* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (قدر الطبيعة: قوانين الحياة تفصح عن وجود الغاية في الكون) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
سأبرهن في هذا الفصل أن الخلية ملائمة بشكلٍ فريد ومثالي لوظيفتها، بصفتها الوحدة الأساسية للحياة المبنية من الكربون، فالخلايا قادرة على تنفيذ أي تعليمة، واتخاذ أي شكل، وتوليد تنوع هائل من الكائنات متعددة الخلايا، وتوليد عالم الحياة بأكمله في نهاية المطاف. سأفحص الأدلة التي تشير إلى أن الغشاء الخلوي ملائم بشكل فريد ومثالي لدوره في الإحاطة بمحتويات الخلية، ومنح خلايا الكائنات الراقية القدرة على الانتقال والالتصاق الانتقائي بخلية أخرى، حيث تعتمد هذه الخصائص الهامة أيضًا على حجم الخلية المتوسط ولزوجة السيتوبلازما بقيمتيهما الحالية. أعرج بعدها على ملاءمة الغشاء للحياة، حيث تمنحه عدم نفاذيته الانتقائية للجسيمات المشحونة خصائصَ كهربائية إضافية، لتكون أساسًا للنقل العصبي. وسأناقش مجموعة مختلفة من التكيفات الكامنة وراء قدرة الخلايا على التحرك والالتصاق الانتقائي. بعد هذا، لا زال هناك الكثير لنتعلمه رغم أن الخصائص المعروفة للخلية مذهلة حقًا، حيث سأذكر إمكانية امتلاك الخلايا لقدرات حسابية قوية، بل ربما قدرات التصرف الذكي.
الخلايا مذهلة!
ليس هذا إحساس البيولوجيين فقط، بل هناك انطباع حتى لدى غير البيولوجيين بأن الخلايا أشياء خاصة وفريدة جدًا، وذات قدرات هائلة.
بالنظر إلى إنجازاتها، فمن الصعب تصديق إمكانية وجود أي نوع آخر منتظم من المادة، أو أي نوع آخر من الأجهزة النانوية البانية التي تماثل الخلية ولو من بعيد، فهذه الأشياء المتناهية في الصغر من المادة المنظمة مذهلة، وهي التي بنت كل كائن متعدد الخلايا وُجد على سطح الأرض منذ فجر الحياة، وهي الخلايا التي تتجمع في الدماغ البشري لتصنع مليون اتصال كل دقيقة لمدة تسعة أشهر خلال الحمل، هي كذلك الخلايا التي تبني الحيتان الزرقاء والفراشات والطيور والعشب، وهي الخلايا التي بنّت الديناصورات وكل الحياة السابقة على الأرض، وأبسط أنواعها هي التي عدَلَت الجوَ الأرضي تدريجيًّا على مدى البلايين الأربعة الماضية من السنين، بتوليد الأكسجين بالاصطناع الضوئي، محررة الطاقة التي تشحن كل أشكال الحياة الراقية.
تُظهر الخلية الأدلة على كونها ملائمة بشكل فريد ورائع لمهمتها الموكلة إليها. وإن تنوع الشكل الخلوي لعجيب، ولا يقل العجب منه عن العجب بتنوع المركبات الكربونية أو البروتينات. لا يقتصر التنوع على الأنواع الكثيرة من الشكل الخلوي فقط، لكن يشمل أيضًا التنوع في القدرات الوظيفية والسلوكية التي تذهلنا بثرائها، فهي معجزات تقانية نانوية، يمكن أن يتحرك بعضها بالتجديف بأهدابها أو بالحركة الدافعة عند البكتريا ذات السوط، في حين أن الأخرى تنسَلّ زحفًا. يمكن للخلايا تقدير تركيز المركبات في بيئتها القريبة، ويمكنها تغيير شكلها وتركيبها الكيميائي، ويمكنها مدُّ أرجل كاذبة وإمساك الأشياء الصغيرة الموجودة قربها، كما أن لديها ساعات داخلية تمكنها من قياس الوقت، ويمكنها الإحساس بالحقلين الكهربائي والمغناطيسي، وأن تزامن نشاطاتها وتتجمع مع بعضها البعض وتتحد لتشكيل كائن متعدد الخلايا، وأن تتواصل مع بعضها بإشارات كيميائية وكهربائية، وأن تغطي نفسها بقشور مُختلفة تشبه الدروع، وأن تضاعف نفسها بسهولة كبيرة، بل ويمكنها أيضًا -كما ذكرنا في الفصل السابع- أن تعيد بناء نفسها من أجزاء دقيقة من كتلتها.1
يمكن أن تبقى الخلايا حية في حال الجفاف لآلاف السنين، ويمكنها باختصار أن تفعل أي شيء، وتتخذ أي شكل، وتطيع أي أمر، ويبدو أنها متلائمة مثاليًّا -ومن كل النواحي- لأداء مهمتها المعينة في صناعة غلاف حيوي مليء بالكائنات متعددة الخلايا مثل البشر، فالطبيعة المذهلة للمعجزة النانوية التي تمثلها الخلية واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار.
تَبيّن أنَّ الخلايا كيانات معقدة جدًا، وذلك من معرفتنا الحالية عن الآلة الجزيئية المسؤولة عن بعض هذه القدرات الفائقة، ففي جميع أحوالها يجب أن تستعمل الخلية المتوسطة ما يقرب من مليون بنية وعملية تلاؤمية فريدة، أي أكثر من عدد العمليات في الطائرة النفاثة. تبدو الخلية من هذه الناحية ممثلة للتعبير المطلق عن التعقيد التكيفي مضغوطًا في شكلٍ مادي، كتعقيد طائرة نفاثة مضغوطة في ذرة غبار لا تراها العين البشرية، ومن الصعب تخيل أي شيء أكثر تعقيدًا يمكن ضغطه إلى هذا الحجم الصغير. بل فوق هذا كله، إنها طائرة نفاثة بحجم دقيق يمكنها أن تضاعف نفسها بسهولة.
إن ملاءمة الخلية لدورها البيولوجي الذي تقوم به، من بناء الحياة متعددة الخلايا والقيام بوظائفها، تقدم كل دليل على كونها فريدة، كما هو حال العديد من مكونات الحياة. ومن الصعب جدًا بالنسبة للعديد من خصائصها وقدراتها الأساسية تصور كيف يمكن تحقيق هذه القدرات والخصائص في شكل مادي ذي خصائص دقيقة غير هذا الشكل. بعبارة أخرى، إذا كنا نصمم -من المبادئ الأولية- بنّاءً نانويًّا بقطر 30 ميكرونا، ولديه قدرات الخلية -أي قابلية قياس تركيز المواد في الوسط المحيط، والقدرة على قياس الزمن والحركة والشعور بطريقها في بيئة جزيئية معقدة، وتغيير شكلها، وقدرتها على التواصل مع الأبنية النانوية الزميلة باستعمال الرسائل الكيميائية والكهربائية، والتجمع سويةً في مجموعات كبيرة لتوليد بنى ظاهرة للعيان- فسينتهي بنا المطاف إلى تصميم الخلية نفسها.
1. V. Tartar (1961) The Biology of Stentor (London: Pergamon Press): see chap. 7, "Regener- ation," pp. 105-135.