* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (نقد الأخلاق التطورية: ريتشارد دوكينز نموذجا) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
قد يستغرب القارئ من مصطلح ثقافة الحيوان، لكن يزول هذا الاستغراب ببيان المقصود، فالمقصود بالثقافة هنا "صورة حياة" معينة موروثة يتعامل بها الكائن مع بيئته، في اختياره للطعام وكيفية الظفر به وكيفية التعامل مع الأقارب والغرباء وغير ذلك من ضرورات الحياة، أو تعريف المتخصصة في أنثروبولجيا الثقافة مارغرت ميد "مجموعة من الأنماط السلوكية المكتسبة، تتشارك فيها مجموعة من الأفراد وتنقلها إلى أبنائها"[1]، لم ينسب دوكينز في كتبه كلمة الثقافة مطلقا إلا للإنسان، ويعتبر تطور الإنسان فقط هو "من يحتم علينا التخلي عن الجينة كقاعدة أساس وحيدة لأفكارنا عن التطور"[2]، وفي الواقع يختلف البيولوجيون في التعامل مع ثقافة الإنسان، فبعضهم ينسب لها دورا مهما في عملية تطوره وبعضهم يتجاهلها تماما، ودوكينز يقدّر الثقافة الإنسانية كما سيأتي، إلا أنه يهمل تماما–كأغلب البيولوجيين– ثقافة الحيوان، ويتعامل بمصطلحات قائمة على معادلات رياضية كما سيتبين في تفسيره للإيثار، والسبب في ذلك واضح، وهو العقيدة المركزية في الداروينية الحديثة وهي التعامل الآلي مع الحيوان والتركيز على المورثات، إلا أن هذه الصورة قد اختلفت إلى حد ما بعدد عدد من الأبحاث الحديثة، أغلبها في نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، وتحاول هذه الأبحاث إثبات أن للحيوانات سلوكيات معينة تورث من خلال "التعليم" وتوضح معنى جديدا "للغريزة" التي ظل البيولوجيون ينظرون إليها كعمل آلي جيني في الحيوان لعقود طويلة، وتهدف إلى ضرورة إدخال هذا التعليم في عملية الانتخاب الطبيعي بالإضافة للجينات، بل وتوضيح دور الكائن في عملية تطوره، وأن "هناك الكثير من أنماط السلوك ومنتجات النشاطات الحيوانية توحي بقوة أن هناك تطور ثقافي تراكمي يشبه الموجود في الإنسان إلى حد ما"[3] وبصرف النظر عن الهدف ومدى جدوى ذلك في إصلاح ضعف الداروينية فالمسلّم به أن هذه الأبحاث قد زعزعت العقيدة المركزية للداروينية الحديثة، وعادة يشار إلى أصحاب تلك الأبحاث باللاماركيين الجدد، ومن أشهر رواد هذا المجال إيفا جابلونكا المنظّرة البيولوجية الكبيرة[4]، التي لها اهتمام خاص أو مشروع خاص بالوراثة غير الجينية، كالسلوك، وسنركز على العناصر التي تعتبر انتقاد جذري لأطروحة دوكينز المهملة للسلوك الثقافي.
ترى جابلونكا أن هناك تركيز " في جميع التقارير البيئية والتطورية للرعاية الأبوية تقريبا تم تجاهل نقل المعلومة من الأباء إلى الذرية، وتأثيرها التطوري"[5] وأنه " ليس هناك معالجة منهجية لدور التعليم الاجتماعي في تطور السلوك داخل الكتب المدرسية المتعلقة بتطور أو بيئية السلوك"[6]، وهذا الإهمال ليس بسبب الجهل بالمعلومات المكتسبة والمورثة بطريق غير جيني "فآليات نقل المعلومات الحاسمة عن جوانب الحياة معروفة على مدار عدة سنوات لكل من البيولوجيين وعلماء النفس التجريبيين، لكن لم تدمج المعلومة بالكامل داخل بناء أساسي لفكر تطوري وبيئي"[7]، باختصار "لم يتلق السلوك الإدراك الشامل الذي يستحقه"[8]، وتعارض المدرسة السلوكية التي تعامل الحيوان كمستجيب للمثير فقط، فعادة ما يتم دراسة سلوك الحيوان كما تدرس الآلة، أي بالتركيز على سلوك واحد بمعزل عن صورة الحياة التي اكتسب فيها الحيوان الصغير هذا السلوك، ثم رسم خطة مقترحة لكيفية اكتساب أو نشوء هذا السلوك، ونادرا ما يتأكد من صحة الاقتراحات المتخلية للصعوبة البالغة في إعادة تصور الماضي معلوماتيا، فالسلوك حدث يقع في إطار زمني ولا يبقى له أثرا في الغالب بخلاف الحفريات، فعملية تصور صورة حياة كائن ما تنطوي على تصور ظروفه البيئية والاجتماعية، وذلك يستلزم مزيدا من المعالجات المبتكرة وغير المباشرة لعملية نقل المعلومة من حيوان لآخر بحاجة، والتي تستهلك وقتا وجهدا ومالا، وتعترف جابلونكا بهذا فتقول: "نحن بعيدون عن امتلاك تفسير تطوري كامل لاعتماد الباندا على الخيزران، فعلى الأقل يبقى ثلاث مشاكل رئيسية(أي بعد فهم النظام الغذائي لسلف الباندا والظروف البيئية التي عاشت فيها)، أولا: هل نحن حددنا كل الوظائف الحاضرة والماضية للسلوك؟ ثانيا: هل حددنا المسار النمائي الذي قاد إلى هذا السلوك؟ ثالثا: عند أي مستوى للتنظيم البيولوجي تجرى عملية النقل وانتقاء الانواع؟"[9].
من أجل ذلك تقول جابلونكا أن "التطور الثقافي في الحيوانات قد يشمل أسلوب الحياة كلها، وليس سلوكا معزولا معينا"[10]، ولتوضيح ذلك قدمت مثالا شهيرا وموثقا بشكل جيد عن قرود المكاك، وهو المثال الذي كان نقطة الانطلاق للاهتمام بالثقافة الحيوانية، تعيش هذه القرود على جزيرة صغيرة في كوشيما، "واعتادت على أن تعيش وتجمع العلف في الغابات، لكن بدأ علماء رئيسيات يابانيون في إطعام تلك القرود بنشر البطاطا اللذيذة على الشاطئ الرملي. وبعد فترة وجيزة بدأت قوات القرود في مغادرة الغابة والتغذي على الشاطئ. وبعد نحو عام لوحظ القرود الصغار يغسلون البطاطا في واد قريب من الرمال، وفي غضون السنوات القليلة التالية انتشر غسل البطاطا في هذا المجتمع، وانتقلت هذه الممارسة من الوادي إلى البحر، وبجانب غسل البطاطا ترسخت مجموعة من السلوكيات المرتبطة بالتغذية على الشاطئ في مجموعة قرود المكاك، لقد انتقلت السلوكيات من الأمهات و أعضاء المجموعات الأخرى إلى الصغار"[11]، مثال آخر: "نجحت الثعالب الحمراء الأوربية من التكيف مع سلوك مدني معقد وجديد خلال الفترة التي تعتبر صغيرة جدا لكي تسمح بتكيف من خلال انتقاء الجينات"[12]. نلاحظ هنا أن الملامح الثقافية أو الميمية الرئيسية التي نسبها دوكينز للإنسان فقط موجودة في الحيوان إلى حد ما[13]، فهنا "انتقال ثقافي يشبه الانتقال الجيني من حيث أنه قد ينشأ كشكل من أشكال التطور"[14] وهنا "تطور وفقا لأساليب غير جينية، ولإيقاع يفوق بسرعة انتشاره وسرعة التطور الجيني"[15] وهنا اعتمد نقل الثقافة على "نسبة الوقت الذي يخصصه الأفراد لنقل هذا الميم على نحو فاعل إلى أفراد آخرين" وهنا "تنتشر الميمات في الجمعية الميمية عبر القفز من دماغ إلى آخر بواسطة مسار يمكن تسميته بالمعنى الواسع التقليد"[16]فلماذا إذن جعل دوكينز الإنسان فقط ذا ثقافة قادرة على "التمرد على جور المتضاعفات الأنانية" دون الحيوان؟ فإذا كانت ثقافة الإنسان "كاللغة" قد أثرت في عملية الانتخاب الطبيعي فلماذا تؤثر سلوكيات الحيوانات الاجتماعية في نفس العملية؟ يسلّم دوكينز بأن "الألحان التي يصدرها طائر التيكي تبدو أنها تتطور فعليا بأساليب غير جينية"[17] بل ويسلم أيضا بأن هناك "أمثلة أخرى تتوافر عن التطور الثقافي لدى الطيور والقردة" إلا أنه يتابع فيقول: "إلا أن هذه الأمثلة مجرد ظواهر شاذة مثيرة للاهتمام، فجنسنا البشري هو الذي يبين ما يمكن التطور الثقافي تحقيقه فعليا، واللغة ليست سوى مثال واحد من أمثلة كثيرة، فالموضة في الملبس والمأكل والاحتفالات والأعراف والفن والعمارة والهندسة والتكنولوجيا كلها تتطور تاريخيا بطريقة تبدو أشبه بتطور جيني سريع جدا، علما بأن لا علاقة لها على الإطلاق بالتطور الجيني"[18]، والرد عليه من ثلاثة أوجه:
الأول: ما معنى الشذوذ هنا؟! "الحيوانات الصغيرة إما أن تتعلم سلوكيات بسيطة أشبه بالبرمجة كبعض العناكب، أو من خلال التعلم الذاتي كالقنفذ الأوربي في تجميعه للعلف أو من خلال التعليم الاجتماعي، بأن يتبع مجموعة أمثلة من الآباء وغيرهم، مثل صغار الحجل"[19] فإهمال سبيل من سبل التعلم تعنت، ثم إن المقارنة لا بد أن تكون بين الإنسان وغيره من الحيوانات الاجتماعية ليظهر هل هناك شذوذ أم لا، وبشكل عام "تشير عدة مخططات من الأدلة بوضوح إلى وجود تدفق معلوماتي مستمر من الآباء إلى الذرية، وذلك من خلال مجموعة من القنوات غير اللفظية المخفية. نقل المعلومة التي تُكتسب بواسطة الآباء على مدى فترة طويلة نسبيا في نفس الموطن تساعد الصغار على إعداد مجرى حياة ناجح كالبالغين، وتغطي هذه المساعدة كافة جوانب الحياة تقريبا، من الدفاع المناعي–من خلال الطعام– والتزاوج واختيار الموقع البيئي والموضع إلى مكافحة الحيوانات المفترسة".[20]
ولنأخذ بشكل خاص قطاع عريض جدا من الحيوانات الاجتماعية وهو الطيور والثدييات، فـمن المسلّم به أنه ليس هناك طائر أو ثديي يولد عارفا بما يأكل، أو بكيفية إيجاد أو حصاد طعامه، لذا يجب أن يتعلم هذا الفن، فـ"العالم يبدو في نظر صغار الطيور والثدييات معقدا ومكان خطير جدا في أحيان كثيرة للعيش فيه، فبين أشياء أخرى يجب على الأصغر أن يقدر على التعامل بنجاح مع مهام أساسية لكن معقدة لإيجاد الطعام والحماية والزوج المناسب لاحقا. وحيث أن هذه المصادر غير متوفرة بالقدر الكافي ربما يتحد الصغار ضد الأفراد الأخرى أو الأنواع الأخرى. كما أن العالم مزدحم بأعداء– كالحيوانات المفترسة والطفيليات– يمكن التنبؤ بهم وقد لا يمكن، وعلى استعداد لمهاجمة فاقدي المعرفة والغافلين. إن الصغار يجب أن يتعاملوا مع مخاطر مناخية كالصقيع وموجات الحرارة والجفاف والكوارث كالحرائق والفيضانات، بل والزلازل والأعاصير في بعض الأحيان"[21]، فكيف يمكن تجاهل نمطا تاما من ثلاثة أنماط تعليمية وهو النمط الاجتماعي التي طالته دراسات واسعة وأكدت على أهميته.
الثاني: لو سلمنا أن الأمثلة الثقافية عند الحيوان شاذة لا يعتد بها، فلماذا يعتد دوكينز بأمثلة على الإيثار التبادلي شبه مجمع على ندرتها؟ ناهيك عن أن الحالتين التي قدمهما محل أخذ ورد، وتفصيل الإيثار التبادلي يأتي لاحقا، وهذا على التسليم بأن الأمثلة الثقافية معدودة، وإلا فقد "كشفت أيضا الابحاث المتزايدة طويلة المدى على تجمعات الشمبانزي على نطاق من التنوع السلوكي بين التجمعات، الذي يعزى إلى التعليم الاجتماعي"[22] وغير ذلك من التجمعات، يقول روبرت بويد وبيتر ريتشرسون: "إن التعليم الاجتماعي متضمن في اكتساب السلوك في العديد من الأصناف، فكثير من الطيور المغردة تكتسب أغانيها من خلال نسخ أغنية الطيور البالغة، ويبدو أن الفئران تكتسب تفضيل طعام معين من خلال تلقينات تذوقية من لبن أمها، وشم شعر أجسام الفئران الأخرى، وهناك دليل مادي على أن أفراد من عدة أنواع مختلفة من الرئيسيات قد تكتسب سلوكيات جديدة معقدة من خلال التعليم الاجتماعي"[23]، وفي الصفحة التالية سنبين مدى دور التعليم الاجتماعي في البقاء والتكيف وغير ذلك.
الثالث: سبب وصف دوكينز لتلك الأمثلة الثقافية بالشذوذ قائم على سوء فهم لمعنى "الغريزة" عند الحيوان، نشرحه أيضا في العنصر النقدي التالي.
[1] منى عبود، الميماء: نظرية تطورية في تفسير الثقافة، بيسان للنشر، ص11.
[2] الجينة الأنانية، ص312.
[3] الجينة الأنانية، ص23.
[4] لمن يريد الاطلاع على هذا الاتجاه الحديث في فهم الوراثة فعليه بالكتابين التاليين بالإضافة لكتب إيفا جابلونكا، والكتاب الأول في غاية الأهمية:
Mary Jane West–Eberhard,2003, Developmental plasticity and evolution, Oxford University Press
Andreas Wagner, 2011, The origins of evolutionary innovations, Oxford University Press.
[5] Avital, E., & Jablonka, E. (2000). Animal traditions: Behavioural inheritance in evolution, Cambridge: Cambridge University Press. P.111
[6] ibid. p111.
[7] ibid. p111.
[8] ibid. p338.
[9] ibid. p45.
[10] ibid. p99.
[11] ibid. p10.
[12] ibid. p10.
[13] بغض النظر عن صحة تصور دوكينز للثقافة وتنظيره عنها، فما نقصده هو إلزام دوكينز بالاعتراف بثقافة الحيوان.
[14] الجينة الأنانية، ص309.
[15] المرجع السابق 309.
[16] المرجع السابق، ص313.
[17] المرجع السابق، ص310.
[18] Avital, E., & Jablonka, E. (2000), p310.
[19] ibid. p110.
[20] ibid. p111.
[21] ibid. p110.
[22] Michael A. Huffman , Satoshi Hirata, 2003, Biological and ecological foundations of primate, in The Biology of Traditions, Cambridge University Press, p269.
[23] Robert Boyd, Peter J. Richerson, 2005, The Origin and Evolution of Cultures, Oxford University Press, p20.