يؤرخ عام 1929 لبداية عصر المضادات الحيوية، عندما اكتشف (ألكسندر فليمنج Alexander Fleming) أول مضاد حيوي المعروف باسم (البنسلين)، والذي انضم إليه في عام 1935 (السلفوناميد Sulfonamide). اعتبرت تلك المواد الكيمائية أعجوبة عصرها، حيث ثبتت فاعليتها في علاج العديد من الأمراض القاتلة. ولكن بالرغم من ذلك، لم تكن فعاليتها كافية لعلاج مرض (الدرن Tuberculosis). ولكن الاكتشافات لم تقف عند ذلك الحد، بل توالت تباعا، وكان أكثرها تأثيرًا هو اكتشاف (الستربتوميسين Streptomycin)، الذي كان طفرة في علاج الدرن.
استمرت سلسلة اكتشافات المضادات الحيوية، وقد كانت في بداية استخدامها فعالة لدرجة كبيرة، وكان نتيجة ذلك سيطرة جو من التفاؤل علي الأوساط الطبية. بلغ بهم أن اعتقدو أنه آن الأوان لطي كتاب الأمراض المعدية، وإعلان انتصار البشر علي الأوبئة، ولكن النتائج التجريبية اللاحقة جاءت مخيبة لتلك الآمال.
من المؤسف أن العصر الذهبي للمضادات الحيوية لم يدم طويلا، ولم تتحقق الآمال العريضة التي علقناها عليها. ففي خلال فترة وجيزة ظهر عدد لا يستهان به من السلالات البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية، وتحول ذلك التفاؤل الذي ساد الأوساط الطبية في ستينيات القرن الماضي إلي كابوس. في عام 2004 نشر (د. توم فريدن Thomas R. Frieden) المدير السابق لمركز مكافحة العدوي الأمريكي CDC مقالا بعنوان "نهاية المضادات الحيوية، هل نستطيع العودة من علي الحافة؟"(1) يعكس ذلك المقال الإحباط الذي أصاب الأطباء بعد ظهور البكتيريا المقاومة، يقتبس د.توم في مقاله من كلام (د. مارجريت تشان Margaret Chan) مديرة منظمة الصحة العالمية سابقا: "نهاية عصر المضادات الحيوية يعني، بشكل عملي، نهاية الطب الحديث كما نعرفه".
في عام 1960 كان البنسلين أو الأمبيسلين كافيا لعلاج معظم حالات مرض السيلان الذي تسببت به البكتيريا النسيسيرة البنية Neisseria Gonerrhoeae، ولكن اليوم حوالي 24٪ من الحالات في الولايات المتحدة لا تستجيب للعلاج بالبنسلين أو الأمبيسلين، وترتفع تلك النسبة لتصل إلي 98٪ في منطقة جنوب شرق آسيا. ارتفعت كذلك نسبة مقاومة عقار البنسلين في المكورات العنقودية الذهبية Staphylococcus aureus من لاشيء تقريبا عام ١٩٤٠، لتصل إلي 90٪ في عام 1980. ذلك الارتفاع المرعب يجعل من علاج الأمراض التي تسببها تلك البكتيريا أصعب بكثير من علاجها منذ عشر أو عشرين سنة مضت.
علي مدار 90 عام، لم تنقطع اكتشافات وتصنيع مضادات حيوية جديدة، ومع كل اكتشاف كانت التطبيقات العلاجية تحقق نجاحا باهرا في البداية ثم لا تلبث أن تبوء بالفشل بسبب ظهور أنواع مقاومة وانتشارها، فسر التطوريون ذلك التاريخ الذي يوثق العلاقة بين استخدام المضادات الحيوية وظهور السلالات المقاومة علي أنه تطور دارويني للبكتيريا، فقد تطورت البكتيريا عن طريق الطفرات –تحت ضغط انتقائي فرضه استخدام المضادات الحيوي– لتصبح مقاومة. تحول سلالات البكتيريا الحساسة مسبقا للمضادات الحيوية إلي سلالات مقاومة لها يعتبر في نظر الداروينيين دليل دامغ على صحة التطور، ولكن هل كان التطور الدارويني عن طريق الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي هو السبب الحقيقي وراء تلك الأزمة العلاجية؟ أم أن السبب مختلف تماما؟
تابعونا…
(1) Tom Frieden, The End of Antibiotics. Can We Come Back from the Brink?, The Health Care Blog (May 5, 2014), Last Accessed Jan 10, 2018.
http://thehealthcareblog.com/blog/2014/05/05/the-end-of-antibiotics-can-we-come-back-from-the-brink/