يعني للتو انتهينا من ترجمة وإصدار (حافة التطور) لبيهي، فخرج علينا بيهي بكتابه الجديد (تراجع داروين Darwin's Devolve) ليركز على نقطة تحدث عنها كثيرا قبل ذلك، ولكن الأبحاث العلمية جعلتها أوضح من أي وقت ماضي، وهي نقطة تخريب الطفرات العشوائية للحياة على المستوى الجزيئي.
وكالعادة بالطبع، العلماء الأجلاء، حراس معبد الداروينية، ينتقدون الكتاب قبل أن يروه! (يعني بالمصري؛ ربنا ما يقطعلكم عادة أبدا!)
والعاقل فيهم، راجع الكتاب وقدم انتقاداته المطولة عليه، بعد 8 أيام فقط من صدوره!
هذا كله غير مهم الآن، المهم أننا نود مشاركتكم في قصة لطيفة، ذكرها بيهي قبل ذلك، لكن أعاد سردها في مقدمة هذا الكتاب:
"أثناء دراسات ما بعد التخرج في الكيمياء الحيوية في جامعة بنسلفانيا والعمل في ما بعد الدكتوراه في المعاهد الوطنية للصحة لم يكن لدي شكوك حول النظرية التطورية الأساسية، وكنت أحيانا أضايق أصدقائي الذين لديهم شكوك حولها (وبعجرفة). أتذكر أنني في يوما ما أثناء العمل في معاهد الصحة الوطنية NIH كنت أدردش مع زميلة كاثوليكية اسمها جوان Joanne (وكان أخوها يعمل كاهنا)، والتي كنت أشترك معها في البحث في المعمل، حول الأسئلة الكبرى. وانتقل الكلام إلى نشأة الحياة. بينما كنت أنا وهي راضين بالتفكير أن الحياة نشأت بالقوانين الطبيعية، ظللنا نتصادم بالمشكلات. أشرت أنا إلي أنه لكي تحصل على الخلية الأولى، فستحتاج أولا إلى غشاء، وأضافت هي "والبروتينات"، فقلت أنا "والأيض الغذائي metabolism"، وأضافت هي " والشفرة الجينية". وبعد لحظات قليلة نظرنا لبعضنا البعض باستغراب وأعين واسعة قائلين بصوت واحد "يااااااه!"، ثم ضحكنا وعدنا إلى العمل مجددا، كما لو كان الأمر لا يمثل فارقا بالنسبة لنا. أظن أن كلينا اعتقد أنه حتى لو لم يعلم أحد منا كيف يمكن للطبيعة غير الموجهة أن تبدأ الحياة، فلا بد أن هناك شخص ما يعلم. هذه هي القوة المدهشة للتفكير الجمعي.
بعد ثلاثة سنوات من وظيفتي الأولى كأستاذ مساعد في كلية كوينز في مدينة نيويورك، انتقلت أنا وزوجتي سيليست وابنتنا الأولى جريس إلى بيتليهيم في بنسلفانيا، حيث كانت تنتظرني وظيفة جديدة في جامعة ليهاي. ومرت سنوات عديدة وأنا منهمك في العمل، حتى توقفت لقراءة كتاب أذهلني وغير رأيي في التطور. كتاب (التطور: نظرية في أزمة) لمايكل دنتون، عالم وراثة ودكتور في العلوم الطبية ومدرس في جامعات استراليا وقتها، والذي لم يقدم حلا لمعضلة الحياة، ولكن أشار إلى العديد من المشاكل الجادة لنظرية داروين على المستوى الجزيئي، والتي لم أكن قد سمعت بها في حياتي من قبل؛ بالرغم من أني كنت وقتها بروفيسورا في الكيمياء الحيوية والذي كان هدفه من الدخول في العلم هو فهم كيف يعمل العالم!
عند تلك النقطة، حينما تفكرت في الماضي، أدركت أنني لم أسمع أي من أساتذتي ينتقد نظرية داروين على مدار كل دراساتي العلمية.
جن جنوني. وقضيت العديد من الوقت في الشهور اللاحقة في المكتبة العلمية محاولا إيجاد أوراق أو كتب تشرح بتفاصيل حقيقية كيف يمكن أن تنتج الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي الأنظمة فائقة التعقيد التي ندرسها بشكل اعتيادي في مجال الكيمياء الحيوية. وعدت خالي الوفاض، فلم أجد شيئا على الإطلاق. بالرغم من أن العديد من الدراسات تقدم الإجلال لداروين، والقليل منها يدور حول قصص تطورية مؤداها أن الأمر "حدث هكذا فقط"، لكن لم ينص أي منهما كيف تفسر تلك الآلية الأنظمة الوظيفية المعقدة. القصص الغامضة كانت جيدة بالنسبة لي في الماضي، لكن ليس الآن. الآن أنا أريد إجابات حقيقية".
وطبعا من يتابع الملف، يعرف بقية القصة، 30 سنة تقريبا أقضاها بيهي في البحث عن الإجابات الحقيقية، وهي رحلة تستحق الإجلال والتقدير، لكن ما نريد أن نلفت نظركم إليه هو أمرين...
أولا: القصة التي يحكيها بيهي لما حدث مع زميلته في المعمل مرعبة جدا، وهي السبب لوجود الإجماع الحالي على التطور الدارويني.
حينما يتناقش اثنين من العلماء الحاصلين على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية ويعملون في مرحلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في أكبر هيئة علمية في أكبر دولة تهتم بالعلم ولا يعرفون كيف يمكن أن تنتج الطفرات العشوائية الخلية، فعليهم أن لا يتناسوا الأمر ويكملوا عملهم، بل الواجب أن يتوقفوا للبحث والفحص الدقيق!
لكن ما حدث معهم هو الذي يحدث الآن، وهو الذي سيظل يحدث مرارا وتكرارا كلما استقر الأمر لبارادايم (أو نموذج فكري) معين في العلم، هي قوة البارادايم إذن وليست قوة التفكير الجمعي.
ثانيا: اللحظة التي قرر بيهي فيها أنه لن يرضى بالغموض والتخمينات وبإسكات الأسئلة، هي اللحظة التي صنعت منه بيهي الذي نعرفه الآن. ورد الفعل هذا، لو وجد لدى عشر العلماء حتى، لتغيرت الساحة العلمية تماما ونهائيا، ولتغير من بعدها العديد من الأشياء في حياتنا.