جائزة نوبل هذا العام في الكيمياء تؤكد على الفشل الكامل للفكرة الداروينية التي تستبدل الحاجة للتصميم والذكاء بالعشوائية والصدف... كيف ذلك؟
أولا: ما هو التطور الدارويني؟
نعيد التذكير بنظرية التطور التي أتى بها داروين منذ قرابة قرن ونصف، من خلال بعض النصوص الشهيرة التي يرددها التطوريون دائما.
يقول تشارلز داروين: "يبدو أنه لا يوجد تصميم في تباين الكائنات الحية، أو في عمل الانتقاء الطبيعي، أكثر من ذلك الموجود في الاتجاه الذي تهب فيه الرياح".(1)
ويقول أيضا: "لا يوجد أدنى دليل على الإيمان بأن التغييرات التي هي الأساس... لتشكيل أكثر الحيوانات المتكيفة إحكاما في العالم، والتي من ضمنها الإنسان، كانت موجهة بشكل خاص ومقصود".(2)
ويرى داروين أن لفظ الانتقاء الطبيعي "مصطلح سيء من بعض النواحي، لأنه يبدو كما لو أنه يعني الاختيار الواعي؛ ولكن هذا سيتم التخلص منه بعد القليل من الألفة. لا أحد يعترض على الكيميائيين عند حديثهم عن "الألفة الانتخابية elective affinity"؛ وبالطبع الحامض ليس لديه اختيار في الاندماج مع القاعدة، أكثر مما لدى ظروف الحياة في تحديد ما إذا كان شكلا جديدا سينتقى أو يحفظ أو لا".(3)
ويقول عالم البيولوجيا التطورية كينيث ميلر في كتابه (البحث عن إله داروين): "التطور عملية طبيعية، والعمليات الطبيعية غير موجهة".(4)
ويقول أيضا: "لا شك في الأمر. أعد تشغيل الشريط، دعه يعيد العمل من جديد، والأحداث ربما تخرج مختلفة في كل مرة. وبالتأكيد هذا يعني أن ظهور البشر على هذا الكوكب لم يكن محتما".(5)
ويقول عالم الحفريات جورج جايلورد سيمبسون في كتابه (معنى التطور): "الإنسان نتيجة لعملية طبيعية غير غائية لم تكن تضعه في الحسبان".(6)
وفي خطاب من 38 عالم، من الحاصلين على جائزة نوبل، إلى مجلس التعليم في ولاية كنساس (لحث المجلس على عدم القبول بالتعريف بنظرية "التصميم الذكي" في مناهج تدريس البيولوجيا): "يفهم التطور على أنه نتيجة عمليات التغييرات العشوائية والانتقاء الطبيعي غير الموجهة وغير المخطط لها".(7)
وإن نظرنا للمناهج التعليمية والكتب الدراسية المختصة بالتطور، نجد الشيء نفسه...
في دورة Understanding Evolution المتاح على موقع جامعة كاليفورنيا بيركلي، والذي يعتبر من أشهر الدورات المتاحة مجانا على الشبكة لكي يتعلم منها الطلاب والعامة التطور، نجد التصريح بأن "التطور عملية غير موجهة".(8)
وفي الكتاب الدراسي الشهير (البيولوجيا)، الذي يفتخر أحد مؤلفيه كينيث ميلر بأنه يدرس في ثلث المدارس الثانوية وفي أكثر من 200 كلية في أمريكا(9)، نجد العبارة الشهيرة: "التطور يعمل بدون خطة أو هدف... التطور عشوائي وغير موجه".(10)
وكذلك دوجلاس فيتوما في كتابه الدراسي المخصص لطلبة الجامعات (البيولوجيا التطورية) يقول بصراحة أننا "لا نستطيع أن نجد أي دليل على وجود أي تصميم أو هدف أو غاية في أي مكان في عالم الحياة".(11)
وبالمثل بيرتون جوتمان في كتابه (البيولوجيا)، يقول: "بالصدفة فقط، ظهر التنوع الرائع لأشكال الحياة خلال مليارات السنين التي قضتها الكائنات في تطورها على كوكب الأرض".(12)
وفي كتاب (الحياة: علم البيولوجيا) يصرح المؤلفون بأن "التغير التطوري يحدث بدون أهداف... التطور ليس موجها نحو هدف نهائي".(13)
وفي كتاب (التطور: مقدمة) الذي تنشره دار جامعة أكسفورد، يشدد المؤلفان على أنه "لا شيء يختار بوعي ما الذي سيتم انتقائه. الطبيعة ليست فاعلا واعيا يختار ما سيتم انتقاءه".(14)
إذن، الخلاصة هي أن الطبيعة عمياء، والطفرات عشوائية تخرج بالصدفة؛ لا يوجد تصميم، ولا يوجد توجيه.
ثانيا: التطور الموجه في هندسة الإنزيمات:
تستعمل الإنزيمات بشكل واسع في العديد من التطبيقات؛ في الصناعات الغذائية والدوائية، وصناعة الأنسجة والأغذية الحيوانية، والإنتاج الكيميائي والوقود الحيوي... إلخ. وفي الوقت ذاته الإنزيمات الطبيعية ليست مناسبة للظروف الصناعية التي تكون درجات الحرارة فيها مرتفعة، ودرجات الحموضة عالية، والتي بها أيضا عدد من الظروف الكيميائية الأخرى التي تتعارض مع التفاعلات الإنزيمية.
لكن باستعمال أدوات الهندسة الوراثية، من الممكن تعديل الإنزيمات الموجودة بعدة طرق. أحد المناهج المستعملة هو (التصميم العقلاني rational design)، وفيه يتم محاولة إجراء التعديل بناء على ما نعرفه بالفعل عن الإنزيمات. والمنهج الآخر هو (التطور الموجه directed evolution)، وفيه يتم التعديل من خلال التطفير العشوائي للكود الجيني لأحد الإنزيمات.
ويشرح لنا البيان العلمي الذي أصدرته لجنة جائزة نوبل المنهجية المستعملة في أبحاث أرنولد للحصول على الإنزيمات المطلوبة:
1) تحديد الإنزيم المناسب للمهمة المطلوبة.
2) إنشاء مكتبة من تسلسلات الدنا DNA لتغطية الأجزاء الفرعية المختارة بعناية من مساحة التسلسلات.
3) تحديد ""معيار الانتقاء"" الذي سيؤدي إلى وظائف جديدة أو محسنة، وتحديد آليات انتقاء المتغيرات الإنزيمية المحسنة.
4) إعادة تشكيل الجينات لخلق مكتبات جديدة من تسلسلات الدنا حول التسلسلات الناتجة من الانتقاء الأول لتغطية الأجزاء الفرعية الجديدة من مساحة التسلسلات.
5) إقامة ""معيار للانتقاء"" بصرامة مرتفعة، وتكرار الأمر في العديد من الجولات على حسب الاحتياج، للوصول للمستوى المطلوب من أداء الإنزيمات.(15)
والسؤال الآن، هل هناك أدنى علاقة بين ما تفعله، وبين ما تفترض نظرية التطور حدوثه في الطبيعة (بناء على نصوص منظري التطور بالأعلى)؟
1) هل هناك غرض محدد في عملية التطور في الطبيعة؟
بالطبع لا، وإلا فالطبيعة إذن عاقلة وذكية!
2) هل هناك "اختيار بعناية" للأجزاء التي ستستهدفها التغييرات (الطفرات) في الطبيعة؟
الإجابة أيضا لا، فالصدفة هي من تدير المشهد في الطبيعة.
3) هل هناك اختيار واع في عملية الانتقاء الطبيعي؟ هل هناك معيار صارم للانتقاء في الطبيعة؟
أيضا لا، وإلا سنعود إلى معضلة وجود الفاعل الواعي بما يفعل.
4) هل معدل التغييرات (الطفرات) التي تحدث في المعمل مساوية أو مقاربة أو بها أدنى شبه بما يحدث في الطبيعة؟
أيضا لا، فكما توضح أرنولد أن التغييرات العشوائية قد تصل إلى المليار، يعني مليار محاولة، ستنجح واحدة منها فقط في الوصول لتعديل واحد فقط على وظيفة واحدة فقط لإنزيم واحد فقط، وبقية المحاولات ستفشل في تعديل وظيفة واحدة لإنزيم واحد.... فماذا عن تشكيل بروتين من الصفر؟ عدد المحاولات المطلوبة لذلك تقدر بـ 16410، مع العلم بأن أبسط خلية تحتاج حوالي 300 بروتين على الأقل (بالإضافة لأشياء أخرى)، ومع العلم بأن هناك ملايين الأنواع وبلايين الخلايا على الأرض.(16)
5) هل الظروف في الطبيعة تسمح بتكرار التجربة مع معيار أكثر صرامة للانتقاء للوصول إلى النتيجة الصحيحة؟
لا ولا، لا الأولى سببها أنه في المعمل يتم التخلص بسهولة من الإنزيمات غير المرغوب فيها، أما في الطبيعة فلا توجد تلك الرفاهية للحفاظ على واحد فقط من بين مليار إنزيم فاشل في أداء الوظيفة المطلوبة، ولا الثانية سببها عدم وجود فاعل عاقل ذكي في الطبيعة، كهذا الموجود في الظروف المعملية، بحيث يتعلم من الخطأ ويزيد من صرامة معيار الانتقاء مع كل محاولة فاشلة.
إذن الخلاصة، لم تسخر أرنولد قدرة التطور كما تدعي هي أو لجنة الجائزة، لا يوجد فيما فعلته "تطور"، إلا أن يكون المقصود المعنى اللغوي للكلمة، كما يقال إن شركات تصنيع المحمول نجحت في صناعة "تطور" هائل في التكنولوجيا.
ثالثا: تجارب "التطور الموجه" تثبت فشل "التطور الدارويني":
تجارب التطور الموجه في هندسة الإنزيمات لا تثبت ضرورة وجود تصميم وذكاء فحسب، بل تثبت أيضا الفشل التام لفرضية التطور الدارويني.
تصرح النيويورك تايمز في تغطيتها للخبر بأنه "في البداية حاولت د. أرنولد استعمال منهجية "التصميم العقلاني"؛ توظيف المنطق ومعرفة كيف تؤدي البروتينات وظائفها لمحاولة بناء إنزيمات جديدة... لكن الإنزيمات جزيئات معقدة وكبيرة –بعضها يتكون من آلاف الأحماض الأمينية– وبالتالي من الصعب معرفة كيف يؤثر تغيير منعطف واحد في الجزيء على مسار عمله. ولما يئست –على حسب قولها– تحولت للتطور".(17)
إذن أرنولد قررت التغلب على عدم وجود المعرفة الكافية ببناء البروتينات باستعمال العشوائية في تجربة كل التعديلات الممكنة، للوصول إلى التعديل المطلوب. أو بعبارة أخرى، لم تحتاج أرنولد إلى التجريب العشوائي لكل الاحتمالات الممكنة إلا في حالة الجهل بالتعديل الصحيح المطلوب. وكما أوضحنا بالأعلى أن تلك العشوائية، رغم أنها مقتبسة من الفكرة التطورية، إلا أنها مختلفة تماما عنها، فمرة أخرى؛ الطبيعة لا توجد بها تلك الرفاهية للحفاظ على واحد فقط من بين مليار إنزيم فاشل في أداء الوظيفة المطلوبة، فكل محاولة فاشلة تقلل من فرص استمرار الحياة على سطح الأرض، وتقلل من الوقت المتاح للمحاولات الذي لا يمكن بحال أن يتجاوز عمر الحياة على كوكب الأرض.
لكن النقطة الهامة حقا، هو أن الحاجة للعشوائية لم تظهر إلا في ظل الجهل بآلية عمل المطلوب. كأن تفقد كلمة مرور أحد الملفات على جهازك، فتقرر أن تبحث عن برنامج (أو تبرمجه بنفسك حتى) لتجربة كل كلمات المرور المكونة من 6 خانات مثلا حتى تصل لكلمة المرور الصحيحة، لكن إذا كنت تعلم كلمة المرور من البداية، فلا حاجة للتجريب العشوائي لكل الاحتمالات الممكنة!
إذن، تثبت التجارب المعملية لتحسين وتطوير وظائف الإنزيمات ضرورة وجود تصميم محكم لنقطة الانطلاق وللبدائل المتاحة وللغاية المراد الوصول لها، وضرورة توظيف المعرفة والمنطق والاستفادة منهما (ولا يستعمل التجريب العشوائي إلا في حالة الجهل بالطريقة الصحيحة لتنفيذ المطلوب)؛ وبالطبع كل ما سبق يصب في إطار نظرية التصميم الذكي، ويثبت فشل التطور الدارويني. هذا كله ونحن نتحدث عن تعديل على وظيفة إنزيم موجود بالفعل، فما بال الحديث عن إنشاء هذا الإنزيم من الصفر، وعن نشأة الخلية الحية الأولى من الصفر وعن نشأة وتنوع كافة الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض بما فيها من بروتينات وإنزيمات وأحماض أمينية ودنا ورنا وأكواد جينية... إلخ.
ما زال للحديث بقية، انتظروا منشوراتنا خلال الأيام القادمة بإذن الله عن المقارنة بين الإنزيمات الموجودة في الطبيعة وبين أقصى ما وصلت إليه تجارب التطور الموجه في هندسة الإنزيمات، وعن موقف المؤسسات العلمية من نظرية التطور بما فيها الأكاديمية السويدية للعلوم المانحة لنوبل، وعن بعض الأمور الأخرى المتعلقة بهذا الحدث.