ملحوظة: هذا المقال من كتاب (من داروين إلى هتلر: الأخلاق التطورية واليوجينيا والعنصرية في ألمانيا) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
لخص داروين بعناية آرائه عن الأخلاق ومنظومة القيم في مذكراته الخاصة، وقال فيها أن الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولا بحياة بعد الموت –مثله تمامًا– "يستطيع أن يتخذ قانونًا لحياته–كما أرى– فقط باتباع البواعث ونداءات الغرائز الأقوى أو التي يشعر أنها الأفضل".(1) ويعد هذا انحرافًا جذريًا عن الطرق التقليدية في تأصيل الأخلاق، حيث تعتمد المسيحية على الوحي الإلهي، وبنى كانت Kant وغيره من مفكري عصر النهضة الأخلاق بناء على عقلانية الإنسان، حتى أن فلاسفة الأخلاق البريطانيون اعتبروا الأخلاق والفضائل جزءًا ثابتًا لا يتغير من الطبيعة الإنسانية، أيًا كان أصلها. أكد الفيلسوف ديفيد هال David Hull في كتابه (ميتافيزيقيا التطور The Metaphysics of Evolution) على الطبيعة الثورية لنظرية داروين فيما يتعلق بالأخلاق قائلًا: "نظرًا لاعتماد الكثير من نظريات الأخلاق والآداب والنظريات السياسية على مفهوم أو أكثر عن الطبيعة البشرية، وضعت نظرية داروين كل هذه النظريات محل الاستفهام".(2)
وحتى قبل كتابة داروين لمذكراته خشي الكثير من معارضي الداروينية من النتائج الأخلاقية للداروينية، وبالتأكيد لم تهدئ تعليقات داروين عن اتباع الغرائز مخاوفهم. بعد أن كتب داروين هذه العبارة في مذكراته التي تحدث فيها عن اتباع غرائزنا، أسرع ليضيف أن الغرائز الاجتماعية في الإنسان والمشاعر الأخلاقية تكون أقوى من النزعات الأنانية أو التلذذية. وقد ذكر داروين في كتابه (أصل الإنسان) أن الحس الأخلاقي للإنسان ينبع من النشاط المشترك للغرائز والعقلانية. وذكر أيضًا أن الغرائز الاجتماعية للإنسان والاختيار الجمعي يقودان بشكل طبيعي إلى القاعدة الذهبية: (عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك)(3) دون الحاجة إلى تدخل غيبي. أكد داروين إذن لمعاصريه أنه ليس في نظريته ما يخشى منه لأنها تؤكد واحدًا من العقائد المركزية في الأخلاق اليهودية المسيحية.
ولكن لم يتفق كل داعمي داروين معه في الآثار الأخلاقية لنظريته وتناقش الداروينيون إن كان داروين أسقط الآراء الأخلاقية التقليدية أم أنه عدلها أم أكدها.
رغم رفض البعض بحدة واحتقار لكل الأخلاق ومنظومة القيم التقليدية معتبرين إياها ذاتية وغير علمية، إلا أن الكثير اتخذ مقاربة متوسطة، مؤكدين على أهمية النزعات الإيثارية والحب الأخوي، بينما رفضوا معظم عقائد الأخلاقيات اليهودية والمسيحية. أمل هؤلاء الداروينيون المتأخرون في إنقاذ لب الأخلاق الدينية، بينما كانوا يتخلصون من المظاهر التي اعتبروها فخاخًا دينية زائدة لم تعد لها أهمية في عصر العلم المتحضر. الأهم من ذلك أنهم اعتبروا الأخلاق والآداب منتجًا من منتجات الطبيعة، وبالتالي سيكون لها علاقة بمراحل التطور وبالقدرة على حفظ الانواع؛ وعليه فإنهم يرفضون أي قانون أخلاقي ثابت.
لم يكن تفسير أصل الأخلاق موضوعًا جانبيًا تافهًا بالنسبة إلى داروين، ولكن كان موضوعًا محوريًا عليه أن يواجهه إن كان مقدرًا لنظريته للتطور أن تصبح مقبولة وذات وجاهة. الكثير من الناس عبر التاريخ بعد كل هذا يطالعون الأخلاق كمفهوم إنساني فريد، يرقى بالإنسان عاليًا فوق باقي الكائنات. احتاج داروين أولًا إلى إثبات أن الأخلاق ليست انفرادًا إنسانيًا. وثانيًا، احتاج إلى تفسير آلية عملها أو الميكانيكية التي تنتجها. وقبل نشر نظريته بزمن صارع داروين أصل النزعات الأخلاقية. كانت الداروينية: "تنوي تفسير المجتمع الإنساني"، كما قال جيمس موور James Moore وأدريان ديسموند Adrian Desmond، حيث دمج داروين في نظريته أفكارًا عن الاقتصاد والاجتماع من البداية.(4) مذكراته الشهيرة باسم "M" التي نشرها عام 1838 كانت مليئة بتأملات عن التطور البشري وتضمنت دلالات عدة عن الأخلاق.(5)
وفي كتابه (أصل الإنسان) حاول داروين إثبات أن كل السمات الإنسانية –بما فيها السلوك الأخلاقي– تختلف في درجاتها وليس في نوعها، عن سمات باقي الكائنات الأخرى. وبيّن أن الكائنات الأخرى تعيش في مجتمعات وتتعاون، والغريزة الاجتماعية التي أنتجت هذا التعاون غريزة وراثية. بينما في الإنسان تطورت الغرائز الاجتماعية أكثر منها في الأنواع الأخرى وانتظمت سويًا من خلال قدرات الإنسان الإدراكية الواسعة، لتنتج لنا ما نطلق عليه الأخلاق. وبالنسبة لداروين فإن آلية إنتاج هذا الفيض من الغرائز الاجتماعية كان الانتقاء الطبيعي عبر صراع البقاء. وستنتصر المجموعات ذات العناصر المتعاونة والمضحية على المجموعات ذات العناصر الأكثر أنانية إما بشكل مباشر عبر الحروب أو بشكل غير مباشر عبر الزيادة السكانية.(6)
بجعله الغرائز الإنسانية قاعدة تنبثق منها الأخلاق، قدم تفسير داروين للتطور سببًا منطقيًا وعلميًا لتطور النزوات البشرية غير العقلانية. من وجهة النظر هذه تجسد نظريته العلمية العقلانية في عصر النهضة. قدم داروين نظريته كمنتج لمنهج باكون التجريبي، وقد ساعدت نظريته على إحداث نقلة نوعية في البيولوجيا تجاه النموذج الوضعي الواقعي.(7) رغم ذلك ساعدت الداروينية أيضًا على تقويض العقلانية، خاصة في نطاق الأخلاق. الاحترام المتنامي للعلوم بوجه عام ولنظرية الداروينية بشكل خاص في أواخر القرن التاسع عشر ساعد على تعزيز الحتمية البيولوجية. فُسرت إذن سمات الإنسان العقلية والأخلاقية؛ وبالتالي سلوكه، بناء على سلوكه البيولوجي أو غرائزه وليس على عقلانية الإنسان. ولم ينفِ الداروينيون مطلقًا عقلانية الإنسان، ولكنهم بدأوا في تفسير السلوك الإنساني بمصطلحات داروينية، وأكدوا على أهمية الغرائز في تفسير السلوك الإنساني. وإن كانت التفسير الدارويني للسلوك الإنساني ممكنًا فإن البشر يجب أن يتشاركوا في سمات كثيرة مع الحيوانات، حيث أن الداروينية تقول أن العقلانية الإنسانية ليست المحرك الأساسي للسلوك الإنساني.(8)
لم يكن داروين إطلاقًا هو أول من صور الأخلاق باعتبارها فطرية وغير عقلانية. في الواقع، تلقى داروين دعمًا كبيرًا من فلاسفة الأخلاق البريطانيين قبله. في القرن الثامن عشر قدم الفلاسفة نظريات عدة لتأصيل الأخلاق في المشاعر الإنسانية. على سبيل المثال شافتسبري Shaftesbury الذي كان شخصية محورية في تطوير الحس الأخلاقي في الفلسفة، ساهم بشكل حاسم في ظهور العقلانية في النظرية الأخلاقية. كما آمن كثير من الشخصيات البارزة؛ مثل فرانسيس هاتشيسون Francis Hutcheson وجوزيف باتلر Joseph Butler أن المشاعر الأخلاقية غرسها الله في صدر الإنسان. بينما يمكن أن يتحدث آخرون؛ مثل ديفيد هيوم David Hume عن فكرة الفلسفة الأخلاقية دون الإشارة لوجود أصل سماوي، ويبنيها ببساطة على الطبيعة الإنسانية. ولأن كثير من فلاسفة القرن الثامن عشر اعتبروا الطبيعة الإنسانية طبيعة جامدة، فقد اعتقد معظمهم أن المشاعر الأخلاقية مشاعر عامة ذائعة لا تتغير. كان داروين على دراية جيدة بالفلسفة الأخلاقية البريطانية.(9) في العام 1838 قرأ داروين كتاب جيمس ماكينتوش James Mackintoch عم زوجته؛ (بحث في تطور فلسفة الأخلاق)، ذكر ماكينتوش أن الأخلاق فطرية؛ لاعتمادها على دوافع أخلاقية، كما أنها عقلانية في الوقت نفسه.(10) ووافق داروين بشكل أو بآخر على مقاربة ماكينتوش، ولكنه رفض تمامًا وصف أخلاق الإنسان وطبيعته بالجمود.
انبثقت عن النظرية الداروينية محاولات عديدة لبناء نظام أخلاقي جديد يعتمد على فرضيات التطور. حتى قبل ظهور الداروينية حاول هربرت سبنسر Herbert Spencer بناء "منظومة أخلاقية علمية"، ولكنه في صياغته للأخلاق في العام 1851 كان لا يزال يستحضر وجود الإله كمصدر للأخلاق لدى الإنسان. ولكن بعد نشر داروين لنظريته تخلص سبنسر من وجود الإله وطور منظومة أخلاقية طبيعانية بالكامل. إلى جانب سبنسر كان المثقف الملحد ليزلي ستيفن Leslie Stephen أفضل المناصرين المعروفين لتطور الأخلاق في أواخر القرن التاسع عشر في بريطانيا، وبشكل أقل في الولايات المتحدة وغيرها كان هناك إشارات حاولت تشكيل النظريات الأخلاقية على قاعدة من التطور البيولوجي. بالطبع أفرزت هذه الإغارات على الداروينية انتقادات عديدة أيضًا، من بينها انتقادات واحد من علماء البيولوجيا الداروينيين البارزين؛ توماس هكسلي Thomas H. Huxley.ـ(11)
وجد التفسير الدارويني لأصل الأخلاق تربة خصبة في ألمانيا، ولكن الداروينيّون الألمان لم يتفقوا فيما بينهم على تأثيرات الداروينية على الوضع الأخلاقي الحالي. واعتبرها البعض نظرية ثورية، تطيح بالكامل بالنظام الأخلاقي التقليدي، خاصة الأخلاق المسيحية. آخرون، ومنهم داروين نفسه، حاولوا التركيز على انسجام الداروينية مع الأخلاق القائمة. ولكن الكثير اتخذ مقاربة مختلفة، حيث فرقوا بين بعض الظواهر الأخلاقية التقليدية التي تدعمها الداروينية وبعض الظواهر الأخرى التي تقوضها.(12)
(1) Charles Darwin, Autobiography (New York: Norton, 1969), 94.
(2) David Hull, The Metaphysics of Evolution (Albany: State University of New York Press, 1989), 75.
(3) Darwin, The Descent of Man (London, 1871; rprt. Princeton, 1981), 1:106.
(4) Adrian Desmond and James Moore, Darwin (London, 1991), xxi, 243, 263, 269.
(5) Charles Darwin, Metaphysics, Materialism, and the Evolution of Mind: Early Writings of Charles Darwin, ed. Paul H. Barrett (Chicago: University of Chicago Press, 1974).
(6) Darwin, Descent, 1:71-80.
(7) Neal Gillespie, Charles Darwin and the Problem of Creation (Chicago, University of Chicago Press, 1979).
(8) Robert J. Richards, Darwin and the Emergence (Chicago, 1987), 108-9; Robert J. Richards, "Darwin's Romantic Biology: The Foundations of His Evolutionary Ethics," in Biology and the Foundation of Ethics, ed. Jane Maienschein and Michael Ruse (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), 113-53. See also Paul Lawrence Farber, The Temptations of Evolutionary Ethics (Berkeley, 1994), ch. 1.
(9) Michael Bradie, The Secret Chain: Evolution and Ethics (Albany: Suny Press, 1994), ch. 2.
(10) Richards, Darwin and the Emergence (Chicago, 1987), 116-17.
(11) Paul Lawrence Farber, The Temptations of Evolutionary Ethics (Berkeley, 1994); C. M. Williams, A Review of the Systems of Ethics fiunded an the Theory of Evolution (London, 1893).
(12) Kurt Bayertz, "Darwinismus als Politik: Zur Genese des Sozialdarwinismus in Deutschland 1860-1900," in Welträtsel und Lebenswunder: Ernst Haeckel¬Werk, Wirkung und Folgen, ed. Erna Aescht et al. (Linz, 1998), 247-9.