* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (توقيع في الخلية: الدنا وأدلة التصميم الذكي) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
بسبب الصعوبات التي تواجه فرضية عالم الرنا والعدد المحدود من الوظائف الإنزيمية التي يمكن أن تنجزها الإنزيمات الريبوزية الموجودة طبيعيًّا، انتشرت صناعة مخبرية جديدة في البيولوجيا الجزيئية، حيث سعى العلماء المناصرون لفكرة عالم الرنا لتصميم جزيئات رنا جديدة ذات وظائف لم نشاهدها من قبل، لم يأمل العلماء بذلك في زيادة معرفتهم بكيمياء الرنا فقط، ولكن أيضًا في إثبات احتمالية فرضية عالم الرنا، بل وحتى إمكانية إنشاء نوع من حياة اصطناعية.40
عادة تستعمل تجارب هندسة الإنزيمات الريبوزية هذه إحدى طريقتين: أسلوب "التصميم العاقل" أو أسلوب "التطور الموجه"، وفي كلا الحالتين يسعى البيولوجيون إلى توليد نسخ أكثر فعالية من الإنزيمات الريبوزية أو إنزيمات ريبوزية جديدة بالكلية قادرة على إنجاز بعض الوظائف البروتينية الأخرى، في أسلوب التصميم العاقل يعدل الكيميائي مباشرة تسلسلات محفزات الرنا الموجودة في الطبيعة، أما في أسلوب التطور الموجه (أو "التصميم غير العاقل") يحاول العلماء محاكاة شكل من الانتقاء الطبيعي قبل الحيوي لإنتاج إنزيمات ريبوزية ذات قدرات وظيفية محسنة، فيغربلون مجموعات من جزيئات الرنا باستعمال أفخاخ كيميائية لعزل الجزيئات التي تنجز وظائف معينة، وبعد انتقاء هذه الجزيئات من المجموعة، يولدون نسخًا متنوعة من هذه الجزيئات بالتعديل العشوائي (التطفير) لجزء من تسلسل الجزيئة الأصلية، ثم ينتقون أكثر الجزيئات وظيفيةً في هذه المجموعة الجديدة ويعيدون العملية مرات عدة إلى أن تنتج زيادة محسوسة في الوظيفة المطلوبة.
أُنجزت معظم إجراءات هندسة الإنزيمات الريبوزية على الليغازات، وهي ريبوسومات يمكنها وصل سلسلتي رنا (من السلاسل القصيرة oligomers) مع بعضهما بتشكيل رابطة (فوسفورية ثنائية الإستر) مفردة بينهما، ويريد مهندسو الإنزيمات الريبوزية إثبات أن هذه الليغازات يمكنها أن تتحول إلى بوليميرازات حقيقية أو "ريبلكازات"، لكن هذه البوليميرزات لن تربط الأسس النكليوتيدية فقط (بروابط فوسفورية ثنائية الإستر)، ولكن ستثبت طيقان القالب المكشوفة أيضًا، وسوف تستعمل الأسس المكشوفة كقالب لصنع نسخ ذات تسلسل معين.
إن البوليميرزات هي الكأس المقدسة والدرة المفقودة بالنسبة لهندسة الإنزيمات الريبوزية، وفقًا لفرضية عالم الرنا، فإنه بمجرد نشأة بوليميراز قادر على التضاعف الذاتي بتوجيه قالب، فإنه سيجعل من الانتقاء الطبيعي عاملًا في التطور الكيميائي اللاحق للحياة، وبما أن الليغازات تنجز وظيفة واحدة –وواحدة فقط– من الوظائف العديدة التي تنجزها البوليميرازات الحقيقية، توقع منظرو عالم الرنا أن الليغازات هي الجزيئات السلفية التي نشأت منها البوليميرازات ذاتية التضاعف، وحاولوا إثبات إمكانية ذلك باستعمال هندسة الإنزيمات الريبوزية لبناء بوليميرازات (أو ريبلكازات) انطلاقًا من إنزيمات ليغاز ريبوزية أبسط.
لم ينجح أحدٌ حتى الآن في هندسة بوليميراز رنا مرتكزًا على الرنا تام الفعالية، سواءً من ليغاز أو من غيره،41 ولكن مهندسي الإنزيمات الريبوزية استعملوا التطور الموجه لتحسين وظيفة بعض الأنواع الشائعة من الليغازات، وكما أشرنا سابقًا، فقد أنتجوا أيضًا جزيئة تستطيع أن تنسخ قسمًا صغيرًا من نفسها، وقدم رواد هندسة الإنزيمات الريبوزية مثل جاك شوستاك وديفيد بارتل David Bartel هذه النتائج على أنها تدعم عملية التطور الكيميائي غير الموجه الذي بدأ في عالم الرنا،42 وقد بشرت المنشورات العلمية والكتب المشهورة كثيرًا بهذه التجارب كنماذج لفهم نشأة الحياة على الأرض واعتبروها طليعة البحث العلمي الذي يثبت إمكانية تطور شكل اصطناعي من الحياة في أنبوب اختبار.
إلا أن هذه المزاعم بها عيب واضح، يميل مهندسو الإنزيمات الريبوزية إلى إغفال دور ذكائهم في تحسين القدرات الوظيفية لمحفزات الرنا التي أنتجوها، فالطريقة التي استخدم بها المهندسون ذكاءهم في مساعدة عملية التطور الموجه لا يوجد لها نظير في ظروف العالم قبل الحيوي –على الأقل في عالم دفعت فيه العمليات غير الموجهة فقط التطور الكيميائي للأمام– على الرغم من أن هذه هي عين الظروف التي يفترض أن تحاكيها تجارب الإنزيمات الريبوزية.
يتخيل أنصار عالم الرنا تطور الليغازات عبر عملية غير موجهة ابتداءً من أسس حرة إلى بوليميرازات رنا يمكنها أن تضاعف نفسها، ومن ثمّ تنشأ الظروف الملائمة لبداية الانتقاء الطبيعي، بعبارة أخرى؛ تحاول هذه التجارب محاكاة انتقالٍ يحصل –طبقًا لنظرية عالم الرنا– قبل أن يكون الانتقاء الطبيعي قد بدأ في عمله أصلًا، ولكن حتى يحسنوا وظيفة جزيئات الليغاز قاموا فعليًّا بمحاكاة ما يقوم به الانتقاء الطبيعي، بدءًا من مجموعةٍ من التسلسلات العشوائية، أنشأ الباحثون مصيدة كيميائية لعزل التسلسلات التي توضح وظيفة الليغاز فقط، ثم اختاروا تلك التسلسلات لتطويرها أكثر، فاستعملوا تقنية التطفير لتوليد مجموعة من النسخ المتنوعة من الليغازات الأصلية، ثم عزلوا هذه النسخ وانتقوا التسلسلات الأفضل –أي التسلسلات التي تبدي دليلًا على وظيفة ليغاز محسنة أو مؤشرات على وظيفة بوليمراز مستقبلية– وكرروا العملية إلى أن يتحقق بعض التحسن في الوظيفة المرغوبة.
لكن ما الذي كان يستطيع أن يؤدي هذه المهام قبل أن تتطور أول جزيئة ذاتية التضاعف؟ لم يخبرنا شوستاك وزملاؤه، بالتأكيد لا يستطيعون أن يقولوا إن الانتقاء الطبيعي قد لعب هذا الدور؛ لأن عملية الانتقاء الطبيعي تعتمد على النشأة المسبق للجزيئة المتضاعفة ذاتيًّا التي يبذل شوستاك وزملاؤه جهدهم لتصميمها، ولكن بدلًا من ذلك مارس شوستاك وزملاؤه دورًا تعجز الطبيعة عنه قبل نشأة نظام متضاعف ذاتيًّا، أو على الأقل جزيئة متضاعفة ذاتيًّا.
عمل شوستاك وزملاؤه عمل المضاعفات، فولدوا كمية كبيرة من التسلسلات المختلفة، واختاروا التسلسلات التي ستبقى لتخضع لجولة أخرى من التطور الموجه، بل واختاروها بناءً على بصيرة مستقبلية لا يملكها الانتقاء الطبيعي ولا أي عملية غير ذكية أو غير موجهة (بحد ذاتها)،43 فسمات جزيئات الرنا التي عزلها شوستاك وزملاؤه وانتقوها هي سماتٌ لا تضفي بنفسها أي ميزة وظيفية على الجزيئة في العالم قبل الخلوي.
بالطبع إنزيمات الليغاز تنجز وظائف ضمن الخلايا المعاصرة تمنح ميزة انتقائية للخلايا التي تحتويها، ولكن قبل نشأة أول خلية بدائية متضاعفة ذاتيًّا لم تكن لريبوسومات الليغاز أي ميزة وظيفية على غيرها من جزيئات الرنا، فلم يوجد في هذه المرحلة من التطور الكيميائي أي نظام ذاتي التضاعف لتمنحه أي فائدة.
إن قدرة على ربط (لصق) السلاسل النكليوتيدية أمر ضروري (بأفضل أحوالها)، لكنها غير كافية لأداء وظيفة بوليميراز أو ريبلكاز، وفي حال غياب جزيئة (أو نظام جزيئي، وهو الأرجح) فيها كل السمات المطلوبة للتضاعف الذاتي، لن تفضل الطبيعة أي جزيئة رنا على الجزيئات الأخرى؛ فالانتقاء الطبيعي لا ينتقي إلا السمات المفيدة وظيفيًّا، وفي النظم المتضاعفة ذاتيًّا فقط، فعينه تعمى عن الجزيئات التي تملك مجرد شروط ضرورية أو مؤشرات محتملة لوظيفة مستقبلية، بل "إنه" لا يقوم بشيء أبدًا حينما لا توجد آليات التضاعف والانتقاء. وفي تجارب هندسة الإنزيمات الريبوزية يلعب المهندسون دورًا في محاكاتهم للانتقاء الطبيعي لا يمكن أن تقوم به العمليات الطبيعية غير الموجهة قبل بدء الانتقاء الطبيعي أصلًا. وبالتالي، حتى إذا نجحت تجارب الأنزيمات الريبوزية في إحداث تحسين كبير في قدرات محفزات الرنا، فذلك لا يعني أنها أثبتت إمكانية حصول عملية تطور كيميائي غير موجهة. ولما كانت تجارب هندسة الإنزيمات الريبوزية مشتملةً على دورٍ أوضح للذكاء باعتبار استخدامها لأسلوب التصميم العاقل (بعكس أسلوب التطور المباشر)، فإنها لا تزال تعكس المشكلة نفسها.
40. Szostak, Bartel, and Luisi, “Synthesizing Life.”
41. Szostak, Bartel, and Luisi, “Synthesizing Life,” 388; Wolf and Koonin, “On the Origin of the Translation System.”
42. ادعى إيكلاند وآخرون أن الريبوزمات الفعالة أكثر شيوعًا في تجمعات تسلسات الرنا مما كان يعتقد سابقًا ("Structurally Complex and Highly Active RNA Ligases"، خاصة في 364). مساحة التسلسلات (العدد الإجمالي للتوليفات الممكنة من النيوكليوتيدات) المقابلة لجزيئات الحمض النووي الريبي المكونة من 220 قاعدة والتي تم فحصها، 4220، أو تقريبًا 1 × 10132 احتمالات. نظرًا لأنهم كانوا قادرين على عزل ريبوسوم الليغاز عن طريق البحث عن جزء صغير من المساحة بأكملها (حوالي 1.4 × 1015 تسلسلات منفصلة)، فإن هذا يعني أن المساحة بأكملها ستحتوي على عدد ضخم من الليغازات قابلة للمقارنة. ولكن لكي تتطلب مثل هذه الوظيفة البسيطة تسلسل واحد في التريليون، فإن ذلك يثير أسئلة جدية حول ندرة الوظائف الأكثر تعقيدًا. كما لوحظ، على سبيل المثال، لم تنتج هندسة الإنزيمات الريبوزية حتى الآن ريبوزيمًا واحدًا قادرًا على أداء نشاط البوليميراز الحقيقي. كما لم يكتشف الباحثون الريبوزيمات القادرة على أداء معظم الوظائف الإنزيمية الأساسية الأخرى.
43. كما لاحظ وولف وكونين: "نظرًا لأن التطور ليس له بصيرة، فلا يمكن لأي نظام أن يتطور بتوقع أن يصبح مفيدًا بمجرد بلوغ المستوى المطلوب من التعقيد".
Wolf, Yuri I., and Eugene V. Koonin. “On the Origin of the Translation System and the Genetic Code in the RNA World by Means of Natural Selection, Exaptation, and Subfunctionalization.” Biology Direct 2 (2007): 1–25.