ما هو معنى التطور؟! هذا السؤال نرى أن الالتزام به ضرورة لا غنى عنها لكل أطراف الحوار، لأننا إن كنا سنختلف حول شيء، لا بد أن نعرف جيدا ما المقصود به، ولا بد أن تكون هذه المعرفة موثقة ومحررة جيدا، ولا بد أن ننحي جانبا انطباعاتنا وقناعاتنا المسبقة.
أصدرنا حتى الآن أكثر من 14 كتاب في معارضة التطور، وهذا المنشور ليس لاستعراضها ولا لاختصارها ولا حتى لبيان أسبابنا في معارضة التطور. ولكن الهدف هنا فقط هو تحرير المفاهيم.
ثمة معان للتطور ليست محل خلاف. من تلك المعاني: (تغير الكائنات الحية بمرور الزمن)، و(إمكانية تكيف الكائنات الحية مع الظروف البيئية المتغيرة)، و(إمكانية تغير تتابع الجينات في الجماعة الحية). لو كان هذا فقط ما تعنيه كلمة (التطور) إذًا لتركها الناس لحالها دون أذى. لكنّ هذه التعاريف تنطوي على تملّص واضح، فلو كان معنى التطور هو مجرد وجود التغير مع مرور الزمن فقط، فلن نجد بين الناس من يجادل حول هذه النظرية مطلقًا.
لكن النظرية لا تقف إطلاقا عند هذا الحد، فالنظرية التطورية تدعي حدوث أمرين:
1) انحدار البكتيريا –التي تطور مقاومتها ضد المضادات الحيوية–، والبشر –الذين يملكون جهازاً مناعياً عاجزاً عن صد الجراثيم–، والكائنات الحية الأخرى؛ من سلف مشترك واحد وجد في الماضي السحيق.
2) تتم العمليات التي أنتجت البكتيريا وكل الكائنات الحية الأخرى عن طريق الطفرات العشوائية (أخطاء النسخ الجيني) والتي يعمل الانتخاب الطبيعي على تثبيت الأصلح منها في ذرية الكائن، ثم مع تكرار العملية نفسها يتحول نوع لنوع جديد، وتنشأ الممالك والشعب والأصناف وكل التصنيفات البيولوجية بنفس الطريقة.
تبعات تلك النظرية في واقعنا على الفلسفة والدين والسياسة والمجتمع والأخلاق لا يمكن إنكارها، أحد أشهر علماء الأعصاب الملحدين (رايموند تاليس) ألف كتابا في 2014 بعنوان (قردنة البشر Aping Mankind) يحذر فيه من تلك المحاولات المستمرة لدرونة الإنسانية، وهذا ليس جديدا، (آدم سيدچويك) نفسه، أستاذ داروين السابق للأحياء بجامعة كيمبريدج، عبر عن خوفه البالغ فور قراءته لكتاب (أصل الانواع)، وأرسل خطابا لداروين عام 1859 قال له فيه: "هناك فقرات كاملة في كتابك... صدمت ذائقتي الأخلاقية... إن ذروة عظمة العلوم الطبيعية أنها تربط المادة بالأخلاق... وقد تجاهلت أنت هذا الرابط، وإذا لم أخطئ في فهم مرادك، فقد حاولت جاهدا لكسر هذا الرابط في حالة هامة أو حالتين. وإذا أصبح كسر هذا الرابط بين المادة والأخلاق ممكنًا –وأشكر الرب أنه ليس كذلك– أظن أن الإنسانية ستعاني ضررًا قد يصيبها بالتوحش، وسيغرق الجنس البشري في أدنى درجات الانحطاط التي لم يسبق أن وصل إليها حسبما يوثق تاريخه المكتوب".(1)
لم يكن على سيدجويك الانتظار طويلًا لتتحقق مخاوفه، فقد كان أنصار الداروينية في ألمانيا في أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، قادرين بالفعل على إغراق "الجنس البشري في أدنى درجات الانحطاط التي لم يسبق أن وصل إليها حسبما يوثق تاريخه المكتوب".
الحاضر ليس أكثر إشراقا من الماضي، ووصف (دانيال دينيت) لـ"فكرة داروين الخطيرة" بأنها "حامض عالمي"، يأكل في طريقه كل المعتقدات التقليدية عن الدين والأخلاق، ليس مجافيا للواقع. ويلخص لنا أحد أشهر أنصار التطور الألوهي ونائب رئيس بيولوجوس السابق (كارل جيبرسون) في كتابه مع (دونالد يوركسا) واقع الساحة العلمية اليوم: "لا يوجد فرد واحد بارز بين المتصدرين لشرح العلم بالطريقة الشعبية (popularizer of science) يتبنى بشكل علني الآراء الدينية التقليدية، وهناك القليليون جدا ممن يتنبى الآراء التي يمكن أن توصف بأنها دينية". ويكملان أن العديد من هؤلاء الكتّاب "يعادون الأديان التقليدية بقوة، وملتزمين بتوضيح أن العلم ليس فقط يفشل في إثبات أية منظورات دينية، لكن يمكنه فعلا أن يعري ويدحض أي منظورات دينية في العالم".(2)
كارل جيبرسون، ومؤسسة بيولوجوس، يتنبون بالطبع أن العيب في هؤلاء المتصدرين للمشهد من أفراد المجتمع العلمي، وليس في التطور أو الداروينية نفسها، فهل معهم الحق في ذلك؟
دعونا نرى نظرية التطور على صورتها الحقيقية منذ نشأتها مع داروين، يقول داروين: "يبدو أنه لا يوجد تصميم في تباين الكائنات الحية، أو في عمل الانتقاء الطبيعي، أكثر من ذلك الموجود في الاتجاه الذي تهب فيه الرياح".(3)
ويقول أيضا: "لا يوجد أدنى دليل على الإيمان بأن التغييرات التي هي الأساس... لتشكيل أكثر الحيوانات المتكيفة إحكاما في العالم، والتي من ضمنها الإنسان، كانت موجهة بشكل خاص ومقصود".(4)
ويرى داروين أن لفظ الانتقاء الطبيعي "مصطلح سيء من بعض النواحي، لأنه يبدو كما لو أنه يعني الاختيار الواعي؛ ولكن هذا سيتم التخلص منه بعد القليل من الألفة. لا أحد يعترض على الكيميائيين عند حديثهم عن "الألفة الانتخابية elective affinity"؛ وبالطبع الحامض ليس لديه اختيار في الاندماج مع القاعدة، أكثر مما لدى ظروف الحياة في تحديد ما إذا كان شكلا جديدا سينتقى أو يحفظ أو لا".(5)
لكن النظرية تغيرت كثيرا بعد داروين، وهذا صحيح بالطبع، ولكن لم تتغير الأعمدة الأساسية من تغيرات عشوائية وانتقاء طبيعي وسلف مشترك، لكن على أي حال دعونا نستعرض أقوال منظري التطور بعد داروين.
(إرنست ماير)، التطوري الشهير وأحد مؤسسي التركيبة التطورية الحديثة (أو الداروينية الحديثة)، يقول في كتابه (ما هو التطور؟): "الخطوة الأولى في الانتقاء، إنتاج الاختلاف الجيني، تكاد تكون بالكامل وحصريا ظاهرة صدفوية، بيد أن طبيعة التغيرات في موضع محدد مقيدة بشدة".(6)
ويقول أيضا: "إن الإنجاز البارز حقًا لمبدأ الانتقاء الطبيعي هو أنه يزيل ضرورة استحضار "الأسباب النهائية"– والتي هي أي قوى غائية تؤدي إلى غاية نهائية معينة. وفي الحقيقة ليس هناك شيء مقدر مسبقا".(7)
ويقول عالم الحفريات الأمريكي الأكثر تأثيرًا وأحد مؤسسي التركيبة التطورية الحديثة (جورج جايلورد سيمسون) في كتابه (معنى التطور): "الإنسان نتيجة لعملية طبيعية غير غائية لم تكن تضعه في الحسبان".(8)
ويقول دوكينز أن الانتخاب الطبيعي هو صانع الساعات الأعمى، لا لا، عفوا، دوكينز ملحد متطرف...
حسنا، يقول عالم البيولوجيا التطورية المسيحي الكاثوليكي (كينيث ميلر) في كتابه (البحث عن إله داروين): "التطور عملية طبيعية، والعمليات الطبيعية غير موجهة".(9)
وفي خطاب من 38 عالم، من الحاصلين على جائزة نوبل، إلى مجلس التعليم في ولاية كنساس (لحث المجلس على عدم القبول بالتعريف بنظرية "التصميم الذكي" في مناهج تدريس البيولوجيا) نرى تعريفهم للتطور على أنه:
"يفهم التطور على أنه نتيجة عمليات التغييرات العشوائية والانتقاء الطبيعي غير الموجهة وغير المخطط لها".(10)
وفي إحصائية بيو الشهيرة، وهي إحصائية أجريت على 2500 عالم من أعضاء الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم AAAS، ويحب أنصار التطور الاستشهاد بها دوما لإثبات أن هناك 97% من العلماء يؤيدون التطور(11)، نجد أن من بين الـ 97% من تلك العينة، 87% منهم يرون أن البشر والكائنات الحية الأخرى تطوروا عبر الزمن عن طريق العمليات الطبيعية، و8% فقط منهم يرون أن التطور تم توجيهه من قبل كائن أعلى supreme being. وبالرغم من أن نفس الإحصائية توضح أن تلك العينة من العلماء، 33% منهم يؤمنون بإله، و18% منهم يؤمنون بقوة أعلى، بمعنى أنه بالرغم من إيمان 51% من العينة بكائن أعلى، 8% فقط من العينة يؤمنون أن هذا الكائن الأعلى تدخل في العملية التطورية، مما يؤكد على أن نسبة الـ 87% التي لا ترى أن هناك توجيها للتطور من قبل كائن أعلى، هي التي تعبر عن النظرة السائدة للتطور في الأوساط العلمية الحالية.(12)
بالطبع هذه الأرقام لا تعني شيئا بالنسبة لمن يعرف طبيعة العلم، فعلى مدار التاريخ، غالبا ما تم إثبات أن الإجماع العلمي غير جدير بالثقة. في عام 1500، انعقد الإجماع العلمي على أن الشمس تدور حول الأرض، الرأي الذي هدمه نيكولاس كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي. وفي عام 1750، انعقد الإجماع على أن بعض الكائنات الحية (كالديدان) تنشأ من خلال التولد الذاتي، الرأي الذي هدمه فرانشيسكو ريدي ولويس باستور. وهناك العديد من هذه الأمثلة في تاريخ العلم.(13) وبالتالي إجماع العلماء الحالي على نظرية التطور أو على غيرها من النظريات، لا يثبت كونها حقيقة، أقصى ما يمكن أن يثبته الإجماع العلمي على شيء ما، هو أن هذا الشيء يعبر عن القناعة السائدة المقبولة حاليا، لكن الإجماع العلمي متغير بطبيعته، وتعليق الثقة عليه (مع المعرفة المسبقة بأنه متغير عبر التاريخ) عملية نفسية يترفع عنها أي مفكر جاد.
لكن لنكمل مسيرة التعرف على نظرية التطور، ولننتقل للنظر للمناهج التعليمية والكتب الدراسية المختصة بالتطور والبيولوجيا... فهل الصورة مختلفة هناك؟
في موقع Understanding Evolution المتاح على موقع جامعة كاليفورنيا بيركلي، والذي يعتبر من أشهر الدورات المتاحة مجانا على الشبكة لكي يتعلم منها الطلاب والعامة التطور، نجد التصريح بأن "التطور عملية غير موجهة".(14)
وفي الكتاب الدراسي الشهير (البيولوجيا)، الذي يفتخر أحد مؤلفيه كينيث ميلر بأنه يدرس في ثلث المدارس الثانوية وفي أكثر من 200 كلية في أمريكا(15)، نجد العبارة الشهيرة: "التطور يعمل بدون خطة أو هدف... التطور عشوائي وغير موجه".(16)
وكذلك دوجلاس فيتوما في كتابه الدراسي المخصص لطلبة الجامعات (البيولوجيا التطورية) يقول بصراحة أننا "لا نستطيع أن نجد أي دليل على وجود أي تصميم أو هدف أو غاية في أي مكان في عالم الحياة".(17)
وبالمثل بيرتون جوتمان في كتابه (البيولوجيا)، يقول: "بالصدفة فقط، ظهر التنوع الرائع لأشكال الحياة خلال مليارات السنين التي قضتها الكائنات في تطورها على كوكب الأرض".(18)
وفي كتاب (الحياة: علم البيولوجيا) يصرح المؤلفون بأن "التغير التطوري يحدث بدون أهداف... التطور ليس موجها نحو هدف نهائي".(19)
وفي كتاب (التطور: مقدمة) الذي تنشره دار جامعة أكسفورد، يشدد المؤلفان على أنه "لا شيء يختار بوعي ما الذي سيتم انتقائه. الطبيعة ليست فاعلا واعيا يختار ما سيتم انتقاءه".(20)
إذن، يمكننا تلخيص الأمر في نقاط ثلاث:
1- التطور الذي يدرس في الجامعات وترى المؤسسات الرسمية والأكاديمية الحالية صحته هو عبارة عن عملية طبيعية غير موجهة، أول خطوة فيها هي الطفرات، وهي عبارة عن أخطاء تحدث أثناء نسخ الجينات بشكل عشوائي، وإذا ظهر من تلك الأخطاء ما يؤدي إلى تعديل مفيد على المستوى الجيني، تحدث الخطوة الثانية، وهي انتقاء طبيعي يثَبت نتيجة التعديل الجيني الذي حدث من خطأ في النسخ، ثم تحدث الخطوة الثالثة، وهي انتقال النتيجة المفيدة لأبناء الكائن عن طريق التكاثر، ثم مع تكرار تلك الخطوات الثلاثة تتفرع الحياة وتنشأ الأنواع الحية التي نراها اليوم.
2- المحاولات المستمرة من أنصار التطور الألوهي أو الخلق التطوري، سواء في مؤسسة بيولوجوس أو خارجها، تتجاهل دوما حقيقة أن المجتمع العلمي الذين يحتجون بإجماعه لا يرى مكانا للتوجيه الإلهي في النظرية، وتتجاهل أيضا حقيقة كونهم أقلية مثلهم مثل معارضي التطور.
3- التطور له تبعات لا يمكن إنكارها، له تبعات على أسئلة العقل والأخلاق واللغة والدين والسياسة والقانون، وبالتالي فنحن أمام منظومة كاملة، لا يسعنا أن نقبل أصلها ثم لا نقبل أن نتناقش حتى في فروعها، خاصة وإن كانت تلك الفروع لها حظها الوافر من القبول والترحيب والانتشار داخل الوسط العلمي والفلسفي.
(1) د. ريتشارد وايكارت، من داروين إلى هتلر، براهين 2019، ص14.
(2) Karl W. Giberson, Donald A. Yerxa, Species of Origins: America's Search for a Creation Story, Rowman & Littlefield Publishers, Inc. (October 9, 2002), p122.
(3) Francis Darwin, ed., The Life and Letters of Charles Darwin, Including an Autobiographical Chapter (London: John Murray, 1887), I:309.
(4) Charles Darwin, The Variation of Animals and Plants under Domestication, second edition (New York: D. Appleton & Co., 1883), vol. II, pp. 428-429.
(5) Ibid.
(6) Ernst Mayr, “What is Evolution?”, Basic Books 2001, p325.
(7) Ernst Mayr, “Darwin’s Influence on Modern Thought,” Scientific American (July 2000), p80.
(8) George Gaylord Simpson, The Meaning of Evolution: A Study of the History of Life and of Its Significance for Man, revised edition (New Haven: Yale University Press, 1967), p. 345.
(9) Kenneth Miller, Finding Darwin’s God, p. 244.
(10) Ibid, p. 272.
(10) The Elie Wiesel Foundation for Humanity: Nobel Laureates Initiative (September 9, 2005).
(11) Pew Research Center, "Public Praises Science; Scientists Fault Public, Media", July 9, 2009, Section 5: Evolution, Climate Change and Other Issues, https://www.people-press.org/2009/07/09/section-5-evolution-climate-change-and-other-issues/, Last Accessed April 6, 2019.
(12) Pew Research Center, "Public Praises Science; Scientists Fault Public, Media", July 9, 2009, Section 4: Scientists, Politics and Religion, https://www.people-press.org/2009/07/09/section-4-scientists-politics-and-religion/, Last Accessed April 6, 2019.
(13) د. جوناثان ويلز، العلم الزومبي: أيقونات التطور من جديد، براهين 2019، ص14.
(14) The path not taken, Understanding Evolution website, https://evolution.berkeley.edu/evolibrary/article/3_0_0/constraint_18, Last Accessed April 6, 2019.
(15) Kenneth R. Miller, Kitzmiller v Dover Area School District, Trial Transcript: Day 1 am Session (September 25, 2005), pp. 41, 44.
(16) Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Englewood Cliffs: Prentice Hall, 1991), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Englewood Cliffs: Prentice Hall, 1993), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Engelwood Cliffs: Prentice Hall, 1995), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Upper Saddle River: Prentice Hall, 1998), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Upper Saddle River: Prentice Hall, 2000), p. 658.
(17) Douglas J. Futuyma, Evolutionary Biology (Sunderland: Sinauer Associates Inc. 1998), p. 8.
(18) Burton S. Guttman, Biology (Boston: McGraw Hill, 1999), p. 37.
(19) William K. Purves, David Sadava, Gordon H. Orians, & H. Craig Keller, Life: The Science of Biology (6th ed., Sinauer; W.H. Freeman and Co., 2001), pg. 3.
(20) Stephen C. Stearns & Rolf F. Hoeckstra, Evolution: An Introduction, (2nd ed., Oxford University Press, 2005) pg. 30.