لم يكن الإلحاد في يوم من الأيام سلوكاً يتلاءم مع الفطرة. بل هو عصي عليها، ولا أدل على ممانعته ومنافرته لوازع الفطرة من أنه قرار واع يتخذه الإنسان في وقت متأخر من حياته. الإيمان حاجة معبرة عن كيان الإنسان برمته، لا معبرة عن مكون معرفي فحسب، يتمتع به الآدمي ثم يلغيه كما نفعل حين نعيد تهيئة القرص الصلب. بعبارة أخرى: الإيمان بالخالق ليس مجرد معلومة أو فكرة، وإنما حاجة واتجاه. ولذلك اتفق التطوريون المهتمون بدراسة الدين من منظور طبيعي على أنه يتمتع بأصل بيولوجي ولكنهم اختلفوا في دوره أو وظيفته function، فمنهم من قال إنه يساعد على التكيف، ومنهم من قال إنه غلطة للطبيعة![1]
القول بأن الإيمان حاجة واتجاه فرع لازم عن الفقر الذاتي للإنسان في مقابل الغنى الذاتي لخالقه، ومن بين وعينا بطرفي هذه النسبة يتولد إدراكنا لمعنى العبودية من جهة العبد والإنعام من جهة الخالق. لما كان الإيمان بالنسبة لنا عبارة عن حاجة أو اتجاه فإن غاية ما يفعله الملحد هو توجيه هذه الطاقة باتجاه نفسه أو تبديدها في اتجاهات أخرى، كما أشار الفيلسوف بول تيليش[2] Paul Tillich، فيصبح هدف الطاقة الجديد هو المحور الذي يدور حوله إدراكنا لمعنى الحياة. هذا ما يحدث بشكل خاص لضحايا الأزمات الوجودية، وجودية سارتر، وكافكا، وكامو، ونيتشه، وهكذا. يقول فولتير: "لو لم يوجد الإله لكان من الضروري اختراعه"، وفولتير بالمناسبة من عظماء الغرب، وكثيراً ما تستعمل عبارته هذه للتلويح بإلحاده أو بصحة خيار الإلحاد نفسه، وهذا غير صحيح. فلا هو ملحدٌ ولم يرِد بها إلحادًا. فولتير يريد أن يخبرنا أن الإيمان بالخالق – كما ذكرت آنفاً – ليس فقط نتيجة ممارسة منطقية على الطريقة الأرسطية، أو استدلال رياضي احتمالي على طريقة بليز باسكال، أو حتى معالجة فكرية استجابة لشرط النظر قبل الإيمان كما عند المتكلمين من أشاعرة وغيرهم، وإنما هو شيء وراء ذلك وأكبر منه؛ إنه حاجة تلح على وعينا واعتراف نابع من وجداننا، وهو شيء نعلمه من خبرتنا الذاتية subjective experience حق العلم؛ ولكن ما العمل إذا كانت مضمون الخبرة الذاتية بالنسبة للملحد وهم لا علم؟
لا يدرك الكثير أن هذا الافتراض من قبل الملحد مبني على فهم مغلوط للعقل نفسه. فالتصور الصحيح للعقل يقضي بأن مطالب العاطفة واتجاهات الوجدان مضمّنة في عمل العقل وعملية اتخاذ القرار. أما التصور المغلوط للعقل فيزعم أن خبراتنا الذاتية تنتمي إلى فضاء آخر غير فضاء العقل، وهذا غير صحيح.
لقد أدرك الغرب في وقت متأخر أن العقل ينطلق من أسس عاطفية وفكرية معاً، وتقوده اتجاهات أخلاقية. هذا ما أكده جمع من العلماء والباحثين كجورج لاكوف George Lakoff، ومارك جونسن Mark Johnson، وأنتونيو داماسيو Antonio Damasio، وغيرهم.
ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الملحد عندما يتخذ قرار إلحاده فإنه يكون قد استجاب لتفكير يقوده مطلب عاطفي ما، وليس لـ"منطق خالص" أو "فكر محض"، فإنه لا وجود -بحسب عالم الأعصاب والوعي أنتونيو داماسيو- لشيء اسمه "فكر" من غير أساس "عاطفي".
ولذلك ذهب كل من لاكوف وجونسن إلى أن التصور الحديث للعقل يشكل تحد للعقل الغربي المتأثر بالمفهوم الفلسفي اليوناني ومن ثم الديكارتي للعقل. وكذلك نزيد فنقول أن التصور الجديد للعقل متسق تمام الاتساق مع التصور القرآني النبوي للعقل، فهو ليس محتجزاً في الدماغ وإنما قابع في وسط النفس ومتصل بالدماغ، بل إنه كما يقرر داماسيو حصيلة اتصاله بمطالب الكائن الحي كله. أزعم أن سؤال الفطرة يعود مجدداً مع التصور المتكامل للعقل، وأزعم أن الملحد عندما يتخذ قرار إلحاده فإنه يفعل ذلك بعد أن يعمل على "تحييد" neutralization إملاءات المكون الوجداني في العقل، ويفسح المجال أمام ما يتصور هو أنه "الفكر المحض" أو "المنطق الخالص". وعندما نقول "تحييد" فهذا يعني أنه لا يعمل على تعطيل إملاءات المكون الوجداني فضلاً عن إلغائها، وإنما يمارس ما يعرف في علم النفس بـ "الإزاحة" أو "التنحية"، أو "القمع" suppression، وأكبر دليل على أن هذا هو الواقع هو أن كثيراً من الملاحدة الذي ظنوا أنهم قد اتخذوا قرار إلحادهم بناء على ما يمليه العقل الصحيح - في تصورهم - عادوا للإيمان بالخالق، فهل يُتصور أنهم عادوا بعد أن استأصلوا داعي الفطرة بقرار إلحادهم الأول؟ أم عادوا لأنهم رفعوا عنه حظر "التحييد" واتصلوا به من جديد؟