كيف يمكن أن تنشأ اللغة؟
هناك قولان فقط: إما بتعليم مباشر من الله؛ ثم كان هذا التوليد البشري الكثير والثري. وإما اصطلاحية؛ بتقليد لأصوات الطبيعة أو بالمواضعة من المجموعة البشرية الأولي. وهذا المقال عن بطلان الاصطلاح بفرعيه وبالتالي ضرورة التدخل الإلهي.
• لماذا تميزت لغة البشر عن لغة الحيوانات؟
إن كان لدينا الكثير من الأبحاث في قدرة بعض الطيور على تعلم كلمات تصل إلى 500 كلمة، وكذلك الشمبانزي والكلاب وغيرها من التجارب.
يقول تشومسكي*: "إن مَن يعرف لغة يكون قد سيطر على مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحدد مجموعة متميزة وغير محدودة من الجُمل التي لكل منها شكل ثابت ومعني ثابت أو مُحتمل. والاستخدام المُميز لهذه المعرفة ولو على أدنى مستوى ذكاء هو حر إبداعي... وبذلك يمكن للمرء أن يفسر فورا حقلا واسعا وغير محدود من الأقوال من دون أن يشعر بعدم الألفة أو الغرابة... وإذا صح ذلك، فمن الحماقة الكاملة أن نفكر في "تطور" اللغة البشرية من أنظمة الاتصال الحيوانية".[1]
هذا نص قوي من كبير علماء اللسانيات تشومسكي وهو يفرق بين اللغة الإشارية بين الحيوانات والتجريد والتحديد للمعاني الذي يتميز به الإنسان.
وفي هذا يقول ديكارت: "إذا علمت غرابًا أن يقول لسيدته "طاب يومك" good - day عندما يراها تدنو، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا بجعل الكلمة تعبيرًا عن أحد عواطفه... كذلك فكل الأشياء التي تعلم للكلاب والخيل والقردة أن تؤديها إنما هي مجرد تعبيرات عن خوفها أو أملها أو فرحها... إلا أن استخدام الكلمات، المحددة تحديدًا شديدًا، إنما هو مميز للبشر".[2]
• لكن، ما هي اللغة التي نتحدث عنها تحديدًا؟
هل هي البدائية كلغة الأطفال؟ هل هي التي تحتاج لتدخل إلهي؟ لنذكر الإجابة أولا، ثم سندخل في التفاصيل، والإجابة هي أن ما نتحدث عنه هو جميع مراحل اللغة.
المتأمل في كتب علم النفس بعد فتجنشتاين وتشومسكي وفريجه يرى أثرهم البالغ في عدم الفصل بين اللغة والفكر، وهي علاقة تكاملية بين الكائن وبيئته حيث اللغة تفهم من خلال نشاط، أو بعبارة أخرى: يكتسب الطفل الفكر واللغة كأنه يشاهد فيلمًا مكونا من مشاهد حياتيه ثم يبرمج ذلك ليعطي أفلامًا أخري! فالطفل يستخلص من أفكار وكلمات (تجريبية) بسيطة، مُعقدات من شباك الخيال والاحتمالات والتوليدات، بشكل ابتكاري عجيب. وهذا الذي يغلق احتمالية الاصطلاح؛ إذ لو كان الاصطلاح البشري هو الواضع للغة، لكان مثل نظيره الحيواني بدون كل هذه الشباك والاحتمالات! وسأضرب بعد قليل مثال العدد إن قلت لماذا لا يكون تطورًا.
في رده على ما ذهب إليه ساندرز بيرس في أن قدراتنا العقلية تطورت من خلال العمليات العادية للانتقاء الطبيعي حتى أصبحت قادرة على حل المشكلات التي سنواجهها في عالم التجربة أو الطبيعة، يقول تشومسكي: "لكن هذه الحجة ليست بالقوية. فربما يمكن أن تخيل أن لدى الشمبانزيات خوفا فطريًا من الثعابين، ولذلك بقيت بسبب حذرها منها، أما مَن ليس لديه هذه الخصيصة المحددة أحيائيا فسينقرض. لكن من الصعب أن نحتج بأن لدى الإنسان القدرة على اكتشاف النظرية الكمية لأسباب كهذه. فلا تقدم التجربة التي حددت مسار التطورية النشوئية أي إرهاصات للمشاكل التي ستقابلنا في العالم، كما لم تكن القدرة على حل المشكلات عاملا في التطورية النشئوية أيضا. فنحن لا نستطيع إذن الاستشهاد بهذه الآلية الغيبية Deux ex Machina لكي نفسر توافق أفكارنا مع حقائق الكون. بل إن حدوث هذا التوافق الجزئي ليس إلا مفاجأة محظوظة، فيما يبدو".[3]
أجاب بعضهم بأنها ربما تكون قفزات تطورية!
- هذه هي مشكلة اللغة البدائية للطفل، فالإنسان الأول يجب أن يوجه بسياق وبألفاظ من عالم صانع، وإلا فالمصير الحيواني حتمي. وتجربة الطفلة التي حبسها أبوها حتي بلوغها الثالثة عشر وأصيبت بقصور فكري شديد بينة الدلالة واحتج بها كثيرًا تشومسكي في كتبه ومنها الكتاب المذكور في الهامش.
• تعلم اللغة: فيلم مبرمج من صانع (لعبة كما يرى فتجنشتاين) ثم تعليم الأسماء ثم التفكير داخل الكلمات وبالتالي إنشاء كلمات جديدة داخل القواعد (الجمل الإسمية والفعلية مثلا) وإنشاء أفكار مبتكرة.
قفز الاصطلاحيون من البرمجة إلى تعليم الأسماء مباشرة وذلك لإحساسهم بتعلق اللفظ بالمدلول ربما، وهذا خطأ لأن التعليم الإشاري به مشكلتان وضحهم فتجنشتاين في كتابه (بحوث فلسفية) لخصهم كالآتي:
- تعليم الطفل اللغة يشبه تعلم الشطرنج فلا يمكن تسمية الحصان في اللعبة إلا أن يكون عالما ومدركا بقواعد اللعبة من مربعات وحدود الحركات، ثم إن التسمية تتضمن إدراكا مباشرًا من الطفل لجملة: هذا تسميته كذا!
- التسمية بالإشارة مرحلة متقدمة انظر مثلا حين الإشارة إلى "صندوق" على شكل مربع لونه أسود، هل يدرك الطفل أن كلمة "صندوق" إشارة للشكل أم إلى اللون؟ كيف يمكن أن يفهم المراد؟ ولو تحسست بأصابعك لتفهمه أنك تشير إلى الشكل، فسيكون هذا في حالات نادرة. لكن في المطلق، كيف سيدرك أني أسمي البسيط وليس المركب؟ وكيف يفهم أن هذا هو الأبسط وليس أبسط منه سواه؟
نأتي للمشكلة الأخيرة في مراحل اللغة وهي الخروج من المؤثر والتجريد للمعاني بل وضعها في أماكن أخري غير واقعية كالفروض والاحتمالات. يقول تشومسكي: "إن كفاءة الراشد، أو حتى الطفل الصغير، هي كبيرة إلى حد أن علينا أن ننسب إليه معرفة باللغة تتجاوز أي شيء تعلمه. وبالمقارنة مع عدد الجمل التي يستطيع الطفل أن ينتجها أو يفسرها بسهولة، فإن عدد الثواني في العمر ضئيلة بشكل مضحك. ومن ثم فإن المعلومات المتيسرة له بوصفها زادا هي مجرد عينة بالغة الصغر من المادة اللغوية التي سيطر عليها بتمكن".[4]
لاحظت الآن أثر ترابط اللغة والفكر؟ فمشكلة الاستقراء في التجربة والتعميم من محدودات هي نفسها مشكلة اللغة! وسأضرب مثالا لذلك بالأعداد وهو واضح أيضًا في التفرقة بين اللغة الإنسانية ومنطق الحيوانات. يقول تشومسكي:
"بُرهن أن بعض الطيور يمكن تعلمها العد حتى العدد 7، وبالتالي القول بأن الطيور يمكن أن تعد، وهذا خطأ لأن أهم خصائص نظام العد أن سلسلة الأعداد يمكن أن تستمر بلا نهاية، تستطيع دائما أن تضيف واحدًا وهذا لا صلة له بحقيقة عدّ الأشياء عند الطيور فهو ملكة مستقلة، فكيف تطورت؟!
إن قلت تطور بالانتقاء فهذا خطأ، فبعض الحضارات ما تزال لا تستعمل ملكة العد ـ ولا تحتوي لغاتها على تركيب لكلمات عددية غير منتهية، ومن الممكن أن يتعلموا لو وضعوا في بيئة أخرى، فالملكة موجودة لكنها كامنة.
ومن الحق القول بأنها ملكة لم تستعمل إلا متأخرًا بالمقاييس التطورية. ولا يمكن الزعم بأن الذين استطاعوا العدّ وحل مشكلات الحساب هم مَن استطاعوا البقاء! الأكثر قربًا أنها جاءت نتيجة لأمر آخر، أتيحت للاستعمال حين تطلبتها الظروف... تسمية أي نظام لغوي لعالم غير عالم الإنسان بأنه لغة هو من المجاز المُضلل".[5]
وأحب أن أختم بهاتين العبارتين، أحدهما لديكارت يقول فيها: "لا وجود لمثل هذه الأشكال (الهندسية) في بيئتنا باستثناء أعداد بالغة الصغر لا يمكن لها بأية حال أن تمس حواسنا مسًا وثيقا... ومن ثم فعندما يصادف في طفولتنا أن نرى أول مرة شكلا مثلثا مرسومًا على الورق، فلا يمكن أن يكون هذا الشكل هو الذي أظهر لنا كيف يجب أن نتصور المثلث الحقيقي... إن فكرة المثلث كانت فينا من قبل".[6]
والأخرى لأفلاطون: "يبدأ طلاب الهندسة بالتفكير بعد التسليم جدلا ببعض الأشياء كافتراضات أساسية".[7]
الهوامش:
* يلاحظ أن كل نص لتشومسكي في كتبه يقول فيه كلمة "سبب إلهي" يعني سبب غير ظاهر وليس ما هو متبادر، كذلك كلمة فطرة تعني غريزة متطورة من الحيوان.
[1] Noam Chomsky, “Knowledge of Language”, Times Literary Supplement, 15 May 1969.
نقلا عن: جون كوتنغهام، العقلانية، مركز الإنماء الحضاري، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، ص143.
[2] Letter to Newcastle 23 November 1646 in Descartes Philosophical Letters, Translated by Anthony Kenny, Oxford University Press (1970), p207.
نقلا عن: جون كوتنغهام، العقلانية، مركز الإنماء الحضاري، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، ص143.
[3] نعوم تشومسكي، اللغة ومشكلات المعرفة، دار توبقال 1990، ترجمة: د. حمزة بن قبلان، ص222.
[4] Noam Chomsky, “Recent Contributions to the Theory of Innate Ideas” repr. in Stephen P. Stich (editor.) Innate Ideas, Berkeley: University of California Press, 1975, p123.
نقلا عن: جون كوتنغهام، العقلانية، مركز الإنماء الحضاري، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، ص137.
[5] نعوم تشومسكي، اللغة ومشكلات المعرفة، دار توبقال 1990، ترجمة: د. حمزة بن قبلان، ص235.
[6] Elizabeth S. Haldane, G. R. T. Ross, The Philosophical Works of Descartes, Cambridge at the University Press (January 1, 1969). Fifth Objections and Replies, Volume II, p227.
نقلا عن: جون كوتنغهام، العقلانية، مركز الإنماء الحضاري، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، ص140.
[7] أفلاطون، الجمهورية، ص 510.