كما أوضحنا في الجزء الثالث من سلسلة التعليق على جائزة نوبل هذا العام في الكيمياء، أن البيئة الموجودة في التطور الموجه بيئة اصطناعية بالكامل، وإن كانت تثبت صحة شيء، فهي تثبت صحة افتراض استحالة إنشاء أي شيء في الحياة بدون التصميم والذكاء. أما المجال الذي يتم محاكاة الظروف الطبيعية التي يفترض أن التطور يحدث فيها بالفعل، هو مجال التطور التجريبي experimental evolution، كتجارب ريتشارد لينسكي وغيره.
وكما في الفيديو المرفق، يوضح بيهي في كتابه (حافة التطور: البحث عن حدود الداروينية) الأمر بمزيد من التفصيل:
"في بواكر التسعينيات بدأ لينسكي وزملاؤه بتنمية إشريكية قولونية في قوارير؛ وصلت القوارير لسعتها من البكتريا بعد حوالي ست أو سبع تضاعفات. ينقل قسم من البكتريا كل يوم إلى قارورة جديدة. وقد مر الآن ثلاثون ألف جيل من الإشريكية القولونية، ولدت وماتت في مختبر لينسكي، وهو ما يعادل تقريبًا مليون سنة من تاريخ البشرية. في كل قارورة تنمو البكتريا لحجم جماعة يقارب خمسمئة مليون جرثومة. ولد 10 ترليون 1310 إشريكية قولونية على مدار التجربة. ورغم أنَّ رقم عشرة ترليون يبدو كبيرًا (هو ربما أكبر من عدد الرئيسيات بدءًا من رتبة الشمبانزي حتى البشر)...
العمل على الإشريكية القولونية أشار إلى نفس الاتجاه العام... حيث قامت البكتريا المختبرية بما قامت به العوامل الممرضة البرية: مجموعة من تغيرات غير مترابطة غيرت قليلًا أنظمةً موجودة مسبقًا. لم ينتج شيء جديد فعليًا.
لم تحدث تآثرات بروتين-بروتين جديدة، ولا آليات جزيئية جديدة... وخسرت بعض الجماعات البكتيرية قدرتها على إعادة إصلاح الدنا.
كانت إحدى أكثر الطفرات التي شوهدت فائدة، هي التي حدثت عن طريق تكرار في مستعمرات منفصلة، وأدت إلى خسارة البكتريا لقدرتها على صنع سكر الريبوز، وهو جزء من الرنا RNA.
ومن التغيرات الأخرى تغيرٌ في جين منظم يدعى spoT، وهو جين يؤثر تأثيرًا جماعيًا على عمل تسع وخمسين جينًا آخرين، بزيادة أو إنقاص فعاليتها. إحدى التفسيرات المحتملة للتأثير الجيد الصافي لهذه الطفرة الفظيعة هو أنَّها عطَّلت الجينات المستهلكة للطاقة التي تصنع السوط البكتيري، موفرة بعض الطاقة على الخلية.
لكن لم يصنع تحطيم بعض الجينات وتعطيل غيرها أي شيء جديد. فبعد مدة تلاشت التغيرات المفيدة من التجربة.
الحقيقة أنَّ الملاريا والتي سنح لها عدد فرص أكبر بمليار مرة أعطت نمطًا مشابهًا جدًا للدراسات الأبسط منها بكثير على الإشريكية القولونية، مما يشير وبقوة إلى أنَّ ذلك هو كل ما يمكن أن تقوم به الداروينية".(1)
وفي 2010 نشر بيهي ورقة بعنوان "التطور التجريبي، طفرات (فقدان الوظيفة)، و(الدور الأول للتطور التكيّفيّ)"، في مجلة المراجعة البيولوجية الفصلية(2). ساعد هذا المقال في شرح سبب عدم ملاحظتنا لتطور وظائف جديدة للبروتينات.
فبعد مراجعة الكثير من الدراسات في التطور البكتيري والفيروسي، خَلُص بيهي إلى أن معظم التكيفات على المستوى الصغير أو الميكروي "ناتجة عن فقدان أو تعديل وظيفة جزيئية موجودة مسبقًا بالفعل".
وبعبارة أخرى؛ من المفترض أن التطور الدارويني يتقدم على حساب المقاومة الضعيفة، لكن الذي وجده بيهي أن الكائنات الحية أبعد ما تكون عن التطور بفقدانها الوظائف الكيميائية الحيوية الموجودة، مقارنة بقربها من التطور عبر اكتساب الوظائف الجديدة.
وهكذا خلُص بيهي إلى أن "معدل ظهور الطفرة المتكيفة التي قد تنشأ من تقليص أو إلغاء نشاط البروتين قد يكون أكبر بمقدار 100 إلى 1000 مرة من معدل ظهور الطفرة المتكيفة التي تتطلب تغيرات محددة في الجين".
توضح هذه النتيجة أن التطور الجزيئي يواجه مشكلات عديدة. لأن رجحان كفة خسارة (أو نقصان) الوظيفة يقتضي منطقيًا أن تنفد الوظائف الجزيئية لدى الجمهرة الحية الخاضعة للتطور نتيجة فقد الوظائف أو نقصانها.
وهذا عكس ما تفترضه نظرية التطور تماما، فنظرية التطور تفترض أن كل الأشكال الحية نشأت عن طريق الانحدار مع التعديل من سلف مشترك، ومن ثم فإن كافة الوظائف الحيوية الموجودة اليوم في عالم الحياة، تم اكتسابها عن طريق الطفرات التي تعمل آلية الانتقاء الطبيعي على تثبيت الصالح منها. فإذا كان في مقابل كل وظيفة جديدة ستكتسب من خلال الطفرات، سيتم فقدان 100 وظيفة على الأقل عن طريق الطفرات أيضا، فعلى الأرجح أن الوظائف ستفنى والحياة ستنتهي لو كان الافتراض التطوري صحيحا.
(1) مايكل بيهي، حافة التطور: البحث عن حدود الداروينية، مركز براهين يناير 2019، ص152.
(2) Michael J. Behe, “Experimental Evolution, Loss-of-Function Mutations, and ‘The First Rule of Adaptive Evolution,’” The Quarterly Review of Biology, Vol. 85(4):1-27 (December 2010).