تحوي كل ظاهرة –مهما تشابهت تاريخيا مع ظواهر أخرى– ثيمة عصرها وطبيعته التي لا تنفك عنه، وتوهم تجريدها عن تشكلاتها الإنسانية يعزلها عن الفهم. لأن العقل الإنساني محَدد ظرفيا بعوامل تُقعّد له طرق الفهم والوعي، ومحاولة عزل الظواهر الفكرية عن محدداتها الإنسانية لا يقدم حلًا مستوعبا لها. إذ الاستيعاب الواعي نوع من الاحتواء لتلك الظواهر، ثم استيفاءها بالتحليل والتفكيك حتى نستطيع الوصول لفهم أكثر عمقا وتفسيرا –بما أن التفسيرات محددة كذلك بالظرفية التاريخية–. فالظرفية نسبية، ولازم هذه النسبية والتعدد التفسيري للظواهر، أن محاولات الإنسان للإجابة عن تساؤلاته تدخله في دوامة لا يخرجه منها سوى معايير خارجية، وبذلك نفهم أحد معاني مقولة ڤتجنشتاين: "العمليات الداخلية تحتاج معايير خارجية"(1)، وضبط الوعي بمعايير خارجية يستبعد عنه مفاهيم كالصورنة والبرمجة وغيرها من المفاهيم التي تدرس الوعي بوصفه نسقًا محكومًا بقواعد داخلية مكتفية؛ منطقية كانت أو جينية أو المدارس المثالية التي لا ترى جدوى العودة إلى تشكلات الوعي الاجتماعية الرمزية لفهم ظواهره(2). وعلى العموم، فإن اشتراط الظرفية والتاريخية لفهم التنوع الهائل للظواهر الإنسانية، يؤكد أن الكتابات التي لا تنفذ عبر هذا الاشتراط تفتقر للتزامن الذي يعني أنها لا تحلل وتدرس هذه الظاهرة المعيّنة، وإنما تصطنع ظاهرة أخرى بمشكلاتها وتساؤلاتها، ثم تستدعي حلولًا تفترض أنها مناسبة لتلك الظاهرة المعيّنة. وقد ينطبق مصطلح "فوق الواقع" للفيلسوف الفرنسي چون بودريار Jean Baudrillard على هذه الحالة؛ بما أن العملية الذهنية تحتاج لرموز حتى تفهم وتدرك، واتصاف هذه المدارس فيما بينها بعزل الواقع عن الظاهرة وإسقاط رموز مفترضة على ظاهرة معيّنة، لا يجعل تحليلات هذه الظواهر سوى تحليق فوق الواقع!
إحدى أهم الظواهر التي تستحق الوقوف مرارا وتكرارا بالدرس والفهم وإعادة ذلك على عدة أصعدة وأمكنة هي ظاهرة الإلحاد المعاصر، ولهذه الظاهرة الإلحادية عدة تمظهرات ومحددات تجعلها مختلفة عن سابقاتها ومغايرة عنها جذريًا. منها؛ أنها تتوسل بل تجيش لها آليات اجتماعية وميكانيزمات علمية، بغية تأسيس إمكانية نظرية لمجتمع ملحد! وأحد المعاني الخطيرة التي تلزم عن هذه الإمكانية النظرية، أن الإلحاد ليس طارئا على الفكر الإنساني، فوجود "شكل لحياة ملحدة" يستلزم أن الرموز التي تنساب وتتماهى مع التشكلات الاجتماعية اعتباطية في أصلها، ويلزم من اعتباطيتها أن ضرورة وجود الإله كمشرع وناظم لهذه الرموز في الحياة الإنسانية؛ مخترَع طبقي أو خطأ تطوري فقط. والقول بمثل هذه الإمكانية يغير معنى "المجتمع" ذاته؛ بما أنه –أي المجتمع– لا يتحمّل مفهوم الاعتباطية الذي يلزمه بنهاية عدمية إذا تماهى مع تلك الإمكانية إلى نهايتها المنطقية. وهنا، يتدخل مفهوم في غاية الأهمية حتى يحد من اعتباطية لغة الملحد الرمزية، فيخرج بأفضل النتائج المرجوة له. فـ"البرمجة" التي تدعو لها اللغويات التطورية، تستطيع –إذا صحت– عبر تقريرها لمفاهيم الوعي والمجتمع والرموز أن تفترض إمكانية "مجتمع ملحد"، ومن ثم الادعاء بأن مفهوم الإله ليس سوى خطأ بيولوجي –بما أن مفهوم الاعتباطية الرمزية يفسر بكفاءة مفهوم الخطأ البيولوجي ويحتويه–، وكذلك يستطيع مفهوم البرمجة احتواء نسبية الحقيقة في حالة إدخال الرموز في عملية "الإثارة المجتمعية" التي تؤسس قواعد ثانوية في لغاتها، لتتمكن من تبيئة الاعتباطية الرمزية في ثناياها التي يلزم منها تشكيل تفاهم خطابي في مجتمع الملحدين بعيدا عن الدين؛ بما أنه كان تاريخيا الـمؤطر الأساسي لفهم المجتمعات الإنسانية لذاتها.
وتتكوّن النسبية في هذا التصور البرمجي عبر التعدد الواسع لتطبيقات رمزيّة اللغويات التطورية باختلاف وتنوع الإثارات المجتمعية، لكن رغم ذلك فإن شكل "حياة ملحدة" برأيي ممتنع ولا يصمد أمام النقد النظري، لكنه محميٌ عبر النموذج الفكري المؤطِّر للمجتمع العلمي. وعلة امتناعه عائدة لعدة اعتبارات، منها:
• أن البرمجة التي تدعو لها –أو تتوعد بها– اللغويات التطورية، أثر الدين في المجتمع الذي تأسست في ظله سائر الأخلاق الإنسانية عبر التاريخ قائم على مفهوم "القواعد الفطرية"، التي نشرها بقوة الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي وتلقفها منه التطوريون –وهو منهم–، ويُفسَر هذا التقعيد بالرموز الجينية الوراثية المحكومة بلعبة التطور. لعبة! نعم، بما أننا نتكلم عن قواعد، فإنها وضعت حتى تستعمل، والاستعمال بالمفهوم الڤتجنشتايني يشترط قواعدًا وإن اختلف بفهمه لمعناها ودورها في عملية الاستعمال عن اللغويات التطورية، وسيأتي في الفقرات القادمة تعليل لاعتبار التطور لعبة بشروط ضرورية يمتنع بغيرها وصفها بذلك. وعلى العموم، فإن مفهوم "القواعد" أحد أهم المفاصل التي تستحق التمعّن والفهم العميق لها، فالبرمجة في "اللعبة" التطورية تعتبر أن فطرية القواعد تحتوي كفاية سببية للغة الملحد لابتكار جمل لانهائية بمعطيات معدودة أثارها فيه المجتمع. لكن كيف نفهم أن هذه القواعد في حقيقتها ليست "مبرمجة" بل مجرد "اتباع" وضرورة توافقية للتعلم والتكلم؟ إن الادعاء بأن المتلقي لا يستطيع الاكتفاء بالأمثلة أو الخبرة للانتقال إلى فهم قواعدها قائم في الأصل على اعتبار اللغة اعتباطية وليست ذات معنى في بنيتها العميقة، بما أن المعنى الأولي يتكوّن في الجمل المعدودة التي ترجع إلى مثيرات اجتماعية تستفز الكفاية/السببية اللغوية البيولوجية لابتكار جمل لا نهائية، ولذلك نلاحظ بأن السياق الاجتماعي عندهم "بعدي"، مما يستلزم أن شكل حياة "ملحدة" في إطار البرمجة الجينية ليس معطى مسبق، بل يتحدد وفقا لاستجابة الكفاية السببية لمثيرات المجتمع. إذن، فالنظر إلى الأمثلة المجتمعية أو الخبرة الرمزية باعتبارها غير كافية لتعلم اللغة ملزوم للفهم البرمجي لدور القواعد في عملية التعلم. لكن، ماذا لو عكسنا الأمر بقولنا أن القواعد غير كافية لتعلم اللغة، بدون الأمثلة المجتمعية؟ بما أن القواعد بيولوجيا مجرد اعتباط رمزي –بالنسبة لهم– مفتقر لسياق اجتماعي حتى تُكوّن الخبرة الرمزية المعنى الأولي لها، ألا يجعلنا هذا الأمر نعيد تأمل مفهوم الكفاية السببية؟ إذ اعتباره كافٍ ومبرمج في الجينات الوراثية مضطرب من حيث وصفها بأنها رموز ثابتة، فحاجته –أي مفهوم الكفاية السببية– للفعل الاجتماعي تفقره كفايته السببية؛ بما أنه مفعول به وليس فاعلا بموجب افتقاره للسياق، مما يلزم منه أن البنية الثابتة فيه تعيد تعريف نفسها، وإعادة تعريفها لذاتها يستلزم منه عدم سببيتها، فعلامة السبب الاطراد لا التغير، بخلاف مفهوم الشرط الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود أو عدم، حتى تكتمل كافة الشروط المقترنة به فيتحدد وفقا لمجموع الشروط. ما معنى الشروط هنا؟ ألا يقترب معناها من مفهوم السياق كما عند ڤتجنشتاين، فكلاهما –مفهومي الشرطية والقواعد السياقية– يتغير وفقا لمعطيات اللغات الطبيعية، بخلاف مفهوم السبب الذي يستلزم الاطراد، إذ يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. أضف لذلك أن هذا الترابط الشرطي يحتوي مفارقة داخله، فتغير كلٍ من القواعد والأمثلة وفقًا لمعطيات الشروط السياقية يوحي بأن مفهوم "اتباع القواعد" أدق في معرفة دورها في عملية اكتساب اللغة، إذ لو كانت القدرة اللغوية كافية سببيًا لما تغيرت قواعدها الرمزية بعد اكتسابها للغة، ويؤكد ذلك أيضا على عبارة ڤتجنشتاين السابقة بأن العمليات الداخلية للوعي تحتاج معايير خارجية، مما ينفي عن القدرة اللغوية كفايتها السببية ويضعها كشرط في مجمل الشروط السياقية بالنسبة لعملية اكتساب اللغة وتعلمها. وهذا الفهم لدور اتباع القواعد وتغيرها يؤكد على امتناع قيام شكل حياة "ملحدة"؛ بما أن القدرة الرمزية لدى الإنسان مفتقرة لمعايير خارجية، إذ بين الافتقار الداخلي والتفاعل بينه وبين المعايير الخارجية مفارقة يمتنع تجاوزها، ولذلك فإن "معنى العالم لا بد أن يقع خارج العالم. في داخل العالم كل شيء على ما هو عليه، ويقع كما يقع. في داخله لا يوجد قيمة، وإن وجدت فستكون بلا قيمة. وعندما تكون هناك قيمة ذات قيمة، فلا بد والحال كذلك أن تقع خارج نطاق مجموع الحوادث ووجود الأشياء في ذواتها. ذلك أن مجموع الحوادث ووجود الأشياء في ذواتها أمرٌ اتفاقي. الشيء الذي يجعل ذلك أمرًا غير اتفاقي لا يمكن أن يقع داخل العالم، وإلا أصبح بدوره أمرًا اتفاقيًا. لابد أن يقع خارج العالم"(3).
• أحد لوازم الفروق المهمة السابقة التي تظهر البون الشاسع بين اتباع القواعد وبرمجتها، هو الفرق بين اجرائيتها وحتميتها. فالإجرائية توجب قواعد لأن اللغة نسقية وليس لأن اللغة بنية عميقة مشفرة جينيا ابتداء، ونسقية ألعاب اللغة تشترط القواعد لأنها جزء من شكل الحياة التي تعبر عنه. وهذا الشكل يوجب لوازم على المتكلم؛ بما أن الحياة الانسانية ذات معنى، فإن ترابطها الشرطي بكل ما حولها يمثل شروطًا داخل السياق العام لها، وإدخال كل ما حولها في السياق، سواء كان عاقلا أم غير عاقل، يظهر أن شكل الحياة في إطار الدين مسؤولٌ عن شروطها؛ بما أنها جزء من لعبتها اللغوية التي تضمن لها المعنى، بخلاف الإمكانية التي تحاول فيها البرمجة نفي المعنى عبر الرمزية البيولوجية؛ بما أن الترميز الجيني اعتباطي في أصله وكافٍ سببيا، وأن مسؤولية الإنسان عن حياته لا معنى لها؛ بما أنه ليس سوى فرع من شجرة التطور الاعتباطية.
• من الفروق العميقة بين الاتباع والبرمجة، أن الأول يتقبل إمكانية بناء سياق شرطي متجدد على أنقاض بعض الشروط السياقية التي ساعدت في بنائه ذاك، وهذه المفارقة رغم قدرتها النظرية في إعادة كشف ووصف الشروط السياقية اللاحقة في عوالم المفارقات التي تتضمنها اللغة الطبيعية، غير أنها لا تتجاوز كونها شرطًا كذلك. فمفهوم اتباع القواعد المستمد من اجرائيتها يستلزم استحالة تقعيدها بشكل كلي على الألعاب الرمزية الأخرى، مما يجعلها مطلقة كما في البرمجة. فكما يقول مناطقة الغموض أن الجزء لا يتضمن الكل بشكل كلي إلا إذا كان الكل يساوي الجزء، لكن حينها يكون الجزء –اللعبة اللغوية– يتضمن الكل –القواعد– بشكل جزئي، وهذه الجزئية الضمنية تمثل تشابها أسريًا بألعاب اللغة الأخرى؛ بما أن بين التنوع المدهش للألعاب تشابها في بعض قواعدها، فإذا كان الأمر كذلك فألا يعني هذا أن إحاطة القواعد بألعاب اللغة بشكل كلي –كما تزعم البرمجة– ممتنعة؟! إذن؛ الإمكان الشرطي السياقي منحصر في حالة التضمن الجزئي المتمثل في الاتباع لا في حالة التضمن الكلي المتمثل في البرمجة، مما يلزم منه تعدد مقاصد الفاعل في اتباعه للقواعد بخلاف امتناع تعدد المقاصد في حالة البرمجة، لأنه حينما يساوي الجزء الكل، ويكون الجزء متضمن للكل بشكل جزئي، فسيكون للفاعل قدر جزئي لتغيير مقاصده، ومن ثم قواعد لعبته اللغوية، فالتعلم يستلزم التغير. إذا كان الأمر كذلك ألا يدل على أن اعتبار القواعد برمجة غير دقيق؟! لأن العلاقات تكون حتمية بذلك، أما لو اعتبرنا أن القواعد متضمنة في الأفعال بشكل جزئي، فلن تكون إلا شرطية، إذ يشترك مفهوم الشرط مع مفهوم الجزئي في لزومه المحتاج لغيره لتحقيق مشروطه، فلا نصف فئة ما بذلك ما لم تجتمع عناصرها التي تحقق مفهومها الفئوي، وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم الشروط، فجعل الجسد شرطا لمفهوم العقل مختلف جذريا عن جعله سببا كافيا له. هذا يبين مدى اختلاف دور مفهوم المفارقة بين مفهومي الاتباع والبرمجة، ففي الأول؛ تكون المفارقات جزءًا من مبدأ هوية اللعبة اللغوية وتعريفها لذاتها الذي يمدّ بدوره مفهوم الاستعمال الڤتجنشتايني بشكل حياته الإنسانية، بخلاف الثاني؛ الذي يتعامل مع المفارقات بوصفها شذوذات أو طفرات بما أن البرمجة تتكئ على رصيد تطوري، وأضف لذلك أن مفهوم اللانهائي في الكفاية السببية عند تشومسكي يتسم بذات الإشكاليات التي لمفهوم اللانهائي عند الرياضياتي الألماني چورچ كانتور، فكلاهما اعتبره مفهوما أنطولوجيا وحاولا تكميمه في نسق نظري، مما أدى لاحقا لاضطراب كافة الأنساق المنطقية المبنية على هذه الأرضية النظرية.
• يمثل المقصد في لعبة لغوية ما، محدد قاعدي لفهمها، بخلاف البرمجة التي لا تعطي للمقاصد دورا فعّالا؛ بما أنها محكومة بحتمية برمجيتها التي تفصل بين القاعدة والكلام ابتداء. بخلاف مفهوم الاتباع الذي يجعل القصد متضمن في شكل الحياة الرمزية، مما يستلزم أن معنى حياة معيّنة مقترن بمعنى لعبة لغوية معينة، وانتفاء اللعبة اللغوية المعيّنة لا يلزم منه انتفاء معنى صورة الحياة بشكل عام، فالتنوع الواسع للألعاب اللغوية وارتباطها بأشكال حيوات لانهائية يؤكد أن الحقيقة منفصلة عنها. إذ لو كانت متضمنة فيها لكانت صورية أو جينية وراثية تخضع للوراثة، وكما يقول ڤتجنشتاين: "أن تعرف لغة ما، هو أن تعرف شكل حياة"، واقتران المعنى باللعبة اللغوية ومن ثم بصورة الحياة يؤكد أن اعتباطية لغة الملحد ممتنعة، إذ لو كانت ممكنة لكان المعنى ممكنا في هذه الاعتباطية الإلحادية. مما يلزم من هذا الامتناع، استحالة قيام نظرية تدعي "شكل حياة ملحدة"!
• أحد الشروط التي يقوم عليها مفهوم صورة الحياة هو أن الوعي الإنساني بيذاتي Intersubjectif، وهذا أمر مشترك بين النظريتين (الاتباع والبرمجة) رغم اختلافهما في فهمه ومن ثم توظفيه. وألعاب اللغة الطبيعية توجد الشرط الاقتراني بين مفهومي التصور والتصديق، بخلاف البرمجة التي تصطنع علاقة سببية، ونفي الملحد للإله في لغته الاعتباطية مسبوق بتصديق الدين له في لغته السياقية، ألا يعني هذا أن لغة الدين شرط سياقي لإمكانية لغة الملحد؟! هذا التشارط يعني أن لغة الإلحاد لاهوت بصورة ناسوت! وهذا ما قصدته سابقا في إمكانية تسمية اعتباطية لغة الملحد "جزء من لعبة"، وبالتالي من شكل حياة، فلغته مشروطة بلغة الدين، والسبيل الوحيد الذي يجعل للغة الملحد إمكانية تواصلية هو أن تكون اللغة الدينية شرطا أو قاعدة لإدخال الإلحاد في اللغة الطبيعية. ولنفترض أن هناك مجتمعًا ملحدًا فكيف سيكون هذا المجتمع؟ ستكون لعبته اللغوية تطورية –كما يدعي بعضهم– وبالتالي يرجعها إلى رمزية سيكوبيولوجية. لكن، أليست الرمزية (فكرة/كلمة) بحاجة إلى سياق حتى تُفهم كما أكّدنا سابقا؟ وإلا فكيف سيدعي الملحد إلحاده أو ينفي إثبات الدين له؟ فالإثبات شرط للنفي. ومعنى شرطية الإثبات أن طبيعة اللعبة هو التحرك الذي توفره الإثباتات والالتزامات كأصل بنيوي لمفهومها، إذ ليس النفي في ذاته غير العدم، واعتبار السياق أمر ثانوي كما عند أوجدن ورتشاردز وجرايس وغيرهم قد يتفق نظريا مع افتراضية شكل حياة الملحد وفهمه لكيفية تطور لغته، لكن القول بثانويته سيمنعه من إلحاده، إذ لو كان السياق ثانويا لكان الفهم البيذاتي ممتنعا لأنه مفتقر لإمكانية اللعبة التي تعتبر الإثبات أولي لها. فمفهوم اللعبة مشروط بسياق لغوي، الذي بدوره مقترن بالمجتمع، الذي بدوره يستبعد اعتباطية لغة الملحد عن لغة التواصل، هذا أمر يجعل سياقية ڤتجنشتاين مختلفة جذريًا عن سياقية غيره. هنا، قد يقول معترض: كيف تستدل بمفهوم السياق وهو "نسبي" على إثبات أمر مطلق كـ"الإله"؟ إن الاحتجاج بنسبية وتعدد السياقات إقرار بقصور الوصف الإنساني للإله بدون معونة الوحي، وليس إقرارًا بنسبية الإله، إذ لو كانت حقيقة الإله نسبية لامتنعت كافة أشكال الحياة الممكنة، لأنه الشرط الأولي لتعلّم اللغة بما أنها بيذاتية، وليست محكومة سببيا بقواعد فطرية، إذن؛ هناك فرق بين الوصف الإنساني للإله الذي يخضع لنسبية السياقات وإثبات وجود الإله، فلعبة الملحد المفترضة غير ممكنة في سياق خارج الدين مما يعني أن إمكانية مجتمع ملحد ممتنعة أيضا!
• يبقى المبرمج محكومًا بالجهل المطلق بخصوص إدراكه لقواعده الجينية، بخلاف المتبع الذي يراها جزءا من لعبته اللغوية التي تستمد معناها من شكل حياته السياقية، لأن التغير يُقلّب الإدراك ويتنقل به بين التشابهات الأسرية للألعاب ومفارقات اللغة الطبيعية فيرى تنوع التقعيدات بما أنها جزء من الألعاب، بخلاف تقعيد المبرمج جينيا فيمتنع له معرفتها، إذ كيف ترى العين نفسها بدون مرآة خارجية! فإذا كان النوع الإنساني مبرمج بقواعد في رؤيته للعالم، فلن يصف سوى العالم الذي تهيؤه له برمجته. هذا التصور لدور التقعيد يشترك جذريا مع الصورية المنطقية في فصلها بين الرموز وقواعد استعمالها، كما يشترك أيضا مع لغويات السويسري فرديناند دو سوسيور Ferdinand de Saussure في فصله بين مفهومي اللغة والكلام. لكن المتأمل يلاحظ أن هذا الاشتراك –برغم اختلاف موضعته داخل كل نظرية منها–يُضّمن فهمًا عن "القواعد" بوصفها ترويضا ما ورائيًا، بمعنى أن السعي لنزع القواعد عن نسيج الألعاب وتشابهاتها مع قواعد الألعاب الأخرى، هو سعي لوصف ما لا يمكن وصفه، ومحاولة لتجاوز ما لا يمكن قوله؛ عبر جعل القواعد هي كل ما هنالك. وهذا ما اختلف ڤتجنشتاين فيه عنهم حتى في رسالته المنطقية الفلسفية، فمن يلاحظ ابتداءها وكيفية خاتمتها يرى نوعا من المفارقة النماذجية، أو لنقل ضوء خافت لبدايات المنطق الغامض.
• ماذا يعني وصف صورة حياة ما؟ يحتاج مفهوم الوصف حتى يشمل ويحيط وصفًا لصورة حياة معينة أن يراها من خارجها أو أن يستعمل قواعد غير قواعدها لكن هذا الاستعمال المفارق لصورة الحياة تلك يفتقر هو أيضا لقواعد غير قابلة للبت –كما برهن على ذلك كورت جودل Kurt Gödel– وكما هو لازم أيضا لمفهوم التشابه الأسري للألعاب، فالتشابه يتماسّ ويتفاعل مع المفارقات. وسمة المفارقة احتواءها للتنوع غير القابل للإحاطة بما أنها تفتح أبواب النسبية الإدراكية على مصراعيه، وعليه؛ فإن هذا الاستعمال الواصف لصورة الحياة تلك لن يكون وصفًا شاملا ومحيطا، إذ لو كان وصفًا محيطًا لصورة الحياة تلك لأمكن اختزال المفارقات في صيغة واحدة، وهذا أمر تبين امتناعه المنطقي كما في مبرهنة عدم الاكتمال لجودل، ولذلك رفض ڤتجنشتاين في تحقيقاته بناء نظرية شاملة، ورفض أيضا مفهوم اللغة الفوقية! وأحد معاني ما سبق أن قيام "صورة حياة ملحدة" ممتنع بما أن اكتفاء التقعيد البرمجي بذاته ممتنع أيضا، وماذا يمكننا وصفه في مجتمع ملحد خارج سياق الدين؟! يشترط أي وصف لقواعد وشروط سياقية، وبما أن الدين قاعدة وشرط لفهم الإمكانية الوحيدة لصورة حياة "ملحدة" فإن استبعاده كقاعدة شرطية لفهمه يستلزم استبعاد إمكانية قيام اللعبة الرمزية التي تشكّل صورة حياة ملحدة كذلك.
رغم اشتراك جودل وڤتجنشتاين في إدخال المفارقات في الوعي وظواهره، أو هذا أحد لوازم أطروحاتهما على الأقل، غير أن تأمل مبرهنة عدم الاكتمال لجودل عبر مبدأ الهوية الذي جعلها مختلفة عن مفارقة الكذاب التي تلتزم ثنائية (صادق–كاذب) المنطقية يثبت أن الذات الإنسانية ليست نفسها، وأن رؤية الأنا تنتهي إلى العمى إذا حاولت فحص ذاتها من خلالها. لكن قراءتها عبر مفهومي الاستعمال والتشابه الأسري عند ڤتجنشتاين يسلّم بما سبق ويضيف عليها قدرة إنتاج ألعاب تداولية وحيوات أخرى؛ بما أن بين عوالم المفارقات الواعية تشابهات وبيذاتيات رمزية.
• مما سبق نلاحظ أن احتياج مفهوم الاتباع لقواعد سياقية لفهم وبناء خبرة رمزية أو ابتكار خبرات أخرى لا يستلزم منه جعل القواعد منطقية أو جينية، فإدراك التقعيد في إطار مفارقة مبدأ الهوية اللازمة عن مبرهنة عدم الاكتمال يسلط الضوء على أن القواعد ليست قواعدا بالمعنى التشومسكي. إذ تقعيد تشومسكي لها، نوع من اختزال كافة الخبرات الرمزية إلى حالة ذاتية صلبة (نحو كلي)، الذي بدوره يجعلها تخضع لأثر دروست Droste effect الذهني، الذي يلزم منه استدعاء لانهائي لذاته؛ بما أنه الحالة الصلبة –برأيه– التي تشكّل فطرية القواعد. هذه الرؤية تعيد مشكلة الفئات التي أثارها في المنطق الرياضي برتراند راسل Bertrand Russell في بدايات القرن العشرين، لكن على نطاق إعادة فهم مبدأ الهوية بدلًا من مشكلة العضوية الفئوية، والإقرار بأن تأثير دروست في فطرية القواعد يمثل مفارقة –لا مفر منها–، والاعتراف بها داخل المنظومة الرمزية لتشومسكي لا يستبعد الفارق الذي ذكرته في الفقرة السابقة بين جودل وڤتجنشتاين في أن الثاني يستعمل القواعد خارج مفارقة تأثير دروست التي تقر ولا تقر في ذات الوقت بمبدأ الهوية، لأن بيذاتية ڤتجنشتاين السياقية تقر بأن مبدأ الهوية سياقي هو الآخر، بمعنى أن جعل القواعد جزء من اللعبة تتغير بتغيرها، يجعل مبدأ الهوية لا يخضع لتأثير دروست؛ بما أن الحالة الصلبة التي تلزم عنه تجعل مفهوم "الفطرة" بيذاتي هو الآخر وليس ذاتيًا جينيًا. وهذا ما يجعل بيذاتية ڤتجنشتاين السياقية أصل لأي لعبة رمزية، بخلاف سياقية غيره التي تراها أمر بعدي أو ثانوي، وأضف لذلك أن مفهوم المفارقة بحسب المعنى الڤتجنشتايني يفتح على عوالم ألعابٍ رمزيةٍ أخرى؛ بما أن بين مفهومي المفارقة والتشابه الأسري تماسٌّ، وهذا التماسّ يؤكد أن استعمال ڤتجنشتاين للقواعد لا يخضع لتأثير دروست الذي يلزم منه حالة ذاتية صلبة، وبذلك تكون المفارقات الناشئة عن التشابهات الأسرية هي القواعد!
• أحد الفروق الهامة بين نظرية ڤتجنشتاين ونظرية تشومسكي أن الثاني يسعى من خلال جعل القواعد فطرية، تكوين نظرية تفسيرية، وهذا ما يجعله يفصل بين الخبرة الرمزية وقواعدها، مما يستدعي أيضا الفصل بين مفهومي التصور والماصدق، وكأن مفهوم التصور مُحدِد محايد لعلمية نظرية ما. ومَن يتأمل العلاقة النظرية بين مفهومي التصور والماصدق يرى أنهما ينتهيان إلى دور اقتراني شرطي لا فصل بينهما، ومحاولة اصطناع هذا المنزع النظري الحيادي قائم على إشكالية قديمة، هي اعتبار العلوم الإنسانية علومًا "غير موضوعية" مقارنة بالعلوم الطبيعية بما أن موضوع العلم الطبيعي لا يختلط بنظر عالِم الفيزياء –مثلا– بخلاف موضوع اللغة الذي يختلط بنظر عالِم اللغويات له، فهو الموضوع وصانع المنهج النظري كذلك. ورغم احتواء هذه العلاقة على مفارقة، غير أن المفارقات داخل أي نظرية هي التي تستوجب منّا اعتبار القواعد جزءًا من الخبرة الرمزية لا مفصولة عنها، لأنه لا توجد نظرية خالية من المفارقات؛ بما أن ظواهر الوعي الإنساني لا تخلو منها كذلك، فبدلًا من التعامل معها بـ"نصل أوكام" رغبة في اصطناع فاصلٍ نظري واضح بين التقعيدات والرموز، ينبغي تبيئة مفهوم المفارقة داخل علاقة مفهومي التصور والماصدق الذي توفره اللغة الطبيعية للمتلقي.
تتشابه النظرية التشومسكية في فصلها بين مفهومي "الكفاية السببية" و"فقر الخبرة الرمزية" مع منظريّ الوضعية المنطقية في فصلهما بين مفهومي "التحليلية" و"التركيبية" عبر فاصل "التحقق"، غير أن تشومسكي يجعل الفاصل بين القواعد والرموز جينيا لا منطقيا كما عند الوضعيين. وفي إطار هذا الفصل المصطنع بين التصور والماصدق، نستحضر نقد الفيلسوف الأمريكي ويلارد فان كواين Willard Quine لإشكالية مفهومي التحليلية والتركيبية، فنظريته عن الالتزام الأنطولوجي الذي تبنيه اللغة في الإدراك الذهني، تجعل المتكلمين بلغة معيّنة يختلفون فيما بينهم في "الإرجاع" اللغوي للكلمات إلى الواقع، مما يستلزم عدم وضوح التعيّين أو التفريق بين دلالة الالتزام الذهني لأنطولوجيا لغة ما وبين دلالتها الفعلية في الواقع. رغم قوة نقد كواين للاصطناع الوهمي بين التصور والماصدق، إلا أنه يرى أهمية منهجية العلم الطبيعي بوصفها محايدة نسبيًا، إذ يقتصر نقده في "اللاتعيّن" على مناطق الحدود كما يعبّر مناطقة الغموض (وعلى رأس قائمتهم؛ بارت كوسكو Bart Kosko)، فالثنائية (التصور–الماصدق) عند كواين تعمل بشكل جيد بالنسبة لأطراف المعادلات بخلاف مناطق الاشتراك التي تستوجب منّا إعادة النظر في تلك العلاقة –بحسب كواين–. غير أن هذا الاقتصار من جهته باعتبار نقده مكتف على نقد مناطق الحدود والاشتراك دون كافة مناطق الوعي وظواهره، يوقعه في المفارقات عينها التي وقع فيها غيره. النقد الموجه لنظرية "اللاتعيّن" عند كواين، يمثّل نقدًا أيضا للفصل المشروط بين الرموز وقواعدها.
• هل الخبرة الرمزية فقيرة؟ يقوم هذا الادعاء بفقر الخبرة –كما عند تشومسكي– على افتراض الفصل بينها وبين قواعدها، إذ لو كانت القواعد جزءًا من الألعاب لما كانت فقيرة، لأن الألعاب اللغوية تتضمّن المفارقات في نسيجها؛ بما أنهما يتشابهان أسريًا مع بعضهما –كما وضّحنا سابقا–. وأضف لذلك أن هذا الادعاء قائم على الفارق الاصطناعي بين التصور والماصدق الذي نقدناه في الفقرة السابقة، لكن ينبغي الإشارة أن تشومسكي معجميٌ في رؤيته إلى مفهوم القواعد، ولذلك يراها فطرية مشفرة جينيا، بخلاف رؤية ڤتجنشتاين السياقية التي لا تفصل بين الرموز وقواعدها.
ختامًا، نؤكد على الامتناع الذي ابتدأنا به مقالتنا في افتراض إمكانية نظرية لصورة حياة "ملحدة" للاعتبارات المذكورة سابقا، ولأن أي محاولة في اصطناع نظرية شاملة تفسيريًا للتنوع المدهش للفعل الإنساني هي بالضبط محاولة لخلق "مصطنع الاصطناع" الذي يصطنع العالم "فوق الواقعي" كما يعبّر چون بودريار، الأمر الذي يجعلنا نتوهم علمية أمر ما أو منهجية فعل ما. إن نفسية الملحد تشترط عليه –إذا لم يرد الانتحار الرمزي– أن يدخل في السياق الديني الـمـُفتقر إليه، فلا إمكان له بغيره.
والسلام على من اتبع الهدى..
المراجع:
(1) ڤتجنشتاين، تأليف: هانس سلوجا، ترجمة د. صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، 2014م.
(2) اللسانيات التوليدية (من التفسير إلى ما وراء التفسير) تأليف: نعوم تشومسكي، ترجمة محمد الرحالي، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013م.
(3) التفكير المرن (العلم الجديد للمنطق المرن)، تأليف: بارت كوسكو، ترجمة د. أسعد الجنابي، منشورات دار علاء الدين، الطبعة الثانية 2015م.
(4) المصطنع والاصطناع، تأليف: جان بودريار، ترجمة د. جوزيف عبدالله، المنظمة العربية للترجمة، 2008م.
الهوامش:
(1) في الفقرة 580 من كتابه تحقيقات فلسفية.
(2) ذلك لأن مفهوم العقل بالنسبة لها يرجع إلى قبليات أو مُثل خارج سياق المجتمع الإنساني، وهذا يعود بلا شك إلى قولهم بثنائية (العقل–الجسد).
(3) Wittgenstein, L. (1960) Tractatus Logico–Philosophicus, London, p. 183.
ترجمة: عبد الله بن سعيد الشهري، "ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان"، ط2، ص163.