* ملحوظة: هذا المقال من كتاب (كومينيون: ما وراء طبيعة المعلومات) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
كان من الممكن أن يكون العالم مختلفًا في نواحٍ عدة، ما الذي يمكن أن يكون أكثر وضوحًا من هذه الدعوى؟ إلا أن التفكير التأملي يقود كثير من الناس إلى الطعن فيها، في الواقع يوحي التفكير بأن الأشياء حدثت لسبب، وأنه إذا كان السبب معلومًا، لا يمكن أن تكون الأمور على خلاف ما وقعت، وبالتالي يوجهنا الاستبطان إلى الحتمية.
لا تتوافق الأحداث المحتملة (فكرة أن الاحتمالات المتنافية يمكن أن تقع، وأن وقوع أي منها غير حتمي) مع الحتمية، ووفقًا للحتمية لو كان هناك حالة ص مثلاً محددة مسبقًا بالحالة س مثلاً، بشرط أنه إذا تحققت ب تتبعها أ لزومًا، هذه العلاقة بين السبب والنتيجة قد تكون منطقية أو سببية، وما يجعلها حتمية هو القول بعدم وجود أي انحراف.[1]
ولذلك تتسم الحتمية بأنها حالة محلية، تبدو عند النظر إلى ظرف معين، والسؤال عن الظرف السابق له، فنجعل هذا الظرف المعين حتميًّا، فالحتمية كعلاقة بين السبب والنتيجة تحاول في كل حالة أن تجد حالة سابقة (على وجه اليقين) تتسبب فيها.
إلا أن ما هو سابق في تحقيق ما سيكون نتيجة في تحقيق آخر، ولذا فالحتمية –كنظرية ميتافيزيقية كبرى– لا تتعلق بحالة واحدة تُصنف على أنها حتمية، بل عن حالات الأمور كلها، وحيث أن الحتمية تُعرف بمفهوم علاقة السبب والنتيجة فما هو مطلوب لحتمية شاملة أن تكون كل حالات الأمور متشابكة بهذه الطريقة، بحيث أن كل حالة تحتمها حالة سابقة.
وبالتالي تستلزم الحتمية الارتداد إلى السؤال عما يحتم الحالة المفترضة، ثم السؤال عما يحتم ما يحتمها، وهلم جرًّا، لكن أين يتوقف هذا الارتداد؟ إذا كان المرء مؤمنًا وحتميًّا (كالتقليد الأوغسطيني الكلفيني) ينتهي الارتداد عند فعل الخلق الإلهي، أما المادي فعلى العكس، فليس له ما يذهب إليه وراء الطبيعة المادية، فلابد أن يبقي الارتداد في إطار الطبيعة المادية، ومن ثم يصبح الارتداد والطبيعة المادية الموجود فيها حادثة عمياء.
لو كان الكون –كما يدعي كارل ساجان– "كل ما هنالك، أو كل ما كان، أو كل ما سيكون"[2] وحتمي فلا شيء يفسر لماذا يأخذ الارتداد هذه الصورة السابقة، فأي تفسير سيفترض مسبقًا احتمالية خارج الطبيعة، وهو ما لا تسمح به المادية، واقع الأمر أن المادية تقر بكون مطوي على نفسه تمامًا.
تؤكد الحتمية أننا عندما نفتح هذا الكون المطوي نجد أن كل حالة تُعطى حتميًّا من حالات الأمور السابقة التي قادت إليها، لكن لماذا ننتهي إلى هذه الحالات في مجموعها دون غيرها؟ نحن نحيا في كون فاز فيه أوباما حتمًا على رومني في انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسية لعام 2012، لكن لماذا ننتهي إلى هذا الكون أصلاً؟ ما الذي جعل الكون ضامنًا لفوز أوباما؟
هذه الأسئلة حتى عندما تُطرح داخل منظور حتمي ميتافيزيقي تكشف أن سؤال الأحداث الاحتمالية لن يُقصى أبدًا، نعود إلى الأحداث الاحتمالية التي استبعدت محليًّا لأنها حالات محددة بحالات سابقة مجددًا على الصعيد الكوني، من خلال السؤال عن العالم ككل، لماذا تتشابك كل حالات الأمور في علاقات سبب ونتيجة، وتتخذ شكلاً دون آخر؟ يستلزم هذا السؤال ثلاثة إجابات: إما رفض الإجابة عليه ببساطة، بتصور العالم محدد محليًّا كحادثة عمياء، أو التسليم بأحداث احتمالية كونية حقيقية، ومحاولة فهمها، أو إنكار حقيقة الأحداث الاحتمالية، ومحاولة تبرير لماذا العالم حتميًّا، ليس فقط محليًّا بل كونيًّا.
أما الخيار الأول فليس مرضيًا تمامًا، وهو دعوة إلى أصحاب الخيارين الآخرين لبذل قصارى جهدهم للدفاع عن احتمالية حقيقية أو حتمية شاملة. من الناحية التاريخية كانت المادية أكثر توافقًا مع الحتمية الشاملة، ففي العادة بررت المادية الحتمية الشاملة من خلال جعل الكون أكبر بكثير مما يظهر، فالمادية الأبيقورية مثلاً افترضت كونًا لا نهائي زمنيًّا وماديًّا، يصبح فيه كل شيء ممكن حتميًّا، لأن جميع توليفات المادة قد حولت في مكان ما في الكون، لا لمرة واحدة، بل كثيرًا بلا حدود[3]، وموضوع التكرار الأبدي حاضر في هذه الكوزمولوجيات؛ حيث إن كل شيء ممكن يصبح فعليًّا وضروريًّا.[4]
ونرى هذا الباعث أيضًا في علم الكون الحديث، حيث يُؤخذ الكون الفعلي ليكون أكبر بكثير من الكون المادي المعروف، فهذا الجزء الذي نعرفه من الكون قد يبدو صغيرًا واحتماليًّا جدًّا، لكن عندما يعامل هذا الجزء في ضوء كل الأجزاء الأخرى من الكون يصبح تاريخنا حتميًّا. يميل علم الكون التضخمي في هذا الاتجاه من خلال الأكوان الفقاعية، ووفقًا له ليس الكون المعروف إلا فقاعة واحدة، إلا أن المثال المعاصر الصارخ لهذا الباعث ففي العوالم المتعددة الكوانتية، حيث يكون فيها أي شيء ممكن فيزيائيًّا متحققًا في عالم متعدد، يشكل الكون الفعلي.
في تفسير العوالم المتعددة لميكانيكا الكوانتم ما الكون المعروف إلا أحد الفروع العديدة اللانهائية، وكلها معًا تستنزف كل نطاق الاحتمالات الفيزيائية الممكنة وتشكل العالم المتعدد.[5]
الرد المادي الأساسي للأحداث الاحتمالية (سواء في العصور القديمة وحتى العصر الحاضر) يقضي على الاحتمالية من خلال جعل كل الاحتمالات متساوية في واقعيتها (سواء عن طريق التوسع في الكون لتجاوز كل الحدود التي يمكن التحقق منها، أو من خلال فرض التكرار الأبدي لكون ذي دورات من خلال كل الاحتمالات، أو مزيج من الاثنين)[6].
لكن إعلان أن كل الاحتمالات حقيقة كأمر ميتافيزيقي ليس مثيرًا للإعجاب، فيُفترض أن الانجذاب للمادية في هذا العصر أن يكون مؤيدًا تأييدًا ساحقًا بالعلم، فلا تريد المادية أن تكون موضوعًا للإيمان، بل تريد أن تقوم على حساب قاسٍ رصين، وهذا الأمر الميتافيزيقي لا يتسع لأي تبرير مقنع إلا أنه يوفر وضعًا أكثر راحة للمادية.
وحتى بالنسبة لعالَم يُفترض أنه مكون فقط من مادة لا بد من طرح هذه الأسئلة: لماذا اتخذ كوننا هذا الشكل الذي هو عليه؟ لماذا تُظهر القوانين المتحكمة في الكون ضبطًا دقيقًا موحيًا بالذكاء؟ لماذا تبدو الحياة محملة ببصمات الذكاء؟ إن إعلان أن كل الاحتمالات الممكنة واقعية على حد سواء يعني أن كل هذه الأسئلة يمكن أن تُرفض، فقط بالإشارة إلى أن أي شيء يمكن حدوثه قد وقع فعلاً، ويحدث لمجرد أن يحدث لنا، فقط نحن هنا، وهذه هي نهاية القصة، لكن أين الدليل المستقل على أن هذه الاحتمالات الأخرى حقيقية كالاحتمالات الفعلية التي نلاحظها؟
في خبرتنا حدوث شيء يعني غلق الباب أمام حدوث أشياء أخرى، أما المادية التي في عصرنا التي يُفترض أن تكون مادية علمية فتبحث عن العلم لتبرير المادية، إلا أن العلم مشروع تجريبي شامل، ومن ثم عندما يشير مؤشر هنا يدل على كذا وكذا فلا يشير إلى ما هو هناك الذي قد يدل على استنتاج آخر، فالعلم يعتمد بالأساس –كمشروع تجريبي– على الملاحظة، وتسلّم الملاحظة باحتمال واحد فيُستبعد احتمالات أخرى، بعبارة أخرى: تفترض الملاحظة مسبقًا الأحداث المحتملة، وتسلّم بالمعلومات.
على عكس الحتمية الشاملة التي تنكر كل الأحداث المحتملة مفتوحة إلى الأبد، ليس على سبيل العقل العملي، بل كمبدأ ميتافيزيقي (سواء كان إلحاديًّا أو إيمانيًّا)، بالضبط كما يمكن للواحدية (solipsism) أن تتجنب التناقض المنطقي بحيث يمكن إنكار الأحداث المحتملة من خلال وفرة الاحتمالات المتحققة، لكن غياب التناقض المنطقي دليل محدود جدًّا للحقيقة عندما يتعلق الأمر بمثل هذه الخيارات الميتافيزيقية الواسعة.
عندما يقول الشاهد: "رأيت المتهم قطعًا"، ويقول المحامي: "لا، قطعًا أنت رأيتَ غريبًا متنكرًا ببراعة"، فالتعارض هنا سيكون ملموسًا حتى لو لم يكن منطقيًّا، على كل حال نحن نشعر بيقين أن الكون الذي نعيش فيه يمكن أن يكون مختلفًا، وأننا في كثير من الظروف العملية نريد بشدة أن نعرف لماذا لم تختلف الظروف (مثلاً يتعرض رجل أعمال للإفلاس، أو يعاني رجل من إصابة تنهي عمله، أو حتى أستاذ ميتافيزيقا يرفض منصبه)، فالحتمية الكونية –في استبعادها للأحداث المحتملة– تناقض هذا الحدس العميق الذي بداخلنا، وتقلل من دورنا في العالم كفاعلين لدينا القدرة على إحداث الاختلاف.
[1] أذاب التقليد العقلاني في الفلسفة الضرورة السببية في الضرورة المنطقية، ومن ثم كتب فريدريك تينانت عن سبينوزا أنه "افترض أن النظام وارتباط الأفكار الخالصة متطابقان مع نظام وارتباط الأشياء بتناسب، ومن هنا كان الطبيعي لممثلي مدرسة العقلانية التأكيد على قوانين متعلقة بالواقع تتسم بالضرورة المنطقية".
F.R. Tennant, Miracle and Its Philosophical Presuppositions (Cambridge: Cambridge University Press, 1925), 10.
[2] Carl Sagan, Cosmos (New York: Random House, 1980), 1.
[3] بدقيق العبارة: تسمح المادية الأبيقورية (بقدر ما بدا لأبيقور نفسه كمؤسس لها) بالأحداث الاحتمالية، منذ أن مُنحت الذرات الأبيقورية الانحراف الذي من شأنه أن يسمح لها بالتصرف بشكل تلقائي في طرق متعددة يستبعد بعضها بعضًا، ويُقدم هذا الانحراف الشهير الآن للحفاظ على حرية الإرادة، لكن أتباع أبيقور الذين التزموا ببرنامجه الذي يقصي منهجيا أي تأثيرات خارقة للطبيعة كانوا سعداء بترك هذا الانحراف ليُهمل.
للتعرف على تاريخ مفيد للمادية الأبيقورية تناول هذه النقاط: انظر:
Wiker, Moral Darwinism, chs. 1 and 2.
[4] للاطلاع على عرض تاريخي مشوق لعقيدة التكرار الأبدي (المعروفة أيضًا باسم العود الأبدي) انظر:
Ned Lukacher, Time–Fetishes: The Secret History of Eternal Recurrence (Durham,N.C.: Duke University Press, 1998).
[5] لفرضية العوالم المتعددة الكوانتية انظر:
David Deutsch, The Fabric of Reality: The Science of Parallel Universes—and Its Implications (New York: Penguin, 1997).
وللاطلاع على تفسير الكون المتضخم للكون الفيزيائي المعروف انظر:
Alan Guth, The Inflationary Universe: The Quest for a New Theory of Cosmic Origins (Reading, Mass.: Addison–Wesley,1997).
[6] John Leslie, Universes (London: Routledge, 1989), ch. 4.