ملاحظة المحرر: نشر مايكل بيهي في عام 2020 كتاب (مصيدة فئران لداروين A Mousetrap for Darwin)، جمع فيه مقالاته وردوده على النقاد. لكن أستاذ الكيمياء الحيوية لورانس موران جادل بأن بيهي أساء تفسير الأدلة وأساء فهم أهمية مقاومة الكلوروكين. و سنقدم هنا الجزء الأول من الرد الذي سيكون على مقالين.
تجرأ عالم الكيمياء الحيوية مايكل بيهي في عام 2007 على طرح سؤال، كان ينبغي طرحه بإلحاح وصدق تكرارًا من قبل جميع علماء الأحياء منذ أن جف حبر ما سطره داروين لأول مرة على مخطوطته: ما الذي يمكن أن يحققه التطور بالفعل؟
هذا السؤال معقول وأساسي جدًا في القصة التطورية. ولكن تم تجاهله غالبًا في تاريخ الفكر التطوري. إن الافتراض الراسخ عند جميع أنصار التطور تقريبًا هو أن التطور يمكن أن يفعل كل شيء. لأنه في نهاية المطاف نحن موجودون هنا، أليس كذلك! لذلك فلا فائدة تذكر من طرح السؤال. وللأمانة فقد أجرى هذا التحري مرارًا من حين لآخر على مدى عقود، ولكن هذه الجهود سقطت عادة في ممارسة المصادرة على المطلوب التي تفترض ببساطة مسبقًا أن التطور يجب أن يكون له هذه القوة الإبداعية العظيمة. وهكذا نقول من جديد؛ نحن موجودون هنا، وإن لم نفهم الآليات الدقيقة للتطور، وإن كنا لا نزال نحاول استكمال التفاصيل، وإن كانت هنالك آلية تطورية لم تكتشف بعد، يجب أن يمتلك التطور ببساطة هذه القوة الإبداعية العظيمة.
اشتهر استخدام عالم الحفريات ستيفن جاي غولد لهذا التكتيك، وحاجج بأنه وإن لم نفهم بالضبط كيف يعمل التطور، فلا يزال يتعين علينا اعتبار التطور حقيقة واقعة، لأن الأشياء قد تطورت فعلًا. وقام فيليب جونسون بكشف ستيفن غولد للعيان لاستخدامه هذه المحاولة الدائرية التي تخدم مصالحه الذاتية لدعم التطور حيث كشف تحليل جونسون الدقيق أن "حقيقة" غولد للتطور تبين أنها لا تعني أكثر من النظرية ذاتها.
ولأن بيهي لم يرض بالمنطق الدائري للتطور والتفكير الكسول، قرر طرح سؤاله وفق بيانات العالم الحقيقي. ماذا تُظهر الأدلة الفعلية حول ما يمكن أن يفعله التطور؟ تناول بيهي المشكلة من عدة زوايا، أشهرها تحليله لظهور مقاومة الكلوروكين في طفيلي الملاريا أحادي الخلية : المتصورة المنجلية Plasmodium falciparum.
الكثير والكثير من الخلايا
القصة باختصار أن بيهي لاحظ أن عقار الكلوروكين المضاد للملاريا كان أكثر نجاحًا بكثير من بقية الأدوية الأخرى المضادة للطفيلي، حيث نشأت مقاومة الكلوروكين فقط في خلية واحدة من أصل 10 ^ 20 خلية طفيلي تقريبًا، وفق ما قدره عالم المناعة نيكولاس وايت Nicholas White، وهو خبير معروف في أبحاث الملاريا. من الصعب علينا استيعاب هذا الرقم ولكن بالمقارنة يقدر علماء الفلك أنه لا يوجد سوى ما بين 10 ^ 11 و 10 ^ 12 نجماً في مجرتنا درب التبانة.
على الرغم من أن التفاصيل الجزيئية لمقاومة الكلوروكين كانت لا تزال غامضة في وقت صدور كتاب بيهي لعام 2007، حافة التطور، استنادا إلى بيانات الملاريا المتاحة آنذاك، اقترح بيهي أن مقاومة الكلوروكين قد تتطلب وجود طفرتين تعملان معًا. كان ينبغي أن تنشأ طفرة نقطية (كما رأينا مع بعض الأدوية الأخرى) أو سلسلة من الطفرات المفيدة الفردية المتكررة أكثر بكثير من تقدير وايت 10 ^ 20. وأشار بيهي إلى أن البيانات ببساطة لا تتناسب مع مثل المقاربات، لذلك كان التفسير الأقرب هو أن هناك حاجة إلى طفرتين تعملان معًا.
استاء أنصار التطور كما هو متوقع. أكد جيري كوين وشون كارول أن بيهي مخطئ بأساس الأمر. فالخلاصة أنهم جادلوا بأن مقاومة الكلوروكين يمكن أن تتحقق أيضًا من خلال سلسلة من الطفرات النقطية المفيدة خطوة بخطوة. ولن نخوض في أن هذا الادعاء يتناقض تمامًا مع البيانات لأن ذلك ليس موضوعنا.
لم يغب عن المراقبين المتأنين أن من المفارقة اقترح بيهي أن المتصورة قد تكتسب في الواقع طفرتين منسقتين عبر طريق تطوري. لكن مع ذلك، تصميمًا منهما على الحفاظ على تقاليد "خطوة صغيرة واحدة في كل مرة للتطور"، رفض كوين وكارول اقتراح بيهي وجود طفرتين منسقتين. وراهنا في نوع إبداعي غريب من المقامرة العكسية، "سنرى طفرتيك ونجعلهما طفرة واحدة!"
تخبطت الحجج على مدى السنوات القليلة التالية ذهابا وإيابا، واهدر المزيد من الحبر من قبل المتناظرين أكثر مما يهدره متدرب أخرق في المطبعة. ومع ذلك، وعلى الرغم من انتقاء التعريفات، والجدال الرياضي، والاتهامات المتكررة بأن بيهي بالتأكيد لا يفهم كيف يعمل التطور حقًا، فإن الذين تابعوا معركة الذكاء دون أن يشاركوا فيها قد لاحظوا أن سؤال بيهي الأساسي ظل دون إجابة من قبل منتقديه: كم يمكن للتطور أن يحقق التطور فعليّاً؟
موران وحظ القرعة
كان أحد أكثر المنتقدين تفاعلا لحجة بيهي هو الدكتور لاري موران Larry Moran، وهو أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة تورنتو. يبدو أن موران يتفق مع السرد التطوري الأوسع نطاقًا، لكنه لا يعتبر نفسه داروينيًا. قبل وقت قصير من نشر بيهي لكتابه حافة التطور، نشر موران وصفا مفصلا لوجهات نظره على مدونته Sandwalk بعنوان "التطور عن طريق الصدفة". طرح موران الحجة لوجهة نظر غير داروينية للتطور، اعتمدت على حجة جاك مونو بأن "الصدفة البحتة... في صميم صرح التطور المذهل"، فضلًا عن تشبيه غولد الشهير بإعادة تشغيل شريط الحياة replay-the-tape-of-life analogy.
على العموم أتفق مع تقييم موران لعشوائية التطور، ومجادلتي الأساسية هي أن موران لا يمضي كفاية في الاعتراف بدور الصدفة في السرد التطوري، وتحديدًا في حالة ما يسمى بالأحداث الانتقائية. إذ بعد تحليل دقيق، تنتهي آلية اختيار داروين أيضًا إلى أمر يقوم غالبًا على الصدفة، وبالتالي فإن الجهد المبذول للنأي بالنفس عن ظل داروين من خلال تبني التطور العشوائي تمييز دون فرق حقيقي. ومع ذلك هنالك فارق بسيط ننفاشه في وقت آخر، إن حظيت بشرف لقاء ودي موران.
النقطة الرئيسية التي أوردها للقراء هنا هي أن موران وقد تسلح بوجهة نظره المتمحورة حول الصدفة للتطور، قد انغمس في نقاش بيهي حول مقاومة الكلوروكين. كان الأخذ والرد بين موران وبيهي (ومؤيديهما ومنتقديهما) خلال صيف عام 2014 أوسع من أن يتم تفصيلها هنا. وبعد عدة سنوات من السلام النسبي (على الأقل على هذه الجبهة بالذات)، بدأت المعركة من جديد.
لإسكات الاتهام الزائف بأنه لا يرد على منتقديه، نشر بيهي في نوفمبر 2020 كتابه مصيدة فئران لداروين، وهي مجموعة من التفنيدات العديدة لنقّاد كتبه الثلاثة السابقة. وأورد في كتاب مصيدة الفئران عدة ردود على موران. وسرعان ما كتب موران ردا سريعا على مدونته Sandwalk يجادل أساسًا بأن بيهي كان مخطئًا بشأن كيفية حدوث مقاومة الكلوروكين وأساء تفسير آليات التطور.
سوء فهم من قبل بيهي أم سوء فهم لوجهة نظر بيهي؟
ومن الجدير بالذكر أن موران يقر بالاتجاه الرئيسي لحجة بيهي، مشيرًا إلى أن:
لقد حدد بيهي بشكل صحيح [كذا] حدثا تطوريا غير محتمل للغاية. أي تطوير مقاومة الكلوروكين في طفيلي الملاريا. هذا حدث قريب من حافة التطور، مما يعني أن الأحداث الأكثر تعقيدًا من هذا النوع تتجاوز حافة التطور، ولا يمكن أن تحدث بشكل طبيعي. [التوكيد مضاف.]
هذا إقرار مهم للغاية، وقد يقول قارئ كتاب حافة التطور لموران، "مرحبا بك في سفينتنا!"
وبدلًا من ذلك، يبدو أن الاعتراض الرئيسي لموران (الذي أقنعه به في أوقات مختلفة كل من بي زد مايرز، وكينيث ميلر، ورفاقهم) هو أن بيهي أساء فهم الكيفية التي نشأت بها مقاومة الملاريا. يقر موران بأنه "لا أحد منا يعترض على التخمين [طفرة واحدة 1 في 10 ^ 20 انقسام لخلايا الملاريا] ، لكن العديد منا اعترض على طريقة تفسيرها من بيهي".
بالعودة إلى عام 2007 ، نتذكر أن بيهي اقترح أن أبسط تفسير للندرة الشديدة لمقاومة الكلوروكين هو أن هناك حاجة إلى طفرتين منسقتين على الأقل. كان هذا في تناقض صارخ مع عقار atovaquone ، على سبيل المثال ، الذي يتطلب طفرة نقطية واحدة فقط ، والذي نشأت ضده المقاومة بشكل أسرع من الوقت الذي يلزم الشخص العادي لتعلم نطق "Plasmodium falciparum" (الاسم اللاتيني للمتصورة المنجلية).
لاحظ كيسي لُسكين أن بعض منتقدي بيهي قد جلبوا الكثير من السخط لاستخدام بيهي لكلمة "متزامنة simultaneous"، ولكن كان من الواضح لأي قارئ عاقل لكتاب حافة التطور أن بيهي لم يزعم أبدًا أن الطفرتين يجب أن تنشآ في اللحظة نفسها في ضربة واحدة، أي كأن تحدث في دورة التكاثر نفسها بالضبط. كانت وجهة نظره ببساطة أن الطفرتين يجب أن تكونا معًا في نهاية المطاف في نقطة زمنية معينة في خلية معينة لمنح الفائدة المطلوبة، بغض النظر عن وقت ظهور الطفرتين بالضبط أو أي طفرة جاءت أولًا. على عكس بعض منتقدي بيهي، وافق موران، إلى حد ما، وجهة نظر بيهي حول الطفرات التي يجب أن تكون معًا في وقت واحد لتوفير الفائدة المطلوبة. إلا أن قلق موران كان أكثر حول الطرق المحتملة لمقاومة الكلوروكين.
فما هي التخمينات المعقولة؟
لم يكن من الواضح على الإطلاق في عام 2007 – على حد علمي لا يزال غير واضح تمامًا - بالضبط الطرق الطفرية المتاحة عمومًا للمتصورة في البشر، ولا جميع العوامل أو الفروق الدقيقة الأخرى التي قد تؤثر على المشكلة. ويشير موران نفسه إلى أن "هناك الكثير من التعقيدات والعديد من المتغيرات غير المعروفة" وأنه يمكننا "تقديم تقديرات" ولكن "لا يمكننا إعطاء حسابات دقيقة".
كان أفضل ما يمكن القيام به أثناء انتظار إجراء بحث أكثر تحديدًا في عام 2007 هو إجراء تخمين مدروس فيما يتعلق بالمسار (المسارات) الدقيقة لمقاومة الكلوركوين. والسؤال يتلخص في ما هي التخمينات المعقولة في ضوء بيانات الملاريا؟
بينت ورقة مهمة لسومرز وزملائه Summers في عام 2014 أمورا جديدا في تطور مقاومة الكلوروكين. على الرغم من أن هذا البحث يقتصر على التجارب التي تنطوي على بويضات الضفادع في المختبر، إلا أنه قدم أدلة تجريبية قوية تفصل الطفرات المحددة المعنية. حدد الباحثون طريقين أوليين لمقاومة الكلوروكين، مع طفرات إضافية تؤدي إلى "تحقيق نشاط النقل الكامل". هجم منتقدو بيهي على هذا الأمر باعتباره شرخًا محتملًا في حجة بيهي، متمسكين بإمكانية وجود طرق مختلفة لتحقيق مقاومة الكلوروكين، بما في ذلك مجموعات طفرات لأكثر من طفرتين.
أشار بيهي من جهته، وهذا الصحيح، إلى أن البحث الجديد بكل اعتبار يدعم حجته الأساسية. في الواقع أهم نتيجة رئيسية لبحث سومرز وزملائه هي أن مقاومة الكلوروكين حدث متعدد الطفرات، يتطلب كلا الطريقين المحددين للمقاومة "طفرتين اثنين على الأقل" للبدء. وهكذا تنبؤ بيهي عام 2007 قد ظهرت صحته وهو أن مقاومة الكلوروكين لم تنتج عن سلسلة من الطفرات الفردية المفيدة، ولكنها تتطلب حدثًا متعدد الطفرات. ومع ذلك، لا يزال النقاد يؤكدون أن الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه كان في مكان آخر.
في الجزء الثاني من هذا الرد، سنمحص البيانات والآثار المترتبة لمقاومة الكلوروكين على القصة التطورية الأوسع.