* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (التصميم الذكي: فلسفة وتاريخ النظرية) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
بعد سبعة أعوام من البحث، قام كل من الكيميائي «تشارلز ثاكستون»، والعالم «والتر برادلي» –المختص في الخواص الميكيانيكية للمركبات البوليمرية– والجيوكيميائي «روجر أوسلن» بتقديم مفهوم «المسبب الذكي» كتفسير لأصل المعلومات البيولوجية في كتابهم «لغز نشأة الحياة»، وتم نشره في عام 1984 بواسطة دار «المكتبة الفلسفية The Philosophical Library»، وأعيد طباعته من قبل دار نشر علمية مرموقة أخرى في نيويورك، والتي كانت قد نشرت أكثر من عشرين بحثًا لعلماء حاصلين على جوائز نوبل.
تحدى هؤلاء العلماء التفسير السائد لعلم الكيمياء التطوري لنشأة الحياة، بالإضافة للبرادايم العلمي القديم، وسافر «ثاكستون» إلى «كاليفورنيا» للقاء واحد من أفضل منظري الكيمياء التطورية على مستوى العالم «دين كينيون Dean Kenyon» –بروفيسور الفيزياء الحيوية– وعلى علم منهم بمدى جدية المعارضة التي سوف يتلقونها بسبب نشر كتابهم، والذي شارك في تأليف الدراسة الرائدة حول هذا موضوع الحتمية البيوكيميائية (أو حتمية الكيمياء الحيوية).
أراد «ثاكستون» نقاش «كينيون» حول مدى نزاهة ودقة النقد الموجه لكتابه «لغز نشأة الحياة»، إلا أن «ثاكستون» كان لديه محفزًا آخر وهو رغبته بأن يكتب «كينيون» مقدمة لكتابه، على الرغم من أن كتابه يحوي نقدًا لأطروحة نشأة الحياة لـ«كينيون»، والتي جعلت منه شهيرًا في هذا الحقل.
وللمرء أن يتخيل كيف لهذا الاجتماع أن يجري بسبب الخلاف بين الرجلين حول أطروحتيهما؛ إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث، فقد سرى الاجتماع على خير ما يرام، وقبل أن يعرض «ثاكستون» على «كينيون» رغبته، تطوع «كينيون» بكتابة المقدمة؛ حيث حكى له عن كونه يراجع أفكاره منذ فترة، وأنه بدأ يميل لرؤية «ثاكستون».
وكان كتاب «كينيون» «الحتمية البيوكيميائية» قد حقق أفضل مبيعات في هذا الموضوع، وقد أوضح فيه ما يمكن اعتباره في ذلك الوقت أفضل نموذج تطوري ممكن لكيفية تكون الخلية الحية الأولى في «الحساء البدائي»، وكان «كينيون» قد بدأ في مراجعة فرضياته في سبعينيات القرن الماضي.
فقد أوضحت بعض التجارب –والتي أجرى بعضها «كينيون» بنفسه– باطراد بأن المواد الكيميائية البسيطة –الأحماض الأمينية والقواعد النيتروجينية– لا يمكن لها أن تنظم نفسها في جزيئات قادرة على تخزين المعلومات، كالبروتينات والدنا بدون توجيه مسبق من قبل مراقبين بشريين.
«ثاكستون» و«برادلي» و«أولسن» أخذوا في اعتبارهم هذه الحقيقة عندما اشتغلوا على صياغة حجتهم، وقد وجد «كينيون» أن حجتهم قوية وتم بحثها بشكل جيد، حيث أشار في المقدمة التي كتبها بأن كتاب «لغز نشأة الحياة: تحليل استثنائي جديد لسؤال قديم».
وقد أصبح أفضل الكتب مبيعًا بين الكتب ذات المحتوى العلمي الجامعي المتقدم، والتي تختص في موضوع الكيمياء التطورية، وقد أطرى عليه علماء رواد ولامعون أمثال: «كينيون»، و«روبرت شابيرو Robert Shapiro»، و«روبرت جاسترو Robert Jastrow»، بالإضافة لمراجعات جيدة في مجلات علمية مرموقة[1] مثل «مجلة جامعة ييل للبيولوجيا والطب Yale Journal of Biology and Medicine»، وقد رفض البعض الكتاب بدعوى أنه يذهب إلى ما وراء العلم.
ما أثار الاهتمام في الأوساط العلمية في كتاب «لغز نشأة الحياة»، هو نقده لكل التفسيرات القائمة على النظرة المادية الخالصة لنشأة الحياة؛ حيث أشاروا بأن تجربة «يوري–ميلر» لم تحاكي الشروط البدائية التي سبقت تكون أي نوع من أنواع الحياة على الأرض بشكل واقعي.
وأن وجود الحساء الـ«ما قبل حيوي» ليس إلا خرافة؛ فالتحولات الكيميائية المفصلية في الحكاية التطورية لنشوء الحياة على الأرض كانت تخضع لتدخل هدام يدعى بالتفاعلات المتداخلة الهدامة[2]، بالإضافة إلى أنه لا يمكن للصدفة أو كمية الطاقة المتدفقة أن تعطي تفسيرًا للمعلومات المختزنة في المبلمرات الحيوية؛ كالبروتين والدنا.
قدم العلماء الثلاثة فرضية جديدة تنظر لهذه المسألة بشكل مغاير جذريًّا؛ فقد اقترحوا بأن الخواص التي تسمح بتخزين المعلومات لدى الدنا قد تشير لمسبب ذكي، وقد قاموا ببناء حجتهم على أطروحات «بولاني» وغيره، فحاججوا بأن علمي الفيزياء والكيمياء لا يستطيعان وحدهما إنتاج أو توليد المعلومات، وشبهوا ذلك بعدم قدرة الحبر والورق على إنتاج –أو تفسير– المعلومات التي يحتويها كتابٌ ما، وطرحوا حجتهم القائلة بأن خبرتنا المطردة تشير بأن المعلومات هي نتاج فعل مسبب ذكي. وأشار كتاب «لغز نشأة الحياة» إلى أن كون الاعتماد على المسبب الذكي يمكن اعتباره فرضية علمية بين العلوم التاريخية، وهو نمط من الحجاج العلمي الذي يختص بعلم الأصول.
وقد نجح الكتاب في إثارة الاهتمام بنظرية التصميم الذكي، وألهم جيلًا جديدًا من العلماء الشباب (مثل: دنتون، وكينيون، وبيهي، وميلز، وديمبسكي، وموريس، لونيش، وشيدلر، نيلسون، وموريس، وماير، وبرادلي)، ليواصلوا البحث والتحقيق في القضية التي تتساءل عن كون المظاهر المتجلية في المخلوقات الحية دالة على التصميم، أم أنه كما يدعي علماء أحياء الداروينية الجديدة ومنظري الكيمياء التطورية بأنها مجرد تمظهرات للتصميم وليس هناك عند التحقيق أي شكل من أشكال التصميم أي تصميم فعلي في جوهر وعمق هذه التمظهرات.
في الوقت الذي ظهر فيه الكتاب، كنت أعمل في حقل فيزياء الأرض في شركة «ريتشفيلد اتلانتيك Atlantic Richfield» في «دالاس»، والتي كان يعيش فيها «تشارلز ثاكستون»، وقد التقيته لاحقًا وأصبحت مفتونًا بالفكرة المختلفة جذريًّا التي طورها عن الدنا. وقد بدأت بالتردد على مكتبه بعد الانتهاء من العمل لنقاش حججه التي طرحها في كتابه. ولم أكن قد اقتنعت بفكرته بشكل تام. ثم بعد عام من هذا تركت عملي في حقل الفيزياء الجيولوجية، وبدأت مسيرتي في الحصول على شهادة الدكتوراه من «جامعة كامبريدج» في حقل تاريخ وفلسفة العلوم، وأثناء بحثي، قمت بالتحقيق في عدة قضايا نشأت من خلال نقاشاتي مع «ثاكستون»؛ ما الوسائل والطرق التي يتبعها العلماء لدراسة الأصول البيولوجية؟ هل هناك طريقة أو منهجية مميزة للبحث والتحقيق في مسائل العلوم تاريخيًّا؟ بعدما أكملت مرحلة الدكتوراة، بدأت المحاولة للإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن صياغة حجة «دلالة الدنا على وجود مصمم» بشكل علمي تاريخي صارم ودقيق؟
بين الأدلة المعاصرة والمسببات
خلال عملي على بحث الدكتوراه في «جامعة كامبريدج»، وجدت أن العلوم التي تعتمد في بحوثها على القرائن التاريخية[3] –كعلم الأرض، وعلم الأحافير، وعلم الآثار– تستخدم منهجيات وطرائق مميزة في تحقيق وبحث مسائلها، في حين أن جميع حقول العلم تنطوي على محاولة الكشف عن قوانين كونية، فإن العلوم التي تعتمد على القرائن التاريخية تحاول استنطاق الآثار الحاضرة للوصول لتفسيرات مرضية للمسببات التي وقعت في الماضي، فتعتبر الحاضر مفتاحًا للماضي.
يقول «ستيفن جولد»: إن العلوم التاريخية تحاول أن «تفسر الماضي من خلال نتائجه وآثاره»، زُرْ على سبيل المثال «متحف تيريل الملكي Royal Tyrrell» في مدينة «ألبرتا» في «كندا»، ستجد أن العلماء قاموا بتخيل قاع المحيطات في العصر الكامبري والمجموعات الحيوانية التي كانت تعيش في ذلك الوقت، ومن ثم تمثيله وإعادة بنائه وتركيبه بشكل مذهل.
يمكنك أيضًا قراءة الفصل الرابع من كتاب «سيمون كونواي موريس» عن أحافير « بيرجس شيل»[4] وسترى رحلة سياحية حية لهذا المكان المغرق في القِدَم، إلا أن ما فعله موريس والعلماء العاملين في المتحف هو إعادة بناء تخيلية للمواقع العتيقة لهذه المخلوقات الكامبرية بناءً على ما يمتلكونه من الأحافير في وقتنا الحاضر، بمعنى آخر قام علماء الأحافير باستنتاج أو رسم صورة للوضع الذي كان قائمًا في الماضي من خلال ما يتوفر لديهم من معطيات في الحاضر.
ولفهم هذا الأسلوب الخاص في الاستدلال، علينا الرجوع لأحد العلماء المعاصرين لـ«داروين»، وهو الموسوعي «ويليام هيل William Whewel» –أستاذ كلية ترينتي في كامبريدج– والمعروف بتأليفه لكتابين حول طبيعة العلم؛ الأول: «تاريخ العلوم الاستقرائية» في عام 1837، والثاني: «فلسفة العلوم الاستقرائية» في عام 1840.
فرّق «هيل» بين نوعين من العلوم الاستقرائية كالميكانيكا –أو الفيزياء– وما أسماه بالبيانتولوجي «Palaetiology» –وهي فرع من العلوم يهتم بدراسة أحداث وقعت في الماضي عن طريق الأسباب العلمية الحاضرة– وتتميز العلوم التي تندرج تحت هذا التصنيف بثلاث خواص:
1) لديها غاية معينة وهي تقرير أو تَفّحُص الشروط التي كانت تسري وفقها الأمور في القدم –أو المسببات التي أحدثت الوقائع موضع البحث في الماضي–.
2) تشرح أحداثًا أو وقائع حاضرة وتفسرها من خلال مسببات حدثت في الماضي، بدلًا من شرحها وتفسيرها من خلال قوانين عامة، (على الرغم من كون هذه القوانين تلعب أدوارًا مساعدة في بعض الأحيان).
3) لديها نمط خاص في الاستدلال يقوم على تفسير شروط الماضي من خلال "أثارها الواضحة" باستخدام تعميمات تربط الأدلة التي بين يدينا بمسبباتها الماضية.
الاستدلال بأفضل تفسير ممكن
هذا النوع من الاستدلال يقوم على استخدام أساليب استنباطية ومنطقية تتمثل بالاستدلال بدلائل أو وقائع أو حقائق حاضرة لتفسير أحداث غير مرئية وقعت في الماضي، ويمكن تسميته بـ«الاستدلال الاحتمالي»، وأول من وصف هذا النمط من الاستدلال هو الفيلسوف الأمريكي والمنطقي «تشارلز پيرس C. S. Peirce»؛ فقد لاحظ الاختلاف الذي يميز هذا النمط من الاستدلال عن غيره من أنواع الاستدلال كالاستقرائي؛ حيث تكون فيه النظرية أو القانون العام هو أحد مخرجات ملاحظات متكررة لنفس الظاهرة؛ أيضًا يختلف عن الاستدلال الاستنباطي، الذي يتم فيه استخراج حقيقة معينة بواسطة تطبيق قانون عام أو اتباع حقيقة أو حجة معينة.
يمكن فهم إشكالية الاستدلال الاحتمالي من خلال ما عرضه «بيرس»، والمتمثل بالقياس التالي:
- لو أمطرت، فستبتل الشوارع.
- الشوارع مبتلة.
- بالتالي، هذا يعني أنها قد أمطرت.
ويتضح لنا في القياس أعلاه استنتاج وضع كان قائمًا في الماضي –الشوارع مبتلة– من خلال معطيات في الحاضر، إلا أن هذا الاستنتاج يقع في مغالطة منطقية وهي المغالطة المعروفة باسم الاحتكام إلى النتائج؛ فكون الشارع مبتلًا بدون اعتبار أدلة أخرى تساعد في اتخاذ القرار حول هذه القضية، لا يكون في وسع المرء سوى أن يستنتج أن كونها أمطرت ليس سوى استنتاج محتمل؛ فيقول: من المحتمل أن تكون قد أمطرت، وذلك بسبب وجود عدة احتمالات أخرى من الممكن أن تكون قد تسببت في تبلل الشوارع.
فمن الممكن أن يكون السبب عائدًا للمطر، إلا أنه من الممكن أيضًا أن تتسبب آلة غسيل الشوارع بهذا البلل، أو انفتاح صنبور إطفاء الحريق مثلًا، ولهذا فإن إمكان الاستدلال بوقائع الحاضر ومعطياته على الماضي تتخللها بعض الصعوبة بسبب الاحتمالات الكثيرة التي قد تكون تسبب في إيصال الوضع إلى ما هو عليه.
وكان تساؤل «بيرس» الرئيسي عن استخدامنا المتكرر لهذا النوع من الاستدلال رغم كونه محفوفًا بمغالطة الاحتكام إلى النتائج؛ وضرب مثلًا بحقيقة وجود «نابليون» غير قابلة للجدال، ومع ذلك فنحن نستخدم الاستدلال الاحتمالي للاستدلال على وجوده، وبذلك لا بد لنا من الاستدلال على حقيقة وجوده في الماضي من خلال آثاره الماثلة في الحاضر.
ورغم استخدامنا للاستدلال الاحتمالي وما يعتريه من عدم موثوقية، فإنه لا يوجد عاقل يشكك في وجوده، وأوضح هذا «بيرس» بقوله: "على الرغم من عدم قدرتنا على رؤية نابليون، إلا أننا لا نستطيع تفسير ما شهدناه من آثاره بدون افتراض وجوده".
وتوضح مقولة «بيرس» أن فرضية احتمالية معينة تزداد قوتها إذا كانت قادرة على شرح النتيجة بطريقة لا تمتلكها غيرها من الفرضيات المحتملة الأخرى، وبالممارسة يتكشف لنا أن هذا مُعَلل وقابل للتصديق إذا ما فسرت هذه الفرضية ما يقدر عليه غيرها، وبعبارة أخرى، يمكن تحسين «زيادة مقبوليته المنطقية» الاستدلال الاحتمالي لو أمكن تقديمه في صورة تجعل منه أفضل وأنسب تفسير ممكن للآثار الحاضرة. وكما أشار «بيرس»، فإن للإشكالية الكامنة في هذا النوع من الاستدلال هي أنه دائمًا هناك أكثر من طريقة يمكن من خلالها تفسير نفس الحدث؛ فقد قام «توماس تشمبرلين Thomas Chamberlain» بتطوير منهجية استدلالية تدعى «منهجية الفرضيات المتعددة المحتملة»، فعلماء الأرض وعلماء العلوم التاريخية الآخرون يستخدمون هذه المنهجية عندما يوجد أكثر من مسبب ممكن أو فرضية تُفسر نفس الحدث.
وما يفعله العلماء هنا هو وضع الأدلة في الميزان ومقارنتها بحذر لتحديد أفضل تفسير، ويسمى فلاسفة العلوم المعاصرين هذه الطريقة بـ«الاستدلال بأفضل تفسير ممكن»، وعليه فإنه عند محاولة تفسير أصل حادثة أو منظومة كانت قائمة في الماضي، فإن علماء العلوم التاريخية يقارنون الفرضيات المختلفة ليبحثوا عن أفضل تفسير ممكن لها لو كانت هذه الفرضية صحيحة.
ولذلك فإنهم يقومون بالتأكيد وبشكل مؤقت على أن هذه الفرضية هي أفضل تفسير ممكن للمعطيات المتاحة والأكثر رجوحًا.
الأسباب العاملة في الوقت الحاضر
ولكن مما يتشكل أفضل تفسير ممكن بالنسبة للعلوم التاريخية؟
أظهرت أبحاثي أن الرأي السائد بين علماء العلوم التاريخية أن «الأفضل» لا يعني «التفسير المرضي أيدولوجيًا» –أي الذي يتفق مع أيدولوجية الباحث– أو «التفسير الشائع»؛ بل هو أولًا وقبل كل شيء «التفسير ذو الكفاءة التعليلية»، ولذلك فإن علماء العلوم التاريخية يحاولون مع تحديد المسببات التي تنتج الأثر المطلوب الذي هم بصدد بحثه.
ووفقًا لذلك، فإن العلماء هنا يُقَيِّمون الفرضيات من خلال معرفتهم المسبقة بالأثر وسببه؛ فالمسببات التي تنتج الأثر المطلوب تعتبر أفضل تفسيريًّا من غيرها؛ فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار الثوران البركاني تفسيرًا أفضل لطبقات الرماد البركاني الموجودة في طبقات الأرض من الهزات الأرضية، وذلك لأننا نعلم مسبقًا أن الثوران البركاني ينتج طبقات رمادية، بينما الهزات الأرضية لا تفعل ذلك.
ومن هنا فإننا لابد لنا من الحديث عن الجيولوجي «تشارلز لايل»، والذي كان له أثر كبير على العلوم التاريخية في القرن التاسع عشر وعلى «داروين» خاصةً، فقد قرأ «داروين» أعظم ما كتبه «تشارلز»، كتاب «مبادئ علوم الأرض»، في رحلته المشهورة على سفينة «البيغل»، ومن ثم تبنى مبدأ النسقية[5] واستخدمه ليحاجج بأن عمليات التغير التي نلاحظها، والتي تحدث بواسطة التطور الصغير يمكنها أن تُفسِّر أشكالًا جديدة من الحياة.
وكلمة «المبادئ» في عنوان كتاب «تشارلز» تلخص الفكرة المنهجية الرئيسية عند هذا الجيولوجي: "محاولة تفسير التغيرات الماضية في سطح الأرض، من خلال الرجوع إلى المُعَلِلات أو الأسباب التي يُعمل بها الآن"، ومن هنا فقد حاجج «لايل» بأن علماء العلوم التاريخية في سعيهم لتفسير الأحداث في الماضي، لا ينبغي عليهم اتباع مُعَلِلات أو أسباب غريبة وشاذة، والآثار الناتجة عما لا نعلمه، ولكننا بدلًا من ذلك يجب علينا نستشهد بالأسباب المعلومة والتي اكتسبناها من خلال خبراتنا المطردة، والتي يمكن لها أن تنتج الأثر المطلوب –محل البحث–.
وقد شارك «داروين» «لايل» في هذه المنهجية، فالمصطلح الذي استخدمه للتعبير عن «السبب المؤثر حاليًا» كان «فيرا كوزا vera causa»، والذي يعني السبب الحقيقي والفعلي، ووفقًا لذلك، حاول «داروين» إثبات كون عملية التوارث مع وجود بعد التعديلات الوراثية في الأجيال اللاحقة كانت السبب الحقيقي لكثير من الأنماط المختلفة، وتم رصدها بشكل مؤكد بين المخلوقات الحية.
فقد لاحظ داروين أن هناك صفات مشتركة بين مختلف الكائنات الحية. وسمى هذا بـ«التماثلات»[6]، وأشار إلى أننا نعرف من خلال خبراتنا بأنه رغم اختلاف الأحفاد عن أجدادهم فإنهم يتشابهون في جوانب متعددة، وعادةً فإن هذا التشابه يكون أكثر تجليًا في الأحفاد الأقرب زمنيًّا لأجدادهم. وعليه فإنه قدم مفهوم وراثة الخصائص المكتسبة كسبب حقيقي فعلي لهذه التطابقات المتجلية في منظومات الكائنات الحية.
وبناءً عليه، حاجج «داروين» أن خبرتنا المطردة تثبت بأن عملية وراثة الخصائص المكتسبة من سلف مشترك تمتاز بـ«الكفاءة التفسيرية» وتمتلك القدرة على توليد هذه الصفات المتطابقة والمتماثلة بين المخلوقات الحية.
ثم كان هنالك شيء واحد
يتفق فلاسفة العلم المعاصرون على أن الكفاءة التفسيرية هي الوسيلة الأفضل في الفصل بين الفرضيات المتنافسة، إلا أنهم لاحظوا أن هذه المنهجية تؤدي إلى استنتاج موثوق وسليم في حالة واحدة فقط، وهي إذا أمكن عرض الاستنتاج على أنه التعليل الوحيد المعروف للمُعَلَّل، وأشار فيلسوفا العلم «مايكل سكريفين Michael Scriven» و«إليوت سوبر Elliot Sober»، أشاروا إلى أن علماء العلوم التاريخية يمكنهم الوصول إلى استنتاجات موثوقة عن الماضي عندما يكتشفون الأدلة أو الآثار التي لا يمكن إلا تكون نتيجة لمسبب معلوم واحد.
يؤدي هذا إلى أن عملية تحديد أفضل تفسير تتضمن توليد مجموعة من الفرضيات؛ ومن ثم المقارنة بينها، ولذلك فإن علماء العلوم التاريخية عندما يستدلون بأكثر الأسباب فرادةً ومعقولية بين قريناتها من الأسباب المفترضة، يتجنبون بذلك مغالطة الاحتكام إلى النتائج، وخطأ تجاهل الأسباب المحتملة الأخرى، والتي قد تؤدي إلى نفس الأثر.
وهذا يعني أن عملية تحديد التفسير الأفضل تتضمن عمل قائمة بالفرضيات المحتملة، ومن ثم مقارنة قوة أسبابها المعروفة أو المقترحة نظريًّا بالاستناد إلى البيانات ذات الصلة بموضوع البحث والتقييم، ويتبع هذا عملية حذف تدريجي للفرضيات الممكنة والمحتملة، ولكنها أقل كفاءة إلى أن يصل بنا المطاف إلى السبب الأكثر عِلِّيَة والذي يتم اعتباره على أنه التفسير الأفضل.
ويضيف «سكريفين»، بأن عملية الاستدلال الاحتمالي؛ أو كما يسميها «عملية التحليل وإعادة الانتقاء للأسباب الأكثر احتمالية»، إذا تمت بهذه الطريقة فإنها ستتفادى القيود أو الحدود المنطقية للاستدلال الاحتمالي.
وكما لاحظ «بيرس» فإن مغالطة الاحتكام إلى النتائج يمكن أن تصاغ على طريقة المنطق الصوري في شكل مقدمتين ونتيجة:
- إذا كانت «س»، تؤدي إلى «ص».
- «ص» وقعت.
- بالتالي، «س» صادقة.
وقد لاحظ كل من «مايكل سكريفين»، و«إليوت سوبر»، و«وليام ألستون W. P. Alston»، و«والتر برايس جالي W. B. Gallie»؛ أنه يمكن إعادة صياغة هذا النوع من الاستدلالات بطريقة تجعل منه أكثر قبولًا منطقيًّا، بحيث نجعل من «ص» المسبب الوحيد المعروف لـ«س»، أو بجعل «س» شرط ضروري ولازم لوقوع «ص»، كما يلي:
- «س» شرط ضروري سابق لوجود «ص».
- «ص» وُجِدَت.
- بالتالي، لابد من أن «س» موجودة أيضًا.
تحظى هذه الصياغة أعلاه لهذا النوع من الاستدلالات –الاستدلال الاحتمالي– بالصلاحية المنطقية عند الفلاسفة، والمقبولية عند علماء التاريخ وعلماء الطب الشرعي.
وقد أكد «سكريفين» بشكل خاص على هذه النقطة: إذا أتيح للعلماء اكتشاف أثر لا وجود إلا لمسبب وحيد ممكن له، فإن باستطاعتهم الاستدلال على حتمية وجوده أو فاعليته في الماضي بكل ثقة؛ على سبيل المثال، يعرف علماء الآثار أن القدرة البشرية على الكتابة هي السبب الوحيد المعلوم للنقوش اللغوية، وبالتالي فلا بد لهم من استنتاج وجود نشاط الكتابة عند اكتشافهم لألواح تحتوي على كتابات قديمة.
ومما لا شك فيه أن كثيرًا من الحالات تتطلب من الباحث أن يسعى بدقة وحذر شديدين لإيجاد العلة أو السبب الوحيد الممكن، مثلًا: فإن انكسار الرياح أو ما يسمى بالرياح القصية أو عطب حاصل في الشفرات الخاصة بكمبروسرات الطائرة قد تفسر حادثة تحطم طائرة، إلا أن المحققين سوف يبحثون في أيهما كان السبب الفعلي، أو أن السبب الحقيقي يتخفى في مكان آخر. في الوضع المثالي، سوف يكتشف المحقق دليلًا مفصليًّا واحدًا أو مجموعة من الأدلة تسمح له بالتمييز بينها واستبعاد التفسيرات غير المناسبة حتى يبقى تفسير واحد صحيح.
ومن خلال دراستي علماء العلوم التاريخية وجدت أنهم يتشابهون مع المحققين وعلماء الطب الشرعي، فهم يتبعون للوصول إلى التفسير الأفضل[7]، في الحقيقة، فإن «داروين» نفسه قد قام بتوظيف هذه المنهجية في كتابه «أصل الأنواع»، فها هو يحاجج عن نظريته في السلف المشترك ليس لكونها قادرة على التنبؤ بمخرجات.
وجدت من خلال دراستي للمناهج المتبعة في العلوم التاريخية أن علماء التاريخ يشبهون المحققين والجنائيين، فهم يستخدمون منهجية التعليل بالاحتمال والإقصاء ذاتها في محاولاتهم لحل القضية والوصول للتفسير الأفضل.
لقد وظف «داروين» هذه الطريقة في كتابه المعروف أصل الأنواع، فاستخدمها مدافعًا عن نظريته المعروفة حول السلف المشترك؛ ليس لقدرته على التنبؤ بأحداث أو مخرجات مستقبلية يتم إخضاعها للتجارب بشروط مضبوطة، ولكن لكونه قادرًا على تفسير حقائق معروفة بشكل أفضل من الفرضيات الأخرى المنافسة؛ يكتب داروين في رسالته لـ«آسا جراي»: "لقد أخضعت فرضيتي المتمثلة بالسلف المشترك للأحياء للاختبار بمقارنتها مع أفضل ما وجدته من الفرضيات الراسخة المقترحة –في التوزيع الجغرافي، والتاريخ الجيولوجي، والتشابهات... إلخ– فهب أن فرضيةً كهذه تقوم على شرح وإيضاح أطروحات عامة مماثلة، فإن العلم يُوجب علينا بأن نتبع ونقر بأفضليتها وتفوقها على غيرها من الفرضيات إلى حين إيجاد أخرى أفضل".
تصميم الدنا: تطوير الحجة من خلال المعلومات
ما علاقة هذا البحث التاريخي في مناهج الاستدلال العلمي بالتصميم الذكي، والمعلومات البيولوجية، ولغز نشأة الحياة؟
بالنسبة لي، فإنه من المهم للغاية تحديد ما إذا كانت فرضية التصميم يمكن صياغتها بشكل علمي دقيق بدلًا من كونها مجرد حدس مثير للاهتمام، فأنا أعلم من دراستي لأبحاث نشأة الحياة أن أول سؤال مركزي يحاول العلماء تفسير أول شكل من أشكال الحياة هو سؤال مركزي يواجهه العلماء في تفسير نشأة الحياة الأولى؛ هو: كيف تم الترتيب أو التسلسل المحدد للمعلومات الرقمية المختزنة في كل من الدنا والرنا الضروريين لبناء أول خلية؟ وقد عبر عن هذا العالم «بيرند أولاف كوبَس Bernd–Olaf Küppers»: "إن إشكالية نشأة الحياة هي بشكل واضح وأساسي المكافئ لإشكالية أصل المعلومات الحيوية".
وقد قادتني دراساتي لمناهج علماء العلوم التاريخية إلى السؤال التالي: ما السبب الحقيقي والفعلي لأصل المعلومات الرقمية في الدنا والرنا؟ أو ما «السبب الفاعل حاليًا» الذي يمكن له أن يُحدِث مثل هذا الأثر؟ وبناءً على خبرتي المطردة ومعرفتي بمحاولات مختلفة حاولت حل هذه الإشكالية عن طريق إجراء تجارب محاكاة حيوية غير موجهة أو باستخدام المحاكاة الحاسوبية، خَلُصت إلى أنه لا يوجد إلا سبب واحد كافٍ وفاعل حاليًا/ في الوقت الحاضر لمثل هذه المعلومات ذات الوظائف المتخصصة؛ وهو الذكاء.
وبعبارة أخرى، فقد توصلت من خلال فهمنا القائم على التجربة لبنية علاقة السبب والأثر –أو العلة والمعلول– في هذا العالم، إلى أن التصميم الذكي هو التفسير الأفضل للمعلومات الضرورية لبناء أول خلية. ومما يدعوا للسخرية، هو اكتشافي أن تطبيق مبدأ «لايل» في النسقية –وهو ما يعيبه ويدحضه الخلقيون القائلون بِقِصَرِ عمر الأرض– على مسألة أصل المعلومات الحيوية، فإن الأدلة من عِلْم الأحياء الجزيئي تدعم وتعضد نظرية الحجة العلمية شديدة الدقة الجديدة للتصميم.
[1] إضافةً إلى تلقيه جائزة من «مجلة تدريس العلوم الجامعية Journal of College Science Teaching»، واعتنى به «كلاوس دوس Klaus Dose» فكتب عنه مراجعة رئيسية في مجلة «مراجعات العلوم متعددة الاختصاصات Interdisciplinary Science Reviews» بعنوان: "نشأة الحياة: الأسئلة أكثر من الأجوبة".
[2] وهي تفاعلات تحول دون اكتمال سلسلة التفاعلات العضوية الضرورية لتكوين الجزيئات الحيوية الأساسية للحياة، أي تحول دون عملية البلمرة وإطالة السلسلة الجزيئية.
[3] واصطلاحًا يمكن تسميتها بالعلوم التاريخية Historical Sciences في هذا البحث.
[4] وهي أحافير تحمل رواسب وآثار لأجسام متحللة لمخلوقات تعود للعصر الكامبري وتوجد في «كندا» و«بريطانيا».
[5] وهو مبدأ يرمي إلى اطراد النظام السببي والقوانين الطبيعية في الكون.
[6] والمعنى هو التشابه والتطابق الظاهر بين المخلوقات الحية.
[7] طور «جيان كابريتي Gian Capretti» استدلال «بيرسين» الاحتمالي، وعرض «جيان» وآخرون هذا النوع من الاستدلال من خلال سلسلة قصص «السير آرثر كونان دويل Arthur Conan Doyle»، عن المحقق «شارلوك هولمز». وعزى «كابريتي» نجاح أسلوب استدلال «هولمز» الاحتمالي لإجادة استخدام منهجية الحذف التدريجي للفرضيات الممكنة والأقل قدرة وكفاءة تفسيرية من غيرها.