- ما هي نظرية التطور؟
هي مجموعة فروض تفسر ظاهرة الحياة، بما فيها من تعقيد وتنوع، بآليات معينة يفترض أنها كافية وضرورية.
أي أن وجود هذه الآليات يعتبر سببا ضامنا وكافيا لوقوع هذه النتيجة، التي هي الحياة، وإلا لما أمكن تسميته تفسيرا.
بمعنى أنني لا يمكن أن أقول أنني أفسر وجود الحياة على الأرض بوجود الكربون والأوكسجين والهيدروجين وبعض العناصر الأخرى الضرورية للحياة، لماذا؟
لأن هذه الآلية، لا يشترط من وجودها وجود النتيجة التي أريد تفسيرها!
- وقد تعجز النظرية عن تقديم سناريوهات كاملة ولا يسبب هذا سقوطها، بشرط أن تبقى الظاهرة محتملة بنفس الآليات، ولم تخرج عن إطار الممكن، فإن خرجت إلى إطار غير الممكن بظهور دليل ما، فهذا يعتبر تفنيدا للنظرية، ولا عبرة ببقاء جزئيات أخرى من الظاهرة ممكنة بالنسبة للآليات التي تطرحها النظرية.
- وبصرف النظر عن أن التطور يلزم من فروضه أشياء كثيرة، لم تتحقق، بل ظهر ما يثبت ضدها، كالتعقيد غير القابل للاختزال وفقر السجل الحفري من الحلقات الوسطى، وعدم وجود شجرة فيلوجينية ثابتة تحكي علاقة مباشرة بين الأنواع، إلا أننا سنتنزل مع الخصم ونعتبر أن كل مقدماته صحيحة، ونفكر بطريقة داروينية حيث نظن أن منشأ كل هذا التعقيد والتنوع الذى نراه هو الطفرات. وأنه مر ملايين السنين وأثناء هذا تم الانتخاب والاصطفاء لما هو صالح، أو بمعنى أصح من حاز على صفة جيدة تخدم الاستراتيجيات التي تمكنه من البقاء في بيئته وتمكنه من التكاثر كنوع بيولوجي، وبقاء هذه الجينات وهذه الصلاحية تسمى اصطلاحيا Fitness. فالطفرات تأتى بالجديد دائما، وهذا الجديد إما أن يكون زيادة في الصلاحية وإما أن يكون نقصا فيها، والانتخاب الطبيعي دائما مع الصفات والاستراتيجيات التي تزيد الصلاحية.
- والذي فعله البحث، هو أنه استعمل نفس هذه الآليات ضد التطور، فالبحث ليس في نفي وجود الطفرات ولا الانتخاب الطبيعي ولا يجادل في الأزمنة السحيقة -التي يفترضها الدراونة- وإنما يستخدمها لهدم النظرية، فالآن الطفرات والانتخاب الطبيعي والزمن السحيق من ملايين السنين هم من يقفون ليبنوا معضلة كبيرة ضد نظرية التطور ليس لها حل يمكن أن ينسب لآلية مادية أبدا.
- دعونا نرتدى النظارة الداروينية لنرى الأشياء بأبعادها الثلاثية؛ الطفرات والانتخاب الطبيعي والزمن السحيق، وننظر على ظاهرة الحياة ونركز في الوحدات التي تتكون منها هذه الظاهرة. وهي المجتمعات البيولوجية Population، فهذه هي الوحدة الصحيحة للنظام البيولوجي، وليس الفرد أو النوع.
- لأن النظر إلى الفرد أو النوع يغفل جانبا هاما جدا في ظاهرة الحياة، ألا وهو التفاعلات البيئية Ecological interactions، كتفاعل الفرد مع باقي مجموعته وتأثير هذا على ذاك والعكس، وكتفاعل الفرد مع الأنواع الأخرى سواء كان هو الفريسة أو الصياد، أو كان متطفلا أو مضيفا أو غير ذلك من التفاعلات البيئية الكثيرة، وأضف إلى ذلك الظروف الفيزيائية ومدى تأثر المجتمع بها، فكل هذا لا يمكن أن يدخل إلى المشهد إلا بدراسة المجتمع البيولوجي، واعتباره الوحدة الصحيحة لدراسة ظاهرة الحياة.
- وهذا ما انتبه له الباحثين في مجال Adaptive dynamics، ووضعوا النماذج الرياضية لرصد احتمالات غزو طفرة لها صلاحية كبيرة نسبيا Invasion fitness لمجتمع له استراتيجياته المعينة ونتائج هذا كيف ستكون، فوجود مثل هذه الطفرة صاحبة الصلاحية الأعلى و الاستراتيجية الأفضل سيسبب خللا في هذا المجتمع بلا شك، وسيؤثر عليه تأثيرا لا يمكن متابعته إلا من خلال التفاعل البيئي، والذى قد يفضي إلى تغير كامل في شكل المجتمع، بل و التحول إلى مجتمع جديد تماما تسوده الطفرة الجديدة، و ينقرض النوع القديم والصاحب الأصلي لهذا المكان وهذا المجتمع.
- لكن الأهم من هذا بكثير؛ وهو الانتحار التطوري Evolutionary Suicide، الذى يحدث عندما يكون هذا المتطفر الغازي الجديد استراتيجياته تدمر مصادر الغذاء أو تدمر أي شرط أساسي من شروط حياة هذا المجتمع، سواء كان هذا الشرط بيولوجي أو فيزيائي، أو كان وجود الطفرة الغازية يؤدي إلى تدمير مصدر الغذاء الذى يتنافس عليه المجتمع، أو كان المصدر باقيا لكن رفع مستوى التنافس يؤدى إلى تدمير المجتمع بما فيهم الغازي أيضا. كالتنافس بين النباتات في الوصول للضوء واستهلاك كل الطاقة المتاحة في ذلك، مما يؤدى إلى عدم وجود طاقة كافية لتمام عملية التكاثر وإنتاج البذور فيتوقف النوع، ففي البداية قضى المتطفر الغازي على النباتات الأقل طولا وحجب عنها مصدر الضوء، ثم عجز هو عن إبقاء النوع، فتسبب في انقراض تلك الجينات.
- حسنا ما هو المتوقع لو أننا نظرنا بهذه النظارة الداروينية الثلاثية الأبعاد -الطفرات والانتخاب والزمن الطويل- إلى الوحدة الأساسية التي يتكون منها النظام البيولوجي ألا وهي population، فلم نستطع رؤيتها!، ولم نستطع إعطاء تفسير دارويني لهذه الظاهرة أو لهذه اللبنة والوحدة الأساسية التي تتكون منها الظاهرة!، لا شك أن هذا يعنى نهاية النظرية كفرضية لتفسير الحياة.
وهذا ما أثبته البحث بالفعل، وسوف نشرح كيف حدث هذا..
- اتفقنا أن «المجتمع» هو الوحدة الأساسية التي يتكون منها النظام البيولوجي الموجود على ظهر الأرض، والذي نريد تفسير وجوده الآن، وأنه قد يقصد به مجتمع من الخلايا، فليس شرطا أن يكون مجموعة من الكائنات المستقلة. نحن أمام ظاهرة، وهي كل مجتمع موجود بالفعل، وهذا الوجود في حد ذاته دليلا على أن هذا المجتمع لم يتعرض لمتطفر غازي واحد يتسبب في حدوث انتحار تطوري له، لأنه لو حدث لما كان هذا المجتمع أمامنا الآن!
إذن كل مجتمع Population هو دليل على عدم وقوع انتحار تطوري.
هذه هي الظاهرة، وهذا هو لازمها الذى لا ينفك عنها، فمن أراد أن يعطي تفسيرا للحياة لابد أن يمتلك آلية تمنع وقوع الانتحار التطوري.
- والآن نرتدي النظارة الداروينية لننظر من خلالها على آلية تملكها نظرية التطور تقدر على منع وقوع الانتحار التطوري..
1- الطفرات
هل يمكن أن نقول إن الطفرات منعت وجود هذا المتطفر الغازي الذى سيسبب فيما بعد الانتحار التطوري للمجتمع الذى سيظهر فيه؟
الجواب: بالقطع لا..
لأن الطفرات عبارة عن عملية عشوائية تماما لا ضابط لها، وليس في وجود هذا المتطفر الغازي أي مانع جيني، فالطفرات لا تقدر على منع شيء ممكن وقوعه جينيا، فهي إذن لا تملك تلك الآلية المانعة للانتحار التطوري.
2- الانتخاب الطبيعي
هذه المرة الانتخاب الطبيعي يدعم بكل قوة وجود هذا المتطفر الغازي، الذي سيتسبب في حدوث الانتحار التطوري لو أتى، لأنه أعلى صلاحية من غيره، وله استراتيجيات في البقاء أفضل من غيره، وللمرة الأولى يتحول الانتخاب الطبيعي لآلية ضد نظرية التطور، والتي طالما عول عليها الدراونة كمفتاح سحري لكل باب مغلق، فهو إذًا لا يملك تلك الآلية المانعة للانتحار التطوري أيضا.
3- الزمن السحيق
ملايين السنين كانت تطرح دائما كمفتاح سحري آخر يلجم السائل عن التعقيد أو الوظائف المبهرة الموجودة في الكائنات الحية، لكن للأسف هذه المرة يعطي ظهره هو الآخر للداروينية ويتحول كعامل ضدها، فكلما مر زمن أطول كان احتمال ظهور المتطفر الغازي الذى سيسبب الانتحار التطوري أكبر، وفق النماذج الرياضية التي تتعامل مع الاحتمالات العشوائية كالطفرات فهو أيضا لا يملك تلك الآلية المانعة.
إذًا لا مغيث لنظرية التطور من الانتحار التطوري!
وبالتالي ليس هناك آلية مانعة له من خلال نظرية التطور، و ليس هناك تفسير لوجود أي population نريد تفسير وجوده، و ليس هناك تفسير يمكن أن تقدمه نظرية التطور للحياة.
كل هذا لا شك فيه ولا مجال للمراوغة فيه، لكن كانت هناك مشكلة واحدة وهي عدم وجود أدلة تجريبية تثبت هذه النتائج المثبتة رياضيا، لأن الانتحار التطوري لم يشاهد إلا في نطاق بيئي ضيق.
وبالمناسبة.. فكل هذه الأبحاث ليست لخلقيين أو أنصار لنظرية "التصميم الذكي"، بل هم بيولوجيون ورياضيون وعلماء بيئة قادتهم النماذج الرياضية إلى هذه النتائج، ومعظمهم دراونة أو يتجنبون مهاجمة نظرية التطور.
دور البحث كان منصبًّا على تقديم نموذج عملي للانتحار التطوري، بشرط أن يكون لهذا النموذج تفاعلات بيئية كثيرة جدا وشاملة لإثبات وقوع الانتحار التطوري في كل هذه الظروف البيئية بنموذج عملي، أضف إلى ذلك أن هذا النموذج هو التجسيد الوحيد والنموذج العملي الوحيد للسيناريو الدارويني لتطور الحياة على وجه الأرض، أي أن له ميزات رهيبة في تطبيق الانتحار التطوري بشكل عملي وشامل.
وهذا كان على قسمين:
القسم الأول: إثبات أن السرطان ينتج من نفس آليات نظرية التطور التي هي الطفرات والانتخاب الطبيعي، وهذا مجال بحثيٌّ مستقل فيه أبحاث كثيرة جدا.
والقسم الثاني: كان إثبات أنه حالة من حالات الانتحار التطوري لأنه متطفر غازي، يتسبب في تدمير الموارد التي يتنافس عليها مع غيره، مما يؤدى إلى هلاك المجتمع كله بما في ذلك السرطان وذلك بموت المريض، وهذا أيضا مجال بحثيّ مستقل تدعمه أبحاث كثيرة.
فما فعلته هو عبارة عن تجميع قطع البازل لتظهر الصورة واضحة، مع إظهار النتيجة والتي تصب في غير مصلحة نظرية التطور.
الانتحار التطوري هو نفس ما يسمى في الاقتصاد بمأساة الموارد المشتركة Tragedy of the commons، وهو في الحقيقة تطبيق بيولوجي لها وهناك أبحاث ذكرت هذا، فكما أن نظرية Game theory هي اقتصادية في الأصل لكنها الركيزة الأساسية الآن في حسابات نظرية التطور، فكذلك مأساة الموارد المشتركة.
فهي عبارة عن تدمير المصدر الذى يتنافس حوله المستثمرون نتيجة قوة أحد أو بعض المستثمرين في التربح بشكل يضر بالسوق نفسه وبالموارد نفسها، مما يؤدى إلى انهيار الموارد وخسارة الكل، بما فيهم هذا الذي أفرط في السلوكيات الاستغلالية Over Exploitation، فهذه خسارة وانهيار للجميع نتيجة قوة مفرطة لأحدهم وليس نتيجة ضعفه.
لاحظوا أن المشكلة الآن في وجود آلية تمنع الانتحار التطوري والذى هو تطبيق لمأساة المشاع، فلو كان هناك حل يمنع وقوع مأساة المشاع لكان هو نفسه حلا للانتحار التطوري، و لَوُجِدَتْ آلية تمنع وقوع الانتحار التطوري!
- فهل هناك آلية يمكن أن تمنع مأساة المشاع وتحل المشكلة؟
نعم، كل الدراسات التي أجريت على مأساة الموارد المشتركة أثبتت أن الحل يكمن في وجود حكومات تضع عقوبات وتنظم استغلال الموارد، أو في مفاوضات، أو في وجود موانع أخلاقية أو دينية.
أي بمعنى أصح وجود تدخل ممن يملك حكمة (ذكاء) وقدرة على التنظيم ورسم صورة مستقبلية للواقع، وهذا يمكن تلخيصه بتدخل ذكي، فهذه هي الآلية الوحيدة القادرة على حل هذه المعضلة. وبالتالي فالآلية الوحيدة التي يمكنها منع الانتحار التطوري، وكذا تفسير الحياة، هي وجود مصمم حكيم.
- البحث نشر في مجلة Network Biology، مجلة علمية محكمة (peer reviewed).
Impact factor المجلة لعام 2013 هو 1.0895
رابط البحث:
http://www.iaees.org/publications/journals/nb/articles/2014-4%282%29/3-Ibrahim-Abstract.asp
رابط التحميل:
http://www.iaees.org/publications/journals/nb/articles/2014-4(2)/invasive-cancer-as-an-evolutionary-suicide.pdf