ملحوظة: راجع الدكتور داريل فالك Darrel Falk، وهو البروفيسور في البيولوجيا في جامعة بوينت لوما نازارين Point Loma Nazarene University، كتابَ توقيع في الخلية، في مُدوّنة "العلم والمُقدَّسات Science & the Sacred" التابعة لمؤسسة بيولوجوس. فيما يلي رد الدكتور ماير.
شهدتُّ عام 1985 مؤتمرًا لفت انتباهي إلى مسألة هامة في بيولوجيا نشوء الحياة، وهي مسألة تفسير ظهور المعلومات الضرورية لإنتاج الخلية الحيّة الأولى. وكنت حينها أعمل كجيوفيزيائي بمجال مُعالجة الإشارات الرقمية، وهو شكل من أشكال تحليل المعلومات وتقانتها، ثم انخرطتُ بعد ذلك بسنة في معهد الدراسات العليا في جامعة كمبردج حيث أنهيت رسالة الدكتوراه في فلسفة العلوم من بعد إنجاز بحث مُتعدد الاختصاصات في القضايا العلمية والمنهجية لبيولوجيا نشوء الحياة، وتابعت في السنوات اللاحقة دراسة مسألة نشوء الحياة، وألّفت مقالات علمية مُحكّمة peer-reviewed ومُحرّرة بالأقران peer-edited في موضوع الأصول البيولوجية، وكذلك شاركت في تأليف كتاب تعليمي محكّم في البيولوجيا، ونشرت في السنة الماضية [عام 2009] كتاب توقيع في الخلية من بعد البحث في موضوعه لأكثر من عقدين من الزمن، وهو كتاب يقدّم تقييمًا مطولًا للنظريات الأساسية المُتنافسة لنشوء المعلومات البيولوجية والقضية المتعلقة بذلك وهي قضية نشوء الحياة، ومنذ إتمام الكتاب حصل على تأييد ومساندة العديد من العلماء البارزين، ومن بينهم فيليب سكيل Philip Skell، العضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم، وسكوت تيرنر Scott Turner، عالم بيولوجيا تطورية في جامعة ولاية نيويورك، والبروفيسور نورمان نيفين Norman Nevin أحد علماء الوراثة الروّاد في بريطانيا.
ومع ذلك فقد وصفني البروفيسور داريل في مُراجعته الحديثة على موقع بيولوجوس BioLogos بمجرّد فيلسوف ومؤمن مُتديّن حسن النيّة ولكنه غير مؤهّلٍ، وأفتقرُ للخبرة العلمية لتقييم أبحاث نشوء الحياة، وأنني أغفلتُ التجارب الواعدة لمُحاكاة ما قبل الحياة التي ظهرت مؤخرًا. ولقد اعتمد فالك على مجرد تجربتين من تلك التجارب ليقرر بأنني تسرّعت في الحكم بأنّ كيمياء ما قبل الحياة لا يُمكنها تفسير نشوء الحياة، ومع ذلك، فإن كلا التجربتين اللتين يستشهد بهما لا تقدّمان دليلًا يدحض حُجّة كتابي ولا تحلان اللغز الأساسي الذي يتناوله، بل الحقيقة أنّ كلا التجربتين تعزّزان بالواقع –وإن بغير قصد– الحجّة الرئيسية في كتاب توقيع في الخلية.
تقول الحجّة المركزية في كتابي أنّ التصميم الذكي –أي نشاط عامل واعٍ ومُدبِّر عقلاني– يُفسِّر نشوء المعلومات الضرورية لإنتاج الخلية الحية الأولى أفضل تفسير، وأقول هذا لسببين نعلمهما من خبرتنا الثابتة والمُتكررة والتي أراها، كما يراها تشارلز داروين، أساسَ كل التفسيرات العلمية لأحداث الماضي. أولًا أثبتت العوامل الذكية القدرة على إنتاج كميات كبيرة من المعلومات النوعية وظيفيًا (خاصة في صيغة رقمية)، وثانيًا لم تُظهر أيّ عملية كيميائية غير موجّهة امتلاكها هذه القدرة. وبذلك يقدّم التصميم الذكي التفسير الأفضل – والأكثر كفاية سببية – لنشوء المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى من مواد كيميائية جامدة أبسط، أي أن التصميم الذكي يُعَدّ التفسير الوحيد الذي يُشير لسبب يُعرف بامتلاكه القدرة على إنتاج الأثر الرئيسي الذي ندرسه.
لا يدحض فالك في أي جزء من مُراجعته هذا الادعاء، ولا يقدّم تفسيرًا آخر لنشوء المعلومات البيولوجية. وليفعل ذلك فإنه يحتاج لإثبات وجود سبب مادي غير مُوجَّه له القدرة على إنتاج معلومات بيولوجية وظيفية بعيدًا عن توجيه عقل مُدبّر أو نشاطه، إلّا أن فالك وكلّ من عمل في بيولوجيا نشوء الحياة فشلوا في هذا، ولذلك تجده عوضًا عن ذلك يُفضل إثارة جدل شخصي وإجرائي ضدّ كتابي، فرفض مقولتي على اعتبار أنّي غير مؤهّل، وأصرّ على أنّ طرح أيّ استنتاجات سلبية عن كفاية العمليات الكيميائية غير الموجّهة لا يزال "سابقًا لأوانه".
ولدعم ادّعائه بأنّي تسرّعت بطرح الأحكام استشهد فالك أولًا بدراسة علمية نُشرت في الربيع الذي تلا طبع كتابي، وهي ورقة بحثية ألفها الكيميائي جون سذرلاند من جامعة مانشستر واثنان من زملائه. وهي حقًا تعالج جزئيًا واحدة من الصعوبات البارزة والكثيرة التي تواجه فرضية عالم الرنا، والتي هي النظرية الأشهر حاليًا عن نشوء الحياة الأولى.
ابتداءً بسكّر ثلاثي الكربون (D – غليسيرالديهيد)، ومركب آخر يُسمّى 2 – أمينو أوكسازول، نجح سذرلاند باصطناع سكّر خماسي الكربون مرتبط بأساسٍ ومجموعةِ فوسفات، أي أنه أنتج ريبونوكليوتيد. احتفت الصحافة العلمية - ومعهم حق - بهذه التجربة كنقلة نوعية في كيمياء ما قبل الحياة؛ لأن الكيميائيين كانوا يعتقدون سابقًا (كما ذكرت في كتابي) بعدم ملاءمة الظروف اللازمة لاصطناع الريبوز مع الظروف اللازمة لاصطناع الأسس.
على الرغم من ذلك، لا يدحض بحث سذرلاند الحجة المركزية في كتابي، ولا يدعم حتّى الادعاء بأنّ من المُبكّر الاستنتاج بأنّ العوامل الذكية هي فقط من تبدي القدرة على إنتاج معلومات نوعية وظيفيًا، بل إنه يوضّح العكس.
وصفت في الفصل 14 من كتابي سيناريو عالم الرنا وفنّدته، وعرضت في ذلك الفصل خمس مشاكل رئيسية مُلازمة للنظرية، أما بحث سذرلاند فيواجه جزئيًا فقط أولى تلك الصعوبات وأهونها: وهي مسألة توليد أحجار البناء التأسيسية أو المَوحودات monomers في ظروف قبل حيوية معقولة، إلا أنّه يتجنب المشكلة الأشد وهي تفسير كيفية اكتساب الأسس في الحموض النووية (سواءً الدنا أو الرنا) ترتيبها النوعي الغني بالمعلومات. أي أن تجربة سذرلاند تساعد في تفسير نشوء "حروف" النص الجيني، لكن لا تفسر ترتيبها النوعي ضمن "كلمات" أو "جُمل" وظيفية.
ومع ذلك لا يتوافق عمل سذرلاند مع الظروف قبل الحيوية الواقعية، ويتمثل هذا بثلاث طرق تُؤكّد في الحقيقة حُجّتي.
اختار سذرلاند أولًا أن يبدأ تفاعله بالمُماكب المُيمّن (المتشابه الجزيئي) فقط من السكّريات ثلاثية الكربون المطلوبة لابتداء التفاعل المُتسلسل. لماذا؟ لأنّه عرف أنّ عدم فعل ذلك سيعطي نتيجة غير ذات أهميّة بيولوجيًا، فإن اختار سذرلاند استعمال مزيج راسيمي racemic من مُماكبي السكّر المُيمّن والمُيسّر وهو الظرف الأكثر واقعية، فسيولّد التفاعل مزيجًا غير مرغوبٍ من المُصاوغات الفراغية stereoisomers [وهي أمزجة تؤدي لتعقيد شديد لأي عملية بلمرة polymerization بيولوجية لاحقة]، وبذلك يكون قد تدخل بنفسه ليحل مُشكلة عدم التناظر المرآتي chirality في كيمياء نشوء الحياة، بانتقائه الذكي لمُصاوغ مرآتي enantiomer مُفرد، أي باستخدامه فقط للسكّريات المُيمّنة التي تتطلبها الحياة ذاتها، لكن لا يظهر أنه كان هناك أي مصدر لمثل هذا المزيج غير الراسيمي من السكّريات في أيّ بيئة معقولة قبل أحيائية.
ثانيًا، اشتمل التفاعل الذي استعمله سذرلاند لإنتاج الريبونكليوتيدات خطواتٍ كيميائية منفصلة عديدة، وفي كل خطوة من التفاعل مُتعدد الخطوات تدخّل سذرلاند بذاته بتنقية ناتج التفاعل عن الخطوة السابقة، مزيلًا المنتجات الثانوية غير المرغوبة، وبهذا يكون قد منع بإرادته الخاصة وبفكره ومسلحًا بالتقنية التجريبية حدوث أي تفاعلات تصالبية مُعترضة، وهي كابوس كل كيميائي يبحث في كيمياء ما قبل الحياة.
ثالثًا، اتبع سذرلاند لتوليد المنتج الكيميائي المرغوب فيه (الريبونكليوتيدات) "وصفة" أو إجراءً غاية في الدقة، انتقى فيه بعناية الكواشف الكيميائية، وخطّط ترتيب إضافتها في تسلسل التفاعل، وكذلك اختار أيضًا أيّ المنتجات الجانبية التي يجب أن تُزال، ومتى تُزال. وتمثل هذه الوصفات التي يتّبعها الكيميائيون ما يُسمّيه الكيميائي الفيزيائي المجري الراحل مايكل بولاني Michael Polanyi "التدخلات التوجيهية المُحملة بالمعلومات"، فالكيميائي بذاته يُضيف معلومات إلى النظام الكيميائي، كما تضاف المعلومات نتيجة للأفعال المقصودة، أي بالتصميم الذكي من ناحية الكيميائي.
بالمُجمَل نقول إن المشكلة لا تكمن فقط في عدم تعرض تجربة سذرلاند للمشكلة الأساسية الأكبر حول ترتيب الأسس النكليوتيدية لنفسها في تسلسلات نوعية وظيفيًا، ولكن تكمن أيضًا في أن نجاح التجربة بإنتاج مُكوّنات كيميائية مُلائمة للحياة قد أثبت في الحقيقة الدور الذي لا غنى عنه للذكاء في توليد تلك الكيمياء.
توضّح التجربة الثانية التي ذكرها فالك لدحض كتابي هذه المُشكلة بصورة أكبر، وقد ذُكرت هذه التجربة في ورقة بحثية علمية لترايسي لينكولن وجيرالد جويس يثبتان فيها ما يبدو أنه قدرة الرنا على التضاعف الذاتي، بما يضفي الواقعية على إحدى المراحل الرئيسية في فرضية عالم الرنا، وقد ألمح فالك مخطئًا أنّني لم أناقش هذه التجربة في كتابي، ولكنني بالحقيقة قمت بذلك في الصفحة 695 [من الترجمة العربية].
على أيّ حال فإن فالك هو الذي توصل إلى استنتاج خاطئ من هذه الورقة البحثية، فالمشكلة الرئيسية التي تواجه الباحثين في نشوء الحياة هي ليست اصطناع أحجار البناء قبل الحيوية (التي ناقشها بحث سذرلاند) أو حتّى اصطناع جزيء الرنا ذاتي التضاعف (وهو الأمر الذي فشل جويس وتريسي في إثبات واقعيته: انظر بالأسفل)، بل المشكلة الأساسية هي جعل حجارة البناء الكيميائية ترتّب ذاتها ضمن جزيء كبير حامل للمعلومات (سواء كان الدنا أو الرنا)، وكما عرضتُ في كتاب توقيع في الخلية، فإن القدرة المحدودة جدًا للرنا على التضاعف الذاتي التي تم إثباتها فعلًا تعتمد بشدّة على نوعية ترتيب الأسس النكليوتيدية، أي اعتمادًا على معلومات نوعية التسلسل الموجودة مسبقًا.
لم تحل تجربة لينكولن وجويس التي وصفها فالك هذه المُشكلة، أو لنقل على الأقل إنها لم تُحل من دون تدخل لينكولن وجويس الذكي. أولًا جزيئات الرنا "ذاتية التضاعف" التي ينشئانها عاجزة عن نسخ قالب template المعلومات الجينية ابتداءً من وُحيدات كيميائية حرة كما تفعل آلية البوليميراز في الخلايا الحقيقية، ففي تجربتهما يقتصر الأمر على مجرد قيام جزيء رنا مُصنّع مُسبقًا وذي تسلسل نوعي بتحفيز تشكيل رابطة كيميائية واحدة تدمج جزأي سلسلة رنا مُصنّعتين مُسبقًا، وبعبارة أخرى، لا تُحقق رؤيتهما "للتضاعف الذاتي" أكثر من مُجرّد جمع نِصْفي تسلسل نوعي مُحضّرين مُسبقًا، والأهم من ذلك هو أن لينكولن وجويس قاما بنفسيهما بترتيب ذكي لتسلسلات الأسس المُتوافقة في سلسلتي الرنا، وهما من قام بعملية التضاعف، وهما من أنشأ المعلومات النوعية وظيفيًا التي جعلت حتّى هذه الشكل المحدود من التضاعف مُمكنًا.
تؤكّد تجربة لينكولن وجويس بالحقيقة ثلاثة ادعاءات طرحتُها في كتاب توقيع في الخلية. أولًا: أثبتت التجربة أنّ القدرة على التضاعف الذاتي، حتى التضاعف الجزئي البسيط في الرنا ، تعتمد على تسلسلات نوعية من تسلسلات الأسس (أي غنية بالمعلومات) في هذه الجزيئات، وثانيًا: أوضحت أنّ قدرة المعلومات الجينية على التضاعف -ولو حتى التضاعف الجزئي- في جزيئات الرنا تنشأ من تدخل الكيميائيين، أي من ذكاء "مُهندسي الأنزيمات الريبوزية" الذين صمّموا وانتقوا خصائص جزيئات الرنا المُتضاعفة (جزئيًا) هذه، وثالثًا: تؤكد تجارب مُحاكاة ما قبل الحياة ما نعلمه من الخبرة المعتادة بأنّ التصميم الذكي هو الوسيلة الوحيدة المعروفة التي تنشأ عنها المعلومات النوعية وظيفيًا.
حاول الباحثون في نشوء الحياة لقرابة ستين سنة الاستفادة من تجارب مُحاكاة ما قبل الحياة للعثور على سبيل واقعي نشأت به الحياة من مواد كيميائية جامدة بسيطة، ومن ثم تأييد نظرية التطوّر الكيميائي. وبينما بصّرتنا تلك التجارب أحيانًا بحقائق مثيرة حول الظروف التي في ظلها تُنتِج (أو لا تنتِج) تفاعلاتٌ معيّنةٌ جزيئاتٍ صغيرة مختلفة مكوّنة لجزيئات حيوية ضخمة، إلا أنّها لم توضح قطّ كيفية نشوء المعلومات في هذه الجزيئات الضخمة (خصوصًا الدنا والرنا)، ولا يفاجئنا ذلك في ضوء ما عرفناه طويلًا عن البنى الكيميائية للدنا والرنا، فكما أوضحت في كتاب توقيع في الخلية، تسمح البنى الكيميائية للدنا والرنا بتخزين المعلومات لأنّ الألفة الكيميائية بين الوحيدات الجزيئية الصغيرة فيهما لا تحدّد الترتيب النوعي لهذه الأسس فيهما، إذ يتشكل ذات النوع من الروابط الكيميائية (رابطة N – غليكوزيدية) بين الهيكل الرئيسي وكل من الأسس الأربعة، بما يسمح لأيّ أساس منها بالارتباط في أيّ موقع على طول الهيكل، وهو ما يعني بدوره إمكانية وجود تنوّع لا يُحصى من التسلسلات المختلفة. عدم التحدُّد الكيميائي هذا هو بالضبط ما يسمح للدنا والرنا بالعمل كحاملي معلومات، وهو أيضًا ما يحكم بالفشل على مُحاولات تفسير نشوء المعلومات - التسلسل الدقيق للأسس - في تلك الجزيئات كنتيجة حتمية لتآثرات كيميائية deterministic.
رغم ما سبق يرى البروفيسور فالك أنّ الوصول لاستنتاجات سلبية حول كفاية العمليات الكيميائية غير الموجّهة الخالصة، أو الوصول لما هو أسوأ من ذلك باستنتاج وجود تصميم ذكي، أمر سابق لأوانه بالأساس، وهو يرى أن مثل هذا التفكير في الحقيقة تخلٍ عن العلم، أو ارتكاب لمغالطة "الاحتكام إلى الجهل argument from ignorance"، لكّن هذا يكشف عن سوء فهمه للعلم ولأساس حجة التصميم التي أقيمها.
لا تخبرنا الاستقصاءات العلمية فقط عمّا تفعله الطبيعة، بل كثيرًا ما تخبرنا أيضًا بما لا تفعله الطبيعة. فقوانين انحفاظ الطاقة في الديناميكا الحرارية مثلًا تنفي نتائج معيّنة، حيث أنّ القانون الأول يقتضي أنّ الطاقة لا تخلق أبدًا ولا تفنى، بينما يقول القانون الثاني أنّ الإنتروبية entropy في نظام مغلق لن تنخفض أبدًا مع الزمن. والأهم أننا لدينا ثقة كبيرة بهذه القوانين لأنّها مبنية على خبرتنا المنتظمة والمُتكررة، ولهذا السبب يصر الفيزيائيون على أن البحث عن آلات الحركة المستديمة لا يستحق الجهد ولا التمويل.
كذلك لدينا اليوم خبرة متراكمة توضّح أنّ ما أسمّيه بالمعلومات النوعية أو الوظيفية (خاصة إن كانت مُرمّزة بالشكل الرقمي) لا تنشأ من طلائع فيزيائية أو كيميائية محضة، فهندسة الأنزيم الريبوزي في الواقع، وتجارب مُحاكاة ما قبل الحياة التي يوصيني بها البروفيسور فالك، تضفي دعمًا استقرائيًا على هذا التعميم. ومن جهة أخرى نعلم بوجود سبب (أو نمط من الأسباب) أثبت قدرته على إنتاج معلومات نوعية وظيفيًا، وذلك السبب هو الذكاء أو التدبير المنطقي الواعي. وكما لاحظ المنظِّر الرائد في علم المعلومات هنري كواسلر Henry Quasetler: "يترافق خلق المعلومات عادةً مع نشاط واعٍ"، وكان مُحقًّا بالطبع. فأينما نجد المعلومات (سواء كانت متخفية في إشارة راديو، أو منقوشة في تمثال صخري، أو مدوّنة في كتاب، أو محفورة في قرص مُمغنط) ونقتفي أثرها نحو مصدرها نجد دومًا أنها صدرت من عقلٍ ما، وأنها ليست مجرد نتيجة عملية مادية، ولذلك يقدّم اكتشاف معلومات نوعية وظيفيًا ومُرمّزة رقميًا على طول هيكل الدنا دليلًا إيجابيًا مقنعًا على وجود فاعليةٍ سابقة لمصمم ذكي. هذا الاستنتاج ليس مبنيًّا على ما لا نعلمه، بل مبنيّ على ما نعلمه بالفعل من خبرتنا المنتظمة حول بنية السبب والنتيجة في العالم، وخصوصًا ما نعلمه عمن يمتلك القدرة على إنتاج كميات كبيرة من المعلومات النوعية ومن لا يمتلكها.
إن رفض البروفيسور فالك هذه المعرفة باعتبارها معرفة، ورفضه حجة التصميم المبنية عليها، يعكس التزامه الخاص بإيجاد حل لمسألة نشوء الحياة ضمن هيكل مادي صارم. لقد صرّح فالك وزملاؤه في مدوّنة بيولوجوس بأنهم يؤمنون بمبدأ مذهب الطبيعية المنهجية methodological naturalism، والمتمثل بفكرة أنّه حتى يكون العالِم عالِمًا فعليه أن يقصر نفسه على طرح تفسيرات مادية فقط لجميع الظواهر. من حقهم طبعًا قبول هذا التقييد الفكري في طرح النظريات إن رغبوا بهذا، ولكن يجب أن نوضح أنّ مذهب الطبيعية المنهجية هو افتراض فلسفي اعتباطي، وليس مبدأً يمكن إثباته أو تبريره بالمُلاحظة العلمية بذاتها. أما نحن الآخرين بعدما رأينا ذلك النمط في تجارب محاكاة ما قبل الحياة -فضلًا عما تسجله شهادة الخبرة البشرية الممتدة لآلاف السنين- فقد قررنا أن نتجاوز تلك النقطة. نحن نرى في بنية الحياة الغنية بالمعلومات مؤشرًا واضحًا لنشاط ذكي، وبدأنا بالبحث في النظم الحيّة تبعًا لذلك. وإن كان هذا يجعلنا فلاسفة لا علماء وفقًا لتعريف البروفيسور فالك، فليكن ذلك. لكن أعتقد الآن أنّ الرصاصة قد ارتدت في نحر صاحبها.