حدود قدرة الطفرات
لمحاولة الوصول لإجابة عن حدود قدرة الطفرات ليس هناك أفضل من تجربة (ريتشارد لينسكي Richard Lenski) عالم البيولوجيا التطورية بجامعة ميتشجان الأمريكية. بدأ لينسكي تلك التجربة الطويلة –التي لازالت مستمرة منذ عام 1988 وحتى الآن– للإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالتطور، ولفهم طبيعة التطور وآليات عمله. بدأت التجربة باثنتي عشرة سلالة متطابقة من بكتيريا الإشريكية القولونية Escherichia coli، حيث سُمح لها بالتكاثر بمعدل 6-7 أجيال في اليوم الواحد، ليصل عدد أجيال البكتيريا في عام 2016 إلى 66 ألف جيل بعد مرور ما يقرب من 30 عام، وأثناء نمو وتكاثر البكتيريا كانت تؤخذ عينات كل 500 جيل ويتم حفظها تحت ظروف خاصة حتى تكون سجل محفوظ لتطور البكتيريا.
تجربة استثنائية، وعدد هائل من الأجيال والخلايا البكتيرية؛ سمحت لنا بمراقبة عملية التطور عن قرب. ولكي تدرك الصورة، فعليك معرفة أن عدد الأجيال البكتيرية هذه تساوي تقريبا مليون عام في عمرنا نحن البشر.
جاءت نتائج تلك التجربة مرضية للكثير من التطوريين، فقد رُصدت تغيرات في الأجيال الحديثة جعلت منها أكثر كفاءة وتكيف مع البيئة التي نشأت فيها في المعمل، لقد زادت في الحجم وزادت معدلات نموها بمرور الوقت عن طريق الطفرات والانتقاء الطبيعي فقط. بفضل السجل الذي صنعه لينسكي ومساعديه، أصبح من الممكن رصد تلك الزيادة في التكيف لدى الأجيال الحديثة عن طريق وضع الأجيال الحديثة مع أسلافها في منافسة في بيئة واحدة، وكانت الغلبة للأجيال الحديثة مما يعني أنها تطورت لتصبح أكثر تكيفا مع البيئة.
لقد رُصدت العديد من التغيرات في الأجيال البكتيرية ونشر بذلك عدد كبير من الأوراق العلمية، ولكن ربما تلك التغيرات التي زادت من لياقة وتكيف البكتيريا لم تكن علي ذلك القدر من الأهمية التي يروج لها التطوريون، ربما الحدث الذي أثار أكبر ضجة في تلك التجربة هو تطور قدرة البكتيريا على استخدام حمض السيتريك Citrate، والذي اعتبره البعض ظهور لنوع جديد من البكتيريا.
أحد مميزات البكتيريا الإشريكية أنها لا تستطيع أن تستخدم حمض الستريك ولا الحصول عليه من البيئة المحيطة بها تحت الظروف الهوائية المؤكسدة aerobic conditions، ولكن بعد مرور 30 ألف جيل بتجربة لينسكي تطورت البكتيريا واكتسبت وظيفة جديدة، أي معلومات جديدة؛ وهي القدرة على استخدام حمض السيتريك، والاعتماد عليه كمصدر كربوني تحت الظروف المؤكسدة. تم نشر ورقة بالنتائج تلك، وكان ذلك التغير التكيفي من الأدلة علي التطور.
ما الذي طرأ علي الأجيال الجديدة وزاد من لياقتها الحيوية وتكيفها؟ ما هو نوع المعلومات التي اكتسبتها البكتيريا؟ هل كان هذا التطور الملحوظ في قدرة البكتيريا على التكيف نتيجة اكتساب البكتيريا وظائف جديدة؟ نتيجة إضافة معلومات وراثية جديدة عن طريق الطفرات والانتقاء الطبيعي؟
نشر عالم الكيمياء الحيوية بجامعة ليهاي (مايكل بيهي) ورقة في مجلة Quarterly review of biology تناول فيها بالتفصيل نتائج تجربة لينسكي وفحص فيها الآليات الجزيئية وراء التغيرات الظاهرية التي زادت من تكيف الأجيال الجديدة مع البيئة.
بعد فحص كل التفاصيل الجزيئية توصل بيهي إلي أن ما جنته الأجيال الجديدة من البكتيريا من تكيف وزيادة في اللياقة لم يكن نتيجة إضافة معلومات جديدة أو اكتساب وظائف جديدة، بل علي العكس لقد كان هذا التكيف نتيجة إتلاف بعض الوظائف الموجودة سلفا وضياع المعلومات، نتيجة طفرات أفسدت عمل آليات، وكانت تلك التعديلات مفيدة من الناحية التطورية (القدرة على التكاثر السريع) فساعدت البكتيريا على التطور، ولكن في مقابل ضياع جزء من المعلومات.
"بفحص تسلسل الدنا الخاص بالبكتيريا الإشريكية حول متواليات الغرز Insertion Sequences، وجد الباحثون العديد من الجينات المسئولة عن الاستقلاب مُستأصلة، كذلك بعض جينات الجدار الخلوي وجينات أخرى. في عمل لاحق اكتشف كوبر أن كل السلالات الإثنى عشر تعرضت لطفرات حذف لمشغل operon الريبوز، المسؤول عن تصنيع سكر الريبوز. بناء علي ذلك فإن الطفرات التكيفية التي كشفنا عنها حتي الآن كلها من نوع فقدان الوظيفة".(1)
عندما تجاوز عدد الأجيال 20 ألف، استخدم فريق عمل لينسكي تقنيات متطورة للكشف عن الأسس الجزيئية للتغيرات التكيفية. باستخدام تلك التقنيات استطاعوا تتبع ورصد نشاط 1300 جين Gene Expression، وتوصلوا إلي أن 59 جين منهم تغير نشاطهم عن أسلافهم، 47 من أصل تلك الجينات قل مستوى نشاطها أو تعبيرها. يتحكم في التعبير الجيني لتلك الجينات مواد كيميائية في الخلية منها الجوانوسين رباعي الفوسفات guanosine tetraphosphate، ويحدد تركيز تلك المادة مجموعة من الجينات علي رأسها جين spoT، وعندما فُحِص تسلل الجين وجوده طفرة نقطية لاترادفية Non-synonymous Point Mutation، وعند فصح عشر سلالات أخرى خضعت لنفس الظروف التطورية لـ20 الف جيل، وجد سبعة من السلالات لديها طفرة في نفس الجين ولكن كانت الطفرات مختلفة، مما يرجع أن تلك الطفرات كانت تقلل من نشاط البروتين.
لقد تعرضت نفس الجينات لطفرات مختلفة ولكن النتيجة واحدة؛ زيادة في اللياقة والقدرة علي التكيف. هذا دليل قوي علي أن تلك الطفرات قد أخلت بعمل الجين، فلا يمكن أن تكون الطفرات المختلفة لها وظيفة واحدة. لقد تسببت الطفرات في نقص المعلومات وليس زيادتها. تلك هي العملية السائدة علي طول الـ20 الف جيل التي تم فحصهم و توثيق التفاصيل الجزيئية الخاصة بها في الأوراق العلمية.
بماذا تخبرنا تجربة لينسكي؟ أليست مثالا عمليا واقعيا علي التطور؟
نعم هو تطور، ولكن تطور في الاتجاه الخاطئ، ليس نوع التطور المطلوب لتحول الخلية الأولي (الأصل المشترك) إلي ملايين الأنواع من الكائنات الحية.
تفترض نظرية التطور نشأة كل أنواع الكائنات الحية عن طريق الانحدار من سلف مشترك، ذلك السلف المشترك كان غاية في البساطة ولكن الأنواع الحية التي نراها علي الأرض الآن تبدو علي قدر عالي من التعقيد. من المفترض أن يكون التطور تاريخ طويل من اكتساب الوظائف وإضافة معلومات جديدة للأنواع الجديدة، ولكن تجربة لينسكي لا تخبرنا أي شيء عن مصدر تلك المعلومات وكيف تولدت.
لقد تطورت البكتيريا بمرور الزمن لتصبح أصلح للبقاء من أسلافها، ولكن حتي تحقق النصر في ذلك الصراع من أجل البقاء دفعت الثمن عن طريق التخلص من بعض وظائفها التي يبدو أن التخلص منها خدم قدرتها علي التكاثر؛ وهي الوظيفة الأساسية التي يراها الانتقاء الطبيعي ويعمل بمقتضاها، فكانت في سبيل أن تتكاثر أسرع من أسلافها وأن تحقق مزايا تزيد من تكيفها مع البيئة، تضحي ببعض الوظائف الأخرى. المظهر الخارجي يعطي انطباع أن الأجيال الجديدة اكتسبت ميزات خاصة تميزها عن أسلافها، ولكن في الحقيقة لقد فقدت بعض الخصائص التي سمحت لها بالتكيف مع البيئة، وتمت البرهنة على ذلك.
قد لا تكون كل الطفرات التكيفية بهذا السوء، من الممكن لبعض الطفرات أن تزيد من قدرة الأفراد علي التكيف عن طريق إكسابها وظائف جديدة كاستخدام حمض السيتريك تحت الظروف المؤكسدة، ولكن ما هو معدل ظهور تلك الطفرات مقارنة بتلك التي تعبث بوظائف الخلية وتفسدها، نسبة الطفرات التكيفية المفيدة إلي الضارة قد لا تتجاوز واحد إلي مائة كما يشير بيهي في ورقته، مما يعني أن معدل فقد وظائف البكتيريا أعلي بكثير من معدل اكتسابها وظائف جديدة.
الأمر ليس أن معدل حدوث الطفرات الضارة أعلي من معدل حدوث الطفرات النافعة، ولكن معدل حدوث الطفرات التي تزيد من تكيف البكتيريا مع البيئة المحيطة بها عن طريق استئصال معلومات الخلية أعلى من معدل حدوث الطفرات التي تزيد من تكيف البكتيريا مع البيئة المحيطة بها عن طريق إضافة معلومات ووظائف جديدة.
وإن كان بيهي محقًّا، فإن التطور الجزيئي يواجه مشكلات عديدة. لأن رجحان كفة خسارة (أو نقصان) الوظيفة يقتضي منطقيًا أن تنفد الوظائف الجزيئية لدى الجمهرة الحية الخاضعة للتطور نتيجة فقد الوظائف أو نقصانها.
كانت تلك التجربة –تجربة لينسكي– هي الأضخم من نوعها ولم أجد أفضل منها للبحث عن حدود قدرة الطفرات علي إضافة معلومات بيولوجية جديدة للكائنات الحية، ولكن يبدو أننا لم نجد ضالتنا هنا، فكل ما وجدناه هو تعطيل للجينات، وفقدان للوظائف، والحد من بعض الأنشطة في الخلية، تلك الآليات تعجز عن تفسير وجود آليات المقاومة للمضادات الحيوية في البكتيريا والتي هي علي قدر كبير من التعقيد والتخصص، ولكن ربما تفسر تلك الآليات بعض أنواع المقاومة المكتسبة كما سنرى في الجزء التالي.
(1) Michael J. Behe, “Experimental Evolution, Loss-of-Function Mutations, and ‘The First Rule of Adaptive Evolution’”, The Quarterly Review of Biology, Vol. 85(4):1-27 (December 2010).