هذه السلسلة هي من الملحق الأول لكتاب (هناك إله: كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره؟) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
الحياة
الظاهرة التالية التي يتعين علينا النظر فيها هي الحياة. بسبب معالجة أنتوني فلو لهذه المسألة في هذا الكتاب، فنحن في غنى هنا عن الزيادة بالبت في مسألة نشأة الحياة. إلا أنه يجدر الإشارة إلى أن النقاشات الحالية عن المسألة لا تبدو مطلعة على القضايا الرئيسية. فهناك أربعة أبعاد للكائنات الحية. تلك الكائنات هي كيانات فاعلة، ومحددة الهدف، وذاتية التناسخ، ومُوجهة سيميائيًا (وجودهم يعتمد على التفاعل المتبادل بين الشفرات والكيمياء). كل فرد من الكائنات الحية له المقدرة على الفعل، فكل كائن هو المصدر الـمُوَحَّد والمحور لكل أفعاله. وحيث أن تلك الكيانات قادرة على البقاء والتصرف بشكل مستقل، وتصرفاتهم بطريقة ما يدفعها غايات (كالتغذية)، بإمكانهم استنساخ أنفسهم: فعليه هم كيانات فاعلة، مستقلة وظيفيًا، ذاتية التناسخ، مدفوعة الغاية. علاوة على ذلك، أشار (هاورد باتي Howard H. Pattee) إلى أنه بالإمكان وجود تفاعلات وتأثيرات تبادلية بين العمليات السيميائية في الكائنات الحية (الضوابط والشفرات واللغات والمعلومات والتنظيم) والنظم المادية (القوانين والديناميكيات والطاقة والقوى والمادة).(6)
من بين الكتب التي نتناولها هنا، كتب دوكينز فقط هي التي تناولت مسألة نشأة الحياة. بينما كان وولبرت صريحا تماما فيما يخص الوضع الحالي لمجال البحث "هذا لا يعني أن كافة المسائل العلمية ذات الصلة بالتطور قد تم حلها. فعلي العكس تمامًا، ما زال فهمنا قاصرًا لمسألة نشأة الحياة نفسها وتطور الخلية المذهلة التي نشأت منها جميع الكائنات الحية".(7) أما بالنسبة لـدينيت، ففي كتبه السابقة، اعتبر ببساطة أن من المسلم به أن بعض الروايات المادية صحيحة.
ولسوء الحظ، حتى على المستوى الفيزيوكيميائي، نهج دوكينز قاصر بصورة فجة أو ربما يكون أسوأ من ذلك. يسأل دوكينز: "لكن كيف يمكن أن تبدأ الحياة؟ ... نشأة الحياة هو ذلك الحدث الكيميائي، أو سلسلة الأحداث الكيميائية، والتي بواسطتها توفرت ولأول مرة الظروف الحيوية المناسبة للانتخاب الطبيعي... وما أن أصبح العنصر الحيوي –نوع ما من الجزيء الجيني– في موضعه الصحيح، فيتبع ذلك الانتقاء الطبيعي الدارويني ويبدأ عمله".(8) كيف حدث ذلك؟ "استدعى العلماء سحر الأعداد الكبيرة... يكمن جمال المبدأ الإنساني في أنه يخبرنا، مناقضًا كل البديهيات، أن النموذج الكيميائي لا يحتاج سوى أن يتنبأ بأن الحياة سوف تنشأ على كوكب واحد في وسط مليار مليار كوكب، لكي يقدم لنا تفسيرا مرضيًا تمامًا لنشأة الحياة هنا".(9)
مثل هذا النوع من الاستدلال، الذي أفضل ما يمكن وصفه به هو أنه ممارسة متهورة في إطار الخرافة، أن إذا رغبنا وقوع أي شيء في مكان ما، ما علينا إلا " استدعاء سحر الأعداد الكبيرة". الحصان الأبيض وحيد القرن (Unicorn) أو إكسير الحياة (elixir of youth)، حتى وإن كان "احتمال وقوعهما محال بشكل صاعق"، فإن حدوثهما حتمي "بالتناقض مع كل البديهيات". الشرط الوحيد هو" نموذج كيميائي" والذي "يحتاج فقط التنبؤ" بوقوعهما "على كوكب واحد في وسط مليار مليار كوكب".
الوعي
لحسن الحظ، الأمور ليست سيئة للغاية فيما يخص أبحاث الوعي. هناك اليوم وعي متنامي بطبيعة الوعي.
فنحن نعي، ونعي تمامًا أننا نعي. لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك بدون أن يتناقض ذاتيا، على الرغم من أن البعض يستمر في القيام بذلك. المشكلة تصبح بدون حل، عندما ندرك طبيعة الخلايا العصبية. أولًا، وقبل أي شيء، الخلايا العصبية لا يوجد بينها وبين حياتنا الواعية أي شبه. وثانيًا، والأكثر أهمية، أن الخواص الفيزيائية للخلايا العصبية لا تعطي أي مؤشر بأي شكل من الأشكال للاعتقاد بأن لديهم قدرة على إنشاء الوعي. يرتبط الوعي مع بعض مناطق معينة في الدماغ، ولكن وجود نظام الخلايا العصبية هذه في جذع الدماغ غير قادر على "إنتاج" الوعي. في واقِعِ الأمْر، وكما أشار العالم الفيزيائي (چيرالد شرودر Gerald Schroeder)، لا يوجد اختلاف جوهري بين العناصر الفيزيائية المكونة لدماغ أينشتاين وتلك المكونة لحبات من الرمل. هناك اعتقاد أعمى، بلا أساس، يقبع وراء ادعاء قدرة أجزاء من المادة على "تخليق" واقع جديد لا يحمل أي شبه لتلك المادة.
على الرغم من أن الاتجاه العام لأبحاث العقل والجسد الآن يعترف بحقيقة الوعي وبالغموض المترتب على ذلك، إلا أن دانيال دِينيت واحد من الفلاسفة القلائل المتبقيين الذين لا يزالون مستمرون في مراوغة ما هو واضح وبديهي. فيصرح إن مسألة ما إذا كان هناك شيئا "واعي بالفعل" ليست مثيرة للاهتمام أو حتى مسؤولة، بينما يؤكد أن الآلات يمكن أن تكون واعية لأننا بالأساس آلات واعية!
تفسير دانيال دِينيت للوعي هو مذهب (الوظيفية Functionalism)، وهو القول بأنه لا يتعين علينا الاهتمام بما يصنع ما يسمى بالظاهرة العقلية. فبدلا من ذلك، ينبغي علينا استكشاف وفحص الوظائف التي تُجريها تلك الظواهر. فالألم هو شيء يولد رد فعل اجتنابي، والفكر هو إجراء يتخذ في عملية حل المشكلات؛ ليس حدثًا خاصا يقع في مكان خاص، والشيء نفسه ينطبق على جميع الظواهر العقلية الأخرى المفترضة. أن تكون واعيا، هو أن تكون قادرا على أداء هذه الوظائف. وبما أن هذه الوظائف يمكن استنساخها بواسطة النظم غير الحية (على سبيل المثال، جهاز الكمبيوتر يحل المشكلات) فليس هناك شيء غامض حول "الوعي"، وبالتأكيد ليس هناك سبب أو داع للذهاب إلى ما وراء التفسير المادي.
لكن ما تسقطه هذه الرؤية هي حقيقة أن كل الإجراءات أو الأفعال الذهنية دائمًا ما يتلازم وقوعها بحالات الوعي، حالات ندرك فيها ما نفعله تمامًا، ومحال لمذهب الوظيفية أن يفسر أو يدعي قدرته على تفسير حالة الوعي، أو تفسير حالة الإدراك، أو تفسير حالة قدرتنا على معرفة ما نفكر فيه بالتحديد (الكمبيوتر مثلا لا "يعرف" ما يفعله). وبالرغم من عدم مقدرة فلسفته على تحديد من هو المدرك أو الواعي أو المفكر، إلا أن دينيت يخبرنا –مازحًا ربما– أن فلسفته هي "مطلقية الشخص الثالث" والتي تجعله في موقف يؤكد فيه عبارة "أنا لا أؤمن بي أنا".
ما يثير الاهتمام فعلا هو أن من انتقد دينيت ومبدأ الوظيفية هم من أنصار الفيزيائية؛ مثل (ديڤيد بابينو David Papineau) و(چون سيرل John Searle). وچون سيرل تحديدا كان واضحا تماما، حيث قال: "إذا أغراك مبدأ الوظيفية، فأنا على يقين أنك لا تحتاج إلى دحضه، أنت في أمس الحاجة للمساعدة".(11)
على عكس دينيت، يدافع سام هاريس بقوة عن الحقيقة فوق الفيزيائية للوعي، حيث يقول: "تكمن المعضلة في أن المخ لا يحتوي –عند معاينته كنسق مادي– على أي شيء يدل على كونه الحامل لذلك البعد الداخلي غير المألوف، الذي يختبره كل واحد فينا متمثلًا ذلك في الإدراك على نحو فريد". ثم بعد ذلك يباغتنا بقوله: "ربما يعد الوعي ظاهرة أكثر بدائية بكثير عما عليه باقي المخلوقات الحية بأدمغتهم. ولا يتضح وجود أي وسيلة لاستبعاد مثل هذه الأطروحة تجريبيا".(11)
مما يحسب لدوكينز، إقراره بحقيقة الإدراك واللغة وبالمعضلة التي تنتج عن ذلك. حيث قال مرة: "ليس بمقدوري ولا (ستيڤن بينكر Steven Pinker) تفسير الإدراك الذاتي الإنساني؛ أي تفسير ما يطلق الفلاسفة عليه كواليا[*] Qualia"، وقال أيضا: "تَعَرّض ستيڤن في كتابه (كيف يعمل العقل How the Mind Works) بأناقة لمعضلة الوعي الذاتي، ومن أين تأتي، وما هو تفسير ذلك. وكان أمينا للدرجة التي جعلته يقول "هزمتني شر هزيمة". هذه أقصى درجة من الأمانة، وأنا أقلده. فنحنا لا نعلم ماهيتها، ولا نفهم طبيعتها".(12) وقد تجنب وولبرت متعمدًا إثارة قضية الوعي برمتها: " لقد تجنبت عن قصد أي نقاش عن الوعي".(13)
[*] الكيفيات المحسوسة Qualia في الفلسفة هو الكيف أو الحالة التي يُنظر إليها في حالة الوعي بصفات الأشياء من منظور ذاتي. إن مفهوم الكيفيات المحسوسة من المواضيع الهامة والشائكة في الفلسفة، ويعود ذلك إلى أن الإدراك الحسي متفاوت بالقياس على الحالات الفردية. ويعد فهم الكيفيات المحسوسة أحد المواضيع الأساسية في فلسفة العقل.
6. Howard H. Pattee, “The Physics of Symbols: Bridging the Epistemic Cut,” Biosystems 60 (2001): 5–21.
7. Lewis Wolpert, Six Impossible Things Before Breakfast (London: Faber and Faber, 2006), 212–13.
8. Richard Dawkins, The God Delusion (London: Bantam, 2006), 137.
9. Dawkins, The God Delusion, 137–38.
10. John Searle, The Rediscovery of the Mind (Cambridge, MA: MIT Press, 1992), 9.
11. Sam Harris, The End of Faith (New York: Norton, 2004), 208–9.
12. Richard Dawkins and Steven Pinker, “Is Science Killing the Soul?” The Guardian-Dillons Debate, Edge 53 (April 8, 1999).
13. Wolpert, Six Impossible Things Before Breakfast, 78.