التطور في طبق بتري
تحدثنا مسبقا عن الأصل القديم للمقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية، وإن كل الأدلة تشير إلي أن البكتيريا تملك مقاومة لأغلب المضادات الحيوية المستخدمة في الأغراض العلاجية قبل التعرض لها بآلاف -وربما ملايين- السنين، ويبدو أن المنطق وراء ذلك بسيط، فإذا لم تمتلك البكتيريا منذ البداية تلك المقاومة لكان مصيرها الفناء. حيث أن المضادات الحيوية التي تنتجها شركات الأدوية ويستخدمها الأطباء في علاج الأمراض المعدية هي في الأصل مواد كيميائية تفرزها البكتيريا في الطبيعة.
لا جدال أن هناك بعض السلالات البكتيرية التي كانت معروفة مسبقا بحساسيتها للمضادات البكتيرية أصبحت الآن منيعة ضد العديد من الأنواع المختلفة من المضادات الحيوية، لقد تسببت تلك الزيادة في نسبة الأنواع المقاومة في أزمة علاجية بل كابوس للأطباء. فسبب الانتشار السريع للمقاومة يرجع للانتقال الأفقي للجينات بين السلالات والأنواع المختلفة، وهو ما يتيح لبكتيريا غير مقاومة في الأساس أن تكتسب مقاومة أو مقاومات للمضادات الحيوية.
في بعض الحالات قد تتسبب الطفرات في اكتساب البكتيريا مقاومة جديدة لمضاد حيوي، ولكن كما سنرى في الفقرات القادمة فإن في هذا الموضع استخدام "فقدان الحساسية" أنسب وأكثر مقاربة للحقيقة من "اكتساب مقاومة". لقد تطورت البكتيريا بآليات مشابهة لتلك التي ناقشناها في تجربة لينسكي، بمعني أن البكتيريا لم تكتسب صفة أو وظيفة جديدة، بل فقدت بعض الوظائف الموجودة مسبقا، فكل الآليات الموثقة علي المستوى الجزيئي لاكتساب المقاومة عن طريق الطفرات تتضمن تعطيل تعبير جين، أو الإخلال بمعدل التعبير عنه، أو إفساد عمل إنزيم، أو تغير شكل إنزيم بحيث يفقد الألفة (Binding Affinity) للمضاد الحيوي، مما يعني أننا في كل مرة نفقد أو نعدل وظيفة كانت موجودة بالفعل، ولا يوجد إضافة فعلية لأي وظيفة جديدة.
يقوم مثلا المضاد الحيوي (سيبروفلوكسلاين ciprofloxacin) بعمله عن طريق استهداف إنزيم يعرف باسم إنزيم جيراز Gyrase، وهو إنزيم ضروري للبكتيريا حتي تستطيع أن تتكاثر وتنسخ الدنا الخاص بها، يتكون الإنزيم من بروتينين إثنين يشفرهما جينين (gyrA, gyrB). بفحص تلك الجينات وُجد أن المقاومة ضد السيبروفلوكساسين تنتج بسبب حدوث طفرات نقطية (Point mutation) لتلك الجينات، وبسبب تلك الطفرات يتغير شكل البروتينين المكونين للإنزيم ويفقده ألفته الكيميائية (Binding affinity) للمضاد الحيوي ولا يتفاعل معه. يمكن تشبيه تلك العملية بالقفل والمفتاح، فلكي يعمل المفتاح ويفك القفل يجب أن يكون كل من شكلي القفل والمفتاح مناسبين لبعضهما، بحيث يدخل المفتاح في القفل ويفكه، ولكن إن حدث تشوه في شكل القفل عن طريق كسره مثلا فلن يعمل المفتاح، عملية كسر أو تشويه القفل (الطفرة) تفسر لنا لماذا لم يعد المفتاح (المضاد الحيوي) يعمل، ولكن لا توضح لنا أي شيء عن نشأته في المقام الأول. وبالتالي تلك الطفرة رغم كونها مفيدة للبكتيريا بحمايتها لها من المضاد الحيوية، ولكنها تفسر فقط فقدان الألفة الكيميائية ولا تفسر نشأتها من البداية، وبالتالي فلا علاقة لها بالتطور الدارويني.(1)
مثال آخر هو المقاومة ضد الستربتوميسين streptomycin، يعمل الستربتوميسين عن طريق تعطيل قدرة الخلية علي تصنيع البروتين وذلك بإفساد مصانع البروتين في الخلية وهي الريبوسومات ribosomes، ونتيجة بعض الطفرات التي تغير من تركيب الريبوسوم، يفقد الريبوسوم قدرته علي تكوين روابط كيميائية مع المضاد الحيوي ويصبح في مأمن منه، ولكن تلك الطفرة تفسر لنا فقط كيف فقد الريبوسوم قدرته علي التفاعل مع الستربتوميسين، ولا يفسر لنا وجود تلك الألفة الكيميائية منذ البداية كما هو الحال في مثال السيبروفلوكساسين.(2)
البكتيريا الإشريكية القولونية E. coli في الظروف الطبيعية تمتلك مضخات تستخدمها في طرد المضادات الحيوية خارج الخلية وتقليل تركيزها تحت الحد القاتل، وبسبب تلك المضخات تستطيع البكتيريا الإشريكية مقاومة أنواع متعددة من المضادات الحيوية في آن واحد (mulitiple-drug-resistance)، ويخضع تصنيع البكتيريا لتلك المضخات لتأثير البروتين المنظم MarR الذي يمنع بناءها، ولذلك فإن الطفرات التي تقلل أو تلغي القوة الكابحة لذلك البروتين لتصنيع المضخات، تزيد من معدل تصنيع المضخات، مما يزيد من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. يحدث ذلك التأثير نتيجة إفساد عمل بروتين منظم، وليس نتيجة اكتساب وظيفة جديدة.(3)
نختم بالمضاد الحيوي الذي يستخدم في منع البكتيريا من تصنيع الدنا الخاص بها اللازم لتضاعف الخلية؛ وهو الميترونيدازول metronidazole. يدخل ذلك المضاد الحيوي للخلية في صورة خاملة ويعتمد في تنشطيه علي إنزيم تصنعه البكتيريا حتى يستطيع أداء وظيفته، يقوم ذلك الإنزيم NADPH nitroreductase بتحويل المضاد الحيوي من الحالة الخاملة للحالة النشطة، وبدونه لا يملك أي تأثير علي البكتيريا. إذن فوجود الأنزيم في البكتيريا شرط أساسي حتي يقوم المضاد الحيوي بعمله وهو ما يميزه عن الكثير من المضادات الحيوية، حيث يستطيع أن يستهدف الخلايا البكتيرية دون أن يمس الخلايا البشرية، ويحكم ذلك الإنزيم جين rdxA، وقد وجد أن الإنزيم قد يفقد نشاطة الحفزي إذا تعرض لطفرات حذف أو طفرات مغلطة Missense mutations. نتيجة فقدان الإنزيم قدرته علي اختزال الميترونيدازول فإنه يظل خاملا وبلا تأثير علي البكتيريا، مما يعني اكتساب البكتيريا مقاومة جديدة ضده، ولكن السبب في تلك المقاومة ليس اكتساب معلومات ووظائف جديدة ولكن مجددا نتيجة فقدان وظيفة كانت موجود سلفا.(4)
يتضح بعد تلك الأمثلة أن الطفرات رغم كونها مفيدة من الناحية الظاهرية إلا أنها ليست كذلك. إذا فحصنا جوهر تلك التغييرات، ففي كل الأمثلة نجد الطفرات مسؤولة عن فقدان أجهزة وآلات بيولوجية موجودة سلفًا في الخلية البكتيرية، فينحصر دور الطفرات في إيقاف عمل جين، أو تعطيل العناصر المنظمة لتعبير جين، أو فقدان إنزيم لنشاطه الكيميائي، وهو دور لا يشبه الدور الخلاق الذي يرسمه التطوريون للطفرات في عملية التطور. ولكن تلك ليست المشكلة الوحيدة، ففي حين ساعدت الطفرات البكتيريا علي الصمود أمام المضادات الحيوية والبقاء حية إلا أن ذلك كان بمقابل ثمن دفعته البكتيريا.
(1) Barnard, F. M., & Maxwell, A. (2001). Interaction between DNA Gyrase and Quinolones: Effects of Alanine Mutations at GyrA Subunit Residues Ser83 and Asp87. Antimicrobial Agents and Chemotherapy, 45(7), 1994-2000. doi:10.1128/aac.45.7.1994-2000.2001
(2) Leclerc, D., Melancon, P., & Brakier-Gingras, L. (1991). Mutations in the 915 region of Escherichia coli16S ribosomal RNA reduce the binding of streptomycin to the ribosome. Nucleic Acids Research, 19(14), 3973-3977. doi:10.1093/nar/19.14.3973
(3) Oethinger, M., Podglajen, I., Kern, W. V., & Levy, S. B. (1998). Overexpression of the marA or soxS Regulatory Gene in Clinical Topoisomerase Mutants of Escherichia coli. Antimicrobial Agents and Chemotherapy, 42(8), 2089–2094.
(4) Tankovic, J., D. Lamarque, J.-C. Delchier, C.-J. Soussy, A. Labigne, and P.J. Jenks. 2000. Frequent association between alteration of the rdxA gene and metronidazole resistance in French and North African isolates Helicobacter pylori. Antimicrobial Agents and Chemotherapy 44:608-613.