراد الأخرى في المجموعة من الحيوانات المفترسة"[6] لذلك من المنطقي أن تكون "الطريقة الطبيعية للجينات لتضمن أنانيتها هو أن تبرمِج الكائنات لتكون أنانية، وبالطبع هناك ظروف كثيرة يلزم فيها بقاء الكائنات لبقاء الجينات التي تحملها، لكن في ظروف أخرى ينشط أسلوبا آخر، وفي ظروف معينة–ليست نادرة– يضمن الجين بقاءه بأن يجعل الكائن يسلك سلوكا إيثاريا"[7] يقسم البيولوجيين هذه الظروف إلى قسمين:
–ايثار الأقارب: أن تبرمج الجينات صاحبها بأن يتكلف كلفة ما من أجل أقاربه، فتضحية الأب بوقته وجهده بل وبنفسه من أجل أبناءه مبرمج عليها من قبل الجينات لنشر نفسها، فلو مات الأب من أجل ابنه الذي يشاركه في الجينات بنسبة ما لم تمت المعلومة، وبالتالي فالفعل في أصله أناني، ومن أجل صالح المعلومة.
–ايثار التبادل: علاقة منفعة تقع بين غير الأقارب سنتحدث عنها تاليا.
أما إيثار الأقارب فبدأ على يد ويليام هاملتون، بمقالتين بحثيتين في عام 1964، "وتعتبران من أكثر الكتابات أهمية في مجال الإثنولوجيا الاجتماعية"[8] طبقا لدوكينز وأكثر البيولوجيين، "وتشكل نظرية هاملتون أهم مراجعة نظرية فردية لنظرية داروين في الانتقاء الطبيعي في هذا القرن"[9]، كيف لا وهي تحاول تفسير مشكلة من أصعب المشاكل الرئيسية في الداروينية. كيف نفسر الأمومة من منظور دارويني؟ كيف نفسر صرخات التحذير التي تطلقها بعض الحيوانات لإنقاذ مجموعتها وتعرض حياتها للخطر؟!
وبعيدا عن المعادلات العديدة التي قدمها هاملتون سنحاول شرح نظريته عن اللياقة المتضمنة باختصار[10]، ففكرتها بسيطة، تصور أن جينا ما يدفع فردا إلى التصرف بإيثار تجاه فرد آخر، ومعنى الإيثار كما قلنا:
–تحمل كلفة على الذات، وقت أو مجهود مثلا.
–توفير منفعة لفرد آخر.
كان السؤال الذي طرحه هاملتون هو التالي: تحت أي ظروف يمكن لجين كهذا أن يتطور وينتشر بين الناس كلهم؟ أي أنه كان يبحث في الضغوط الانتقائية وليس في العوامل النفسية، ورأى هاملتون أن الإيثار يمكن أن يتطور إذا كانت التكاليف المفروضة على الذات تعوض بفوائد أكبر منها لملتقي الإيثار، مضروبة في إمكانية أن يكون هذا المتلقي حاملا من مورثة الإيثار تلك[11]، وبالتالي فستعتمد الإيثارية على درجة القرابة، وكلما زادت نسبة الجينات التي يحملها متلقي الإيثار كان استعدادك لتقديم أفعال إيثارية له أكبر، وحيث أن التشابه الجيني بين الأب وابنه وبين الأخ وأخيه وبين الشخص وابن عمه كبير فاحتمالية توفير ضغط انتقائي لإنقاذ هؤلاء أكبر، على تفاوت بطبيعة الحال يتناسب مع درجة التشابه الجيني، وأعلى القرابة هي الأبوة "فإن كنت تحمل نسخة من الجينة س، فسيظهر احتمال بنسبة 50% أن يحمل أي من أبنائك هذه الجينة، ولد من إحدى هذه الخلايا الجنسية، وإن كنت تحمل نسخة عن الجينة ص يتجلى احتمال بنسبة 50% أن يحمل والدك هو أيضا نفس الجينة، إذ أنك ورثت نصف جيناتك منه والنصف الآخر من والدتك" وبعبارة موجزة: "يشكل أقارب الفرد من منظور اللياقة المتضمنة عربات ناقلة للياقة، إلا أنهم يختلفون في القيمة"[12]، ويمكن تمثيل القيمة على النحو التالي[13]:
وعلى ذلك تكون رعاية الوالدين لأبنائهم إيثارا بين الأقارب، ومن الناحية الجينية يجدر بأي راشد أن يوفر الرعاية والاهتمام لابن أخيه اليتيم تماما كما لو كان واحدا من أولاده بسبب القرابة"[14] وبالطبع لا يرى دوكينز أن الكائنات الحية تقوم بحسابات القرابة والمنفعة والتكلفة بشكل واع، بل هي آلات بقاء "مبرمجة سلفا على التصرف كما لو أنها قد أجرت عملية حسابية معقدة".[15]
ومن الأمثلة الشهيرة على الإيثار التي عالجها داروين واهتم بها جدا عند حديثه عن الغرائز: الإيثار في الحيوانات الاجتماعية، فالانتقاء الفردي الذي لابد أن يعمل لصالح الفرد يعارضه تماما عمل وتضحية الشغالات من أجل الملكة وأخواتها والخلية، لكنه عالجها بالانتقاء الجماعي أما دوكينز فيقول: مآثر الحشرات الاجتماعية أسطورية، ولا سيما منجزاتها المذهلة على مستوى التعاون والإيثار الظاهر، أما مهمات اللدغ الانتحاري فتمثل بما تتمتع به النحلات من بدع نكران الذات، ففي حالة النحل المخزن للعسل نجد طبقة من النحلات الشغالة التي تتميز ببطون منتفخة تختزن الغذاء، ولا وظيفة لهذه النحلات في حياتها سوى أن تتدلى بلا حراك من سقف القفير كأنها مصابيح منتفخة لتستخدمها النحلات الشغالة الأخرى كمخازن للغذاء، وهذا يعني على سبيل التشبيه بالبشر أن هذه النحلات لا تعيش كأفراد بل يتم إخضاع فرديتها الذاتية لمصلحة رخاء المجتمع على ما يبدو. فمجتمع النمل أو النحل أو الأرضات يحقق نوعا من الفردية عند مستوى أعلى، إذ يتم التشارك في الغذاء على نحو ما يسمح لنا بالحديث عن معدة جماعية، كذلك يتم التشارك في المعلومات بكثير من الفعالية بواسطة الاشارات الكيميائية والرقصة الشهيرة التي تؤديها النحلات، بحيث تتصرف المجموعة كما لو أنها وحدة لها جهازها العصبي وأعضاؤها الحسية الخاصة، أما الأفراد الغريبة والدخيلة فيجري رصدها وطردها بفضل انتقائية جهاز رد الفعل المناعي في الجسد"[16] ويشبه دوكينز الشغالات العقيمة في الحشرات الاجتماعية بالكبد والعضلات والخلايا العصبية في أجسادنا، فتنصب جهودها على الحفاظ على جيناتها عبر رعاية أقاربها بدلا من صغارها لأنها لا تلد، ويشبه الأفراد المولِّدة بخلايانا التناسلية في الخصية والمبيض.[17] ويعود إدراك أن الحشرات الشغالة أقرب إلى الحضنة من الملكة نفسها إلى هاملتون.
لعل القارئ يسأل الآن كيف يمكن للحيوان أن يتعرف على أقاربه؟ "ما هي القواعد العملية البسيطة التي يمكن للحيوانات اتباعها، والتي تحدث في ظل الظروف العادية مفعولا غير مباشر يعود بالمنفعة على علاقاتها القريبة؟"[18] يجيب البيولوجيون بسبل عديدة لذلك، كاستخدام حاسة الشم كما عند بعض الثدييات أو التعرض للأقارب في الطفولة كما في الرئيسيات[19]، أو من خلال التصنيف الثقافي كما عند البشر الموجود في كل اللغات والمحدد لعلاقات القرابة.
والحق أن هناك دعم تجريبي لحسابات هاملتون، فقد "أكدت الدراسات التجريبية أهمية القرابة كعامل متنبئ لسلوك المساعدة، وثقت إحدى الدراسات أن نداء التحذير الذي تطلقه السناجب الأرضية يحدث عندما يكون الأقارب الأقربين في الجوار على الأرجح، مع أنه نداء قد يكون مكلفا لسلامة مطلقته، إذ تجذب انتباه المفترسين إليها"[20]، "وتبين دراسات أخرى أن كمية الحزن والأسى التي يخبرها الأفراد مرتبطة مباشرة بدرجة القرابة الجينية"[21]، كما أنها تتمتع بقوة تفسيرية كبيرة، لذلك اعتبرت باراديما للنظرية التطورية المعاصرة، لكن قد اعتبر هذا النصر لانتقاء الأقارب نصرا لوجهة النظر المتمركزة حول الجين، وهنا محل نقدنا على النحو التالي.
أولا:
القوة التفسيرية الكبيرة لانتقاء الأقارب لا يعني صحة النظرة المتمركزة حول الجين، يتجلى ذلك في القراءات المختلفة الأخرى، كاعتبار إيثار الأقارب نتاجا ثانويا لتجمع من الأفراد، لم يكن له قيمة تكيفية أصلا[22]، أو القراءة الأهم من المشروع الحديث لإحياء الانتقاء الجماعي على يد ديفيد ويلسون والفيلسوف إليوت سوبر، فقد اقترحا في عام 1998 أن "الانتقاء الجماعي متمضمن في النظريات الأساسية التي يفترض أنها بديلة للانتقاء الجماعي"[23] وأن السياق الاجتماعي والظروف البيئية لها دور كبير في عملية الانتقاء عموما، واعتمدا على فقرة معينة كتبها هاملتون في أحد بحوثه، واقترحا أن انتقاء الأقارب ليس بديلا للانتقاء الجماعي، بل حالة خاصة من الانتقاء الجماعي[24]، ولا يعنينا تقييم عمل ويلسون وسوبر أو النتاج الثانوي الذي ابتدعه جولد، فهناك جدل كبير في الألفية الثالثة بين دوكينز وأنصاره وأنصار الانتقائية الاجتماعية في تعريف الانتقاء الجماعي وانتقاء الأقارب، وجدل آخر في فكرة النتاج الثانوي، لكن الجدير بالذكر أن الانتقائية الجماعية وانتقاء الأقارب جينيا متكافئان في النتائج، والخلاف في المعالجة نفسها[25]، وأنه لا علاقة بين القوة التفسيرية لنظرية ما وتأويل هذه النظرية، فقد يكون التفسير صحيحا والتأويل خاطئ، كما أن نظرية اللياقة الشاملة لا تنفي تأثير عوامل أخرى كالتعليم الاجتماعي وغيره.[26] فيمكن قراءة التأثير الجيني كعامل داخل عوامل كثيرة أخرى ودوافع أكثر في تفسيرنا لمثل هذه السلوكيات الحميدة، أما حصر التأثير بالتأثير الجيني كما تفترض النظرة المتمركزة حول الجين فغير مسلم.
ثانيا:
يؤكد بعض المتخصصين في سلوك الحشرات الاجتماعية على عوامل أخرى غير فكرة التقارب الجيني، فمثلا أكد جميس كوستا في كتابه (The other insect societies) على وجوب دراسة العوامل الأخرى التي تؤثر في النشاط الاجتماعي لدى الحشرات من منظور متجاوز لانتخاب الاقارب، "ويشير كتابه إلى مجموعة من الترتيبات الاجتماعية، ويوحي بأنه قد يكون هناك العديد من المسارات التطورية للنشاط الاجتماعي التي لا تنطوي جميعها على انتخاب الأقارب"[27] فهو يرى أن علاقة المنفعة والتكاليف قد درست من خلال المنظور الجيني بفضل التقدم التكنولوجي في أواخر القرن العشرين الذي سهل معرفة القرابة الجينية، وقابل ذلك إهمال للعوامل البيئية–بالمعنى العام– التي لا تقل أهمية عن الجينات، وسبب هذا الاهمال في نظره هو صعوبة تقييم وتحليل العوامل البيئية والسياق المحيط بالكائن. ودعت المتخصصة في سلوك الحيوان والتي لها اهتمام يقرب من الثلاثين عاما بالإنقاذ في عالم النمل إليس نوباهاري (Elise Nowbahari) إلى مزيد اهتمام وبحث، وعدم الاكتفاء بفكرة الانتقاء الجيني، فهي تعتقد أن "السلوك الإيثاري لم يأخذ ما يكفيه من الاهتمام والدراسة".[28]
ثالثا:
لو صحت النظرة المتمركزة حول الجين وقراءتها لانتقاء الأقارب فلن يكون انتقاء الأقارب إيثارا بالمعنى الذي نستخدمه في حياتنا في اللغتين العربية والإنجليزية على الأقل، فكيف يمكن اعتبارها مقاربة لتفسير الإيثار الحقيقي عند الإنسان، فالفرد يتصرف أو يقاد جينيا لمصلحة معلومات الجين وانتشارها، "ففي الواقع هذه السلوكيات ليست إيثارا، فهي تفضل مباشرة الفرد الذي يقوم بها كفرد يسعى إلى زيادة ذريته"[29] ويصبح التفسير الدارويني حينئذ "لإيثار" الأقارب لا معنى له، لأنه يفسر الأنانية لا الإيثارية بالمعنى المعروف للكلمة، الذي يضع في حسبانه دوافع وعواطف وتعلم وصورة حياة الكائن. أما في حالة الإنسان خصوصا فالأمر أبين، فتلك النظرة المتمركزة حول الجين تقدم الأمومة والإنسان عموما كتمثيل للطيبة بإرادة ثقافية، لإخفاء اللامعنى للطيبة والإيثار الذي يقدمه التفسير الجيني.
[1] Sober, E. and Wilson D.S., 1998, p. 19
[2] ibid. p. 18
[3] تشارلز داروين، أصل الأنواع، المجلس الأعلى للثقافة، ترجمة مجدي محمود المليجي، ص436.
[4] الجينة الأنانية، ص272.
[5] أصل الانواع، ص439.
[6] الجينة الأنانية، ص272.
[7] Dawkins, R.2006, p.216
[8] الجينة الأنانية، ص143.
[9] دافيد باس علم النفس التطوري، ص462.
[10] أما مصطلح انتقاء الأقارب نفسه فلم يصرح به هاملتون، بل أدخله ماينارد سميث عام 1964 إلى اللغة التطورية.
[11] المرجع السابق، ص461.
[12] المرجع السابق، ص459.
[13] المرجع السابق، ص69.
[14] الجينة الأنانية، ص148.
[15] المرجع السابق، ص151.
[16] المرجع السابق، ص276.
[17] المرجع السابق، ص277.
[18] المرجع السابق، ص155.
[19] دافيد باس علم النفس التطوري، ص472.
[20] المرجع السابق، ص510.
[21] المرجع السابق، ص511.
[22] Alonso, W. J. (1998). The role of kin selection theory on the explanation of biologicalaltruism: a critical review. Journal of Comparative Biology, 3, 1–14.
[23] Sober, E. and Wilson D.S., 1998, p. 57
[24] Okasha, S., 2002, ‘Genetic Relatedness and the Evolution of Altruism’, Philosophy of Science, 69, 1: 138–149.
[25] Marshall, J. A. R. 2011. “Group Selection and Kin Selection: Formally Equivalent Approaches.” Trends inEcology and Evolution 26 (7): 325–332.
[26] Avital, E., & Jablonka, E. (2000), P.179
[27] العدالة في عالم الحيوان، ص106.
[28] Laura Spinney, 2013, New Scientist, vol. 220, no. 2948, pp. 62–63
[29] Alonso, W. J. (1998).