هذا هو اللقاء الأول(*) ضمن سلسلة من المقابلات التي أجريها عن الدين، وضيفنا هذه المرة هو ألفن بلانتنجا Alvin Plantinga، أستاذ الفلسفة الفخري في جامعة نوتردام، والرئيس السابق لكل من جمعية الفلاسفة المسيحيين والجمعية الفلسفية الأمريكية، ومؤلّف الكتاب الذي صدر مؤخرا، بعنوان (أين يكمن التعارض حقا: العلم، والدين، والمذهب الطبيعي).
جاري جتنج: تشير دراسة أجريت مؤخرًا من قِبل PhilPapers -مؤشر الفلسفة عبر الإنترنت- إلى أن 62% من الفلاسفة ملحدون (إضافة إلى 11% يُبدون ميلًا إلى هذه الرؤية). هل تعتقد أن أدبيات الفلسفة تقدم من النقد للعقيدة الألوهية Theism ما ينهض لتبرير وجهات نظرهم؟ أم تعتقد أن إلحاد الفلاسفة تقرره عوامل أخرى غير التحليل العقلاني؟
ألفن بلانتنجا: إن كان 62% من الفلاسفة ملاحدة، فهذا يعني أن نسبة الملاحدة بين الفلاسفة أكبر بكثير من -في الواقع، ما يقرب من ضعف- نسبة الملاحدة في الوسط الأكاديمي عموما. "أُعرّف الإلحاد هنا على أنه الاعتقاد بأنه لا وجود لشيء مثل إله الأديان الألوهية".[1] والآن هل يعلم هؤلاء الفلاسفة شيئا هنا لا يعلمه الأكاديميون الآخرون؟ وما عساه أن يكون؟ إن الفلاسفة، خلافا لغيرهم من الأكاديميين، معنيون في الغالب على نحو مهني بالحجج الألوهية -الحجج الدالة على وجود الله-. تخميني هو أن غالبية الفلاسفة، سواء من المؤمنين أم غير المؤمنين، يرفضون هذه الحجج بصفتها واهية.
ومع ذلك ليس هذا كافيًا للإلحاد. في صحفية ذي إندبندنت The Independent البريطانية، سئل العالم الطبيعي ريتشارد دوكنز مؤخرًا هذا السؤال: "لو أنك مت ثم قدِمت على أبواب الجنة، ماذا ستقول لله لكي تبرر إلحادك الذي لازَمكَ مدى الحياة؟"، فكان جوابه: "سوف أستشهد ببرتراند راسل:لم يكن هناك أدلة كافية، يارب! لم يكن هناك أدلة كافية". ولكن عوز الأدلة، إن كان هناك عوز في الأدلة فعلا، لا يوفِّر أساسًا للإلحاد. لا أحد يعتقد أن هناك أدلة صالحة للفرضية القائلة بأن هناك عددًا زوجيًّا من النجوم، ولكن أيضًا لا أحد يعتقد أن الاستنتاج الصحيح الذي يمكن استخلاصه هنا هو أن هناك عددًا غير زوجيٍّ من النجوم. عوضًا عن هذا، سيكون الاستنتاج الصحيح هو اللّاأدرية.
بنفس المنطق، فشل الحجج الألوهية، إن كان هناك من فشل بالفعل، يمكن اعتباره على نحو معقول أساسًا صالحًا للاّأدرية، ولكن ليس للإلحاد.[2] يُفتَرض أن يكون الإلحاد، كما في حديثنا عن زوجيّة النجوم، ذلك النوع من الاعتقاد الذي يمكن اعتناقه بشكل عقلانيٍّ فقط في حال امتلاكك حجج قوية أو أدلة.
جتنج: أنت تقول أن الإلحاد يفتقر إلى أدلة تدعمه. كثير من الملاحدة ينكرون هذا، ويقولون إنّ كل ما يتوجب عليهم فعله هو الإشارة إلى خلو المعتقد الألوهي من أيِّ دليل صالح. أنت تقارن الإلحاد بإنكار أن هناك عددًا زوجيًّا من النجوم، الأمر الذي يتطلب بطبيعة الحال دليلا. ولكن الملاحدة يقولون -مستعملين مثالًا ضربه برتراند راسل- إنه يتوجب عليك بدلًا من ذلك أن تقارن الإلحاد بإنكار إبريق شاي يدور حول الشمس. لماذا نفضل مقارنتك على مقارنة راسل؟
بلانتنجا: فكرة راسل، كما أفهمها، هي أننا لا نملك أي دليل بالفعل ضد فرضية إبريق الشاي، لكنَّا لسنا في حاجة إلى ذلك. انعدام الدليل هو دليل على العدم، وهذا كافٍ لدعم فرضية إبريق الشاي. لسنا في حاجة إلى دليل إثباتيٍّ ضد هذه الفرضية لتبرير الإيمان ببطلانها، وربما الشيء مثله بالنسبة للعقيدة الألوهية.
أنا أخالف في هذا، من الواضح أن لدينا قدرًا كبيرًا من الأدلة ضد فرضية الإبريق. فمثلا، حسب مبلغنا من العلم، السبيل الوحيد الذي أمكن بموجبه لإبريق الشاي أن يتواجد في مدار حول الشمس هو فيما لو كان هناك بلد من البلدان يمتلك إمكانات إطلاق متطورة نحو الفضاء قد قام بإطلاق هذا الإبريق نحو المدار. لا يمكن لبلد بهكذا إمكانات أن يبلغ من الطيش مبلغًا يؤدي به إلى تبذير موارده في محاولة لإرسال إبريق شاي إلى المدار. زيادة على ذلك، لو أن بلدًا ما قد فعل ذلك حقا، لذاع أمره في كل الأخبار، وسنكون قد سمعنا عن ذلك بلا شك. ولكننا لم نسمع، وهكذا هناك وفرة من الأدلة ضد فرضية إبريق الشاي. وبالتالي، على طريقة راسل، الألوهية مثلها مثل فرضية إبريق الشاي؛ بمعنى أنه لكي يبرر الملحد موقفه فإنه يتعين عليه، مثلما يتعين في حق المؤمن بفرضية الإبريق، أن يمتلك أدلة قوية ضد المعتقد الألوهي.[3]
جتنج: ولكن أليس هناك العديد من الأدلة ضد المعتقد الألوهي –وفي مقدمتها هذا الكم المزعوم من الشرور، بفعل إله كامل القدرة، والخير كلّه منه وإليه؟
بلانتنجا: من المحتمل أن تكون المشكلة التي تعرف بـ(مشكلة الشر) هي أقوى دليل -وربما الدليل الوحيد- يمكن استحضاره ضد المعتقد الألوهي. ففيه بالفعل شيء من القوة. إذ من المعقول أن يعتقد المرء أن احتمال ثبوت المعتقد الألوهي، بوجود كل هذا الشر والمعاناة في العالم، سيكون ضئيلًا على نحو مقبول.[4] ولكن هناك أيضًا حجج للمعتقد الألوهي بطبيعة الحال. حقا، هناك طائفة صالحة من الحجج الجيدة للمعتقد الألوهي. وبالتالي على الملحد أن يسعى إلى المواءمة والموازنة بين الاحتمالات. ليس هذا أمرًا يسيرًا على الإطلاق، ولكن من الواضح جدًا أن النتيجة لن تؤيّد بأي حال من الأحوال الإلحاد الصريح إذا ما قوبِل باللاأدرية.
جتنج: ولكن حين تقول إن "هناك طائفة صالحة من الحجج الجيدة"، فإنك لا تعني أنها حاسمة؛ بمعنى أنها صالحة لدرجة إقناع أي شخص عاقل يفهمها.[5]
بلانتنجا: أولًا عليّ أن أوضح أنني لا أرى أن الحجج مطلوبة من أجل إيمان متعقل بالله.[6] وبهذا الاعتبار، يصبح الإيمان بالخالق كالإيمان بوجود عقول أخرى، أو كالإيمان بالماضي. الإيمان بالله مغروس في الخبرة البشرية، أو في الفطرة sensus divinitatis، وهو اصطلاح جون كالفن John Calvin للتعبير عن ميل طبيعي لتكوين معتقدات عن الله في نطاق واسع من الظروف المتنوعة.[7] ومع ذلك أعتقد أن هناك عددًا كبيرًا –ربما بضع عشرات- من الحجج الألوهية الصالحة. ليس شيئا منها بمفرده حاسما، ولكن كلًا منها، أو على أي حال لو أخذت الحزمة في مجموعها، فإنها تبلغ من القوة ما يمكن أن تبلغه الحجج الفلسفية في الأحوال العادية.[8]
جتنج: هل يمكن أن تذكر مثالًا لتلك الحجج؟
بلانتنجا: من الحجج الحاضرة والشائعة إلى حد ما: حجة الضبط الدقيق fine tuning. يخبرنا العلماء أن هناك خصائص يبديها الكون إلى درجة أنها لو اختلفت اختلافًا يسيرًا عما هي عليه في الواقع لكانت الحياة، أو على الأقل نوعنا من الحياة، غير ممكنة. يبدو أن الكون قد ضبط ضبطًا دقيقًا للحياة. مثلا، لو أن قوة الانفجار الكبير كانت مختلفة بجزء واحد من (10 إلى 60)، فإن حياة من جنس حياتنالم تكن لتكون ممكنة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بقوة الجاذبية بالنسبة للقوة المسؤولة عن اتساع الكون؛ فلو أنها اختلفت أدنى اختلاف لتعذَّرَ وجود نوعنا من الحياة. في الواقع يبدو الكون مضبوطًا ضبطًا دقيقا، لا لجنس الحياة فحسب، وإنما للحياة العاقلة أيضا. هذا النوع من الضبط يرجح -على نحو كبير- كِفَّة المعتقد الألوهي على الإلحاد.
جتنج: ولكن حتى لو أقنعتْ حجةُ الضبط الدقيق -أو أية حجة مشابهة- أحدَهم بأن الله موجود[9]، أليست قاصرة جدًا عما يقرره المعتقد الألوهي للمسيحية، وتحديدًا قضية وجود إله كامل؟ بما أن العالم ناقص؛ فلمَ الحاجة إلى كائن كامل ليفسّر لنا العالم أو أيٍّ من سماته؟
بلانتنجا: أحسبُ أن تفكيرك يقضي بأن المعاناة والخطيئة هما اللتان تجعلان هذا العالم أقل من كامل. ولكن في هذه الحالة سيكون لتساؤلك معنى فقط حينما يكون أفضل العوالم الممكنة هو الذي لا معاناة فيه ولا خطيئة. فهل هذا صحيح؟ ربما أفضل العوالم الممكنة هو ذاك الذي يشتمل على كائنات حرة يستطيع بعضها فعل ما هو خاطيء. حقا، ربما يكون أفضل العوالم هي تلك التي تشتمل على سيناريو شبيه جدًا بقصة المسيحية.[10]
تفكّر في ذلك: أول كائن في الكون، كامل في خيريته، وقوته، وعلمه، يخلق كائنات حرّة. هذه الكائنات الحرة تدير ظهورها إليه[11]، وتتمرد عليه[12]، وتتورط في الخطيئة والشرّ. بدلًا من معاملتهم معاملة قوة حاكمة قديمة -كأن يغليهم في الزيت مثلا– يستجيب الله بإرسال ابنه للعالم كي يعاني ويموت، لعل بني الإنسان يرجعون مرة أخرى إلى علاقتهم الصحيحة بالإله.[13] الإله نفسه يتحمل المعاناة الجسيمة المتمثّلة في مشاهدة ابنه وهو يُهزأ منه ويُستهزأ به، ثم يضرب ويصلب. كل هذا من أجل تلك الكائنات الآثمة.[14]
يمكنني القول بأن عالما تصح فيه هذه القصة سيكون عالما ممكنًا جليلًا بحق. سيكون حسنًا جدًا إلى درجة أنه لا يمكن لعالم آخر أن يكون أفضل منه. فحتى هنا ستشتمل العوالم الأفضل على الخطيئة والمعاناة.
جتنج: حسنا، مهما يكن من أمر، ألا يقف الألوهي على أرض هشة حين يقترح الحاجة إلى إله كتفسير للكون؟ سيظل الاحتمال قائمًا أننا سنجد شرحًا علميًّا يفسر ما كنا نزعم أن الإله وحده يمكنه أن يفسره. في نهاية الأمر، هذا ما حدث حين طور داروين نظريته للتطور. في واقع الأمر، ألا يعني التشجيع الكبير الذي يحظى به الإلحاد أننا لم نعد في حاجة إلى الله لتفسير العالم؟
بلانتنجا: في ظاهر الأمر، يعتقد بعض الملاحدة أن مما يُعد سببًا كافيًا لتبرير اعتناق الإلحاد هو حقيقة -كما يزعمون- أننا لم نعد في حاجة إلى الله لتفسير الظواهر الطبيعية، مثل البرق والرعد، فلدينا الآن العلم.
وكمبرر للإلحاد، فهذه حجة كسيحة جدا. لسنا في حاجة إلى القمر لشرح أو تفسير حالة الجنون.[15] وعليه بالكاد يلزم من هذا أن اعتقاد عدم وجود القمر (حالة اللاّتقمُّر؟) يغدو أمراً مبرراً؛ سيكون للموقف اللاَّتقمُّري أساساً معقولاً فقط لو كان الأساس الوحيد للاعتقاد بوجود القمر هو قدرته التفسيرية المتعلقة بواقعة الجنون. (حتى في هذه الحالة، سيكون الموقف المبَرَر هو اللاَّأدرية فيما يتعلق بالقمر، لا حالة اللاَّتقمُّر). ذات الأمر يصدق على الإيمان بالله؛ فالإلحاد على هذا الأساس سيكون مبررًا لو كانت القوة التفسيرية للمعتقد الألوهي هي السبب الوحيد للإيمان بالله. وحتى هنا، ستكون اللاَّأدرية هي الموقف الراجح لا الإلحاد.
جتنج: إذن ما هي الأسس الأخرى للإيمان بالله، والأسباب التي تجعل الإلحاد غير مبرر؟
بلانتنجا: لعل الأساس الأهم للإيمان بالله ليس الحجج الفلسفية وإنما التجربة الدينية. فكثير من الناس، من ثقافات متنوعة متعددة، وجدوا من أنفسهم تجربةً تربطهم بكائن مستحق للعبادة. إنهم يعتقدون وجود إله بهذه الصفة، ولكن ليس بسبب البراعة التفسيرية لذلك الاعتقاد. ربما هناك شيء بالفعل يماثل مفهوم الفطرة الذي نادى به كالفن. فعلا، إن كان الموقف الألوهي حقا، فمن المرجح جدًا وجود شيء يشبه مفهوم الفطرة المذكور. فالزعم بأن الأساس المعقول الوحيد للإيمان بالله هو الكفاءة التفسيرية لذلك المعتقد يكافئ بشكل جوهري إقرار فرضية الإلحاد.[16]
جتنج: إذن، مادام أنه ليس هناك من حجج تدعم الإلحاد، فلِمَ في ظنك الكثير من الفلاسفة –حيث يفترض أنهم أناس عقلاء جدا– ملاحدة؟
بلانتنجا: لستُ عالم نفس، وبالتالي لا أملك علمًا مميزًا هنا. ومع ذلك، هناك بعض التفسيرات المحتملة. توماس ناجلThomas Nagel ، فيلسوف رائع وملحد ذو بصيرة غير عادية، صرّح أنه ببساطة لا يود أن يوجد هناك كائنٌ ذو صفات كالله. وليس من الصعب معرفة السبب. الأمر الأول: سيكون هناك ما يعتبره البعض انتهاكًا لا يُطاق للخصوصية؛ فسيعلم الرب كل فكرة من أفكاري قبل أن أفكر بها. والأمر الآخر: ستصبح أفعالي، بل حتى أفكاري، موضوعًا ثابتًا للحكم والتقييم.
إن مردَّ هذه الأمور -بشكل أساسي- إلى التقييد الذي يطال الاستقلال الإنساني بسبب المعتقد الألوهي. يمكن للرغبة في الاستقلال أن تبلغ مبلغًا بعيدًا جدا[17]، كما في حالة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي –كما حكى ريتشارد رورتي– شعر بالذنب من جراء عيشه في كون لم يخلقه بنفسه.[18] بين أيدينا الآن ضمير ليّن![19] ومع ذلك يمكن لرغبة في الاستقلال أدنى من هذا بكثير أن تحفّز الإلحاد.
جتنج: يبدو أن المادية دافع رئيس، خاصة في أوساط ملاحدة اليوم، فهم يعتقدون ألا وجود لشيء وراء الكينونات المادية يمكن أن يتيح نفسه للبحث العلمي، وبالتالي لا مكان لكائنات لامادية، كالله مثلا.
بلانتنجا: حسنا، لو لم يكن هناك إلا كينونات مادية فقط، فإن الإلحاد يلزم بكل تأكيد. ولكن تواجه المادية معضلة في غاية الخطورة: ألا وهي أنه لا يمكن تصديقها على نحو معقول، على الأقل إذا كنت، كحال معظم الماديين، ممن يعتقد أن بني الإنسان نتاج التطور.
جتنج: ولِم ذلك؟
بلانتنجا: لا أستطيع أن أقرر الحجة هنا تقريرًا كاملًا –انظر في هذا الفصل العاشر من كتاب (أين يكمُن التعارض حقا؟)، ولكن بشكل تقريبي، سأشرح لماذا. أولا: إن كان المذهب المادي صحيحا، فإن البشر، وبشكل طبيعي، عبارة عن أشياء مادية. والآن، من وجهة النظر هذه، ما الذي سيعنيه الاعتقاد؟ اعتقادي أن مارسيل براوست أحذق من لويس لامور، مثلا؟ على سبيل الافتراض، سيكون هذا الاعتقاد كيانًا ماديًّا في العقل، لنقُل مثلًا تجمعًا للخلايا العصبية يُرسل نبضات كهربائية لكيانات مماثلة بالإضافة للأعصاب والعضلات ويستقبل نبضات كهربائية من كيانات أخرى. ولكن إضافة للخصائص العصبية الفسيولوجية تلك، يتعين أن يكون لهذا الكيان -إذا ما كان اعتقادا- محتوى ما: لنقل اعتقاد أن براوست أحذق من لامور.
جتنج: إذن أنت تقترح أنه لا يمكن أن يكون الاعتقاد هو هذا الكيان العصبي الفسيولوجي، وأن الاعتقاد يجب أن يكون لاماديًّا بطريقة ما؟
بلانتنجا: قد يكون ذلك كذلك، ولكن ليست هذه نقطتي هنا. أنا مهتم بكون الاعتقادات مُسبِبَة -ولو بشكل جزئي- للأفعال. مثلا يمكن لاعتقادي بوجود مشروب كحولي في الثلاجة، مع رغبتي في تناول ذلك المشروب، أن يتسبب في نهوضي من أريكتي المريحة والمشي بتثاقل نحو الثلاجة. ولكن هنا النقطة المهمة: لقد تسبب الاعتقاد في وقوع الفعل بفضل خصائصه المادية العصبية الفسيولوجية. إنه بفضل الإشارات الكهربائية التي أرسلت عبر أعصاب مختلفة إلى العضلات المعنيَّة أنْ تسبَبَ الاعتقاد بأن المشروب في الثلاجة في ذهابي إلى الثلاجة. إنه ليس بفضل المحتوى الخاص بالاعتقاد (أن هناك مشروبًا كحوليًّا في الثلاجة).
جتنج: لِم تقول ذلك؟
بلانتنجا: لأنه لو كان لهذا الاعتقاد –هذا الكيان– محتوى مختلف بالكلية (حتى لو قلنا أنه الاعتقاد بعدم وجود مشروب في الثلاجة) ولكن بنفس الخصائص العصبية الفسيولوجية، لتسبب أيضًا في حصول نفس ذهابي إلى الثلاجة. هذا يعني أن محتوى المعتقد ليس سببًا للسلوك.[20] إذا تعلق الأمر بكل ما من شأنه أن يتسبب في السلوك، فإن مضمون الاعتقاد لا يهم.
جتنج: حقا، يبدو هذا استنتاج صعب يتعذر قبوله. ولكن ألا يمكن للتطور أن يُخرِج المادي من هذا المأزق؟ لكي يتمكن نوعنا من البقاء، يُفترض أن أكثرَ -إن لم نقل جميع- معتقداتنا قد كانت صحيحة بالضرورة، وإلا لما تصرفنا كما ينبغي في عالم محفوف بالمخاطر.
بلانتنجا: سيكون قد آل بنا التطور إلى اكتساب معتقدات تكيفيّة؛ أي معتقدات تتسبب في أفعال متكيفة. ولكن كما رأينا، إذا كان المذهب المادي صحيحا، فإن المعتقد لا يتسبب في الفعل التكيفي من طريق محتواه، وإنما سيتسبب في الفعل التكيفي من جهة خصائصه العصبية الفسيولوجية، وبالتالي محتوى الاعتقاد لا يهم، وكذلك لن يهم ما إذا كان ذلك المحتوى حقًّا أم باطلًا في نفسه. كل ما يهم هو ما إذا كان الاعتقاد قد قامت به الخصائص العصبية الفسيولوجية المناسبة. فإن كان حقّا، فهذا حسن، وإن كان باطلا، فهو أيضًا حسن.[21]
سينتخب التطور عمليات من شأنها أن تنتج معتقدات ذوات خصائص عصبية فسيولوجية تكيفية، ولن ينتخب عمليات من شأنها أن تنتج معتقدات صحيحة. في ضوء المادية والتطور، سوف يستوي رجحان أي معتقد من جهة الصحة والبطلان.
جتنج: إذن أنت تقول أنه إذا كانت المادية صحيحة، فإن التطور لا يؤدي إلى كون معظم معتقداتنا صحيحة.
بلانتنجا: هذا حق. في الواقع، بتبني التطور والمادية، فإن ما يلزم هو أن ملكاتنا المسؤولة عن إنشاء المعتقدات تغدو غير موثوقة.[22] وسأشرح لماذا: حين يستوي رجحان أي معتقد من جهة الصحة والبطلان، سيتوجب علينا عندئذ القول أن نسبة احتمال صحة أي معتقد هي 50%. والآن افترض أن لدينا ما مجموعه 100 معتقد مستقل (بطبيعة الحال لدينا أكثر من هذا بكثير). تذكَّر أن احتمال صحة كل واحد من المعتقدات في مجموعةٍ ما هو حاصل ضرب الاحتمالات المفردة لجميعها. حتى لو وضعنا سقفًا متدنيًا بعض الشيء للموثوقية –لنقل أن الثلثين ( 67%) على الأقل من معتقداتنا صحيح– فإن إجمالي موثوقية معتقداتنا، بتبنّي المادية والتطور، متدنٍ للغاية؛ قريبٌ من (0.0004). وبالتالي إن قبلت بالمادية والتطور معا، فسيكون لديك سبب وجيه للإيمان بأن ملكاتك المسؤولة عن إنشاء المعتقدات غير موثوقة.
ولكن الإيمان بذلك يعني السقوط في شكٍّ تام، الأمر الذي يذرك بدون أي سبب لقبول أي من معتقداتك (بما في ذلك معتقداتك عن المادية والتطور!). السبيل المعقول والوحيد هو التخلّي عن الدعوى المفضية لهذه النتيجة؛ دعوى أن المادية والتطور صحيحان معا. ربما يجوز لك أن تتبنى أحد طرفي هذه الدعوى دون الآخر، ولكن ليس كليهما.
فإن كنت ملحدًا لأنك ببساطة تقبل بالمادية، فإن استقامة إلحادك تعني أنه يتعيّن عليك التنازل عن اعتقاد أن التطور صحيح. بتعبير آخر: الاعتقاد بأن المادية والتطور كليهما صحيحان هو اعتقاد يعود على نفسه بالإبطال. إنه يجني على نفسه، وبالتالي لا يمكن القبول به عقلا.
(*) المقال الأصلي: https://opinionator.blogs.nytimes.com/2014/02/09/is-atheism-irrational
[1] الإسلام والنصرانية واليهودية. يطلقون عليها أحيانا الإبراهيمية Abrahamic أو التوحيدية monotheistic، وإن كنا لا نسلم كمسلمين بتحقق مضمون هذا الإطلاق تاريخيّا.
[2] إذا ما كان الحديث عن حقيقة الوجود وحقيقة معنى الحياة، وحقائق ما نُطلق عليه: أخلاق وعقل وحق، فإنه لا يسع المرء المُنصف إلا أن يكون أدريًا أو لا أدريا. أما أن يكون مُلحدًا أدريًا فلا يستقيم. نعم هو ممكن بالادعاء، ولكنه غير واقع في نفس الأمر.
[3] لأهمية هذه المسألة، ألحقتُ بهذا المقال فقرة بعنوان (برهانٌ مختصر يأتي على الإلحاد الإيجابي positive atheism من أصله)، مقتبسة من (ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان).
[4] من المهم أن ننبه على أن القوة السلبية لهذا الدليل تتفاوت من دين إلى دين. والمروية المسيحية –كما سيُقررها بلانتنجا لاحقا– مروية واهية تُزيد بطبيعتها من قوة شبهة الشر. بخلاف المروية التي ينشئها المرء بشكل متكامل من القرآن وصحيح السنة، فإنها تضعف هذه الشبهة، إن لم تستأصلها.
[5] حسم الدليل من عدمه ليس راجعًا بالضرورة إلى الدلالة الذاتية للدليل، وإنما لعوامل أخرى نفسية واجتماعية. فلدينا ناظر ومنظور ونظر. لا يلزم من فساد الناظر فساد المنظور (خلل نفسي/ اجتماعي) ولا من فساد النظر فساد المنظور (خلل معرفي/ استدلالي). وهكذا قد يكون الدليل حاسمًا من جهة دلالته؛ بمعنى أنه لا يمكن أن يدل على خلاف ما يدل عليه إلا بالتعسف والتحريف، ولكن يأبى المتلقي الاعتراف به على وجهه لأسباب شخصية بحتة، كما سيأتي معنا في مثال الفيلسوف توماس ناجل الذي ساقه بلانتنجا.
[6] في فلسفة اللاهوت المسيحي يطلق على ظاهرة الإيمان المجرد من الاستدلال العقلي أو الحسي اصطلاح فيديزم fideism. فالمرء بحسب هذا المفهوم مطالب بالإيمان مباشرة، وقد شاع هذا المفهوم في المذهب البروتستانتي وتمكّن منه حتى صار أصلًا من أصول الاعتقاد فيه. يقول بارث Barth (1968 – 1886م): "الله معلوم بالله فقط". [يُنظر: Thiselton, A. (2002) A Concise Encyclopedia of the Philosophy of Religion, p. 102]. ولكن ما يقال في المسيحية لا يقال في غيرها، ونحن ندرك بأدنى تأمل أن هذا المفهوم أجنبي على الطريقة القرآنية التي لم تجعل العلاقة بين الإيمان والتعقل وطيدة فحسب وإنما ضرورية.
[7] تنطق sensus divinitatis هكذا: سينسوس ديفينيتاتيس. في صحيح السنة أن كل مولود يولد على الفطرة. قال ابن تيمية معلقًا على هذا الحديث: "فإنه سبحانه فطر القلوب على أن ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهي إليه إلا الله". مجموع الفتاوى (4/249). دراسات جستن باريت Justin Barrett والأنثروبولوجي جيمس لويبا James Leuba اعتنت بهذا الجانب وأكدت وجود هذه النزعة الطبيعية.
[8] في كتابه The Existence of God عاب فيلسوف اللاهوت ريتشارد سوينبرن Swinburne Richard على الملاحدة نظرهم الإفرادي في الأدلة، وقرر أنهم لو أخذوها جملةً لكان وقع دلالتها مجتمعة أقوى.
[9] لا يخفى أن هناك تحفظ وجدل حول التعبير بلفظ "موجود"، ولكن اشتهار دلالته على أن لله وجود لا يضطرنا لمناقشة هذه المسألة هنا.
[10] الواقع أن قصة المسيحية تضاعف الإشكال ولا تحله، ولا هي قريبة من أن تصلح كمثال لعالم كامل، سواء بالنظر لأصل الانحراف في العقيدة المسيحية من ناحية تاريخية، أو بالنظر للمغزى الوجودي لقصة المسيحية في نفسها.
[11] قال تعالى: "وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا".
[12] قال تعالى: "وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا".
[13] هذا هو شاهد القصة الذي يجعل قصة المسيحية برمتها في غاية الوهاء، وإنْ تصور بلانتنجا أنه مصدر قوتها أو تميزها.
[14] إشكالات هذا التصور تضاف إلى إشكالات التصور الذي قبله؛ ففضلًا عن مصادمته لصريح القرآن الكريم، العقل يمجُّه. قد يقال: فلمَ لمْ يمجُّه عقل في مكانة عقل بلانتنجا؟ والجواب أنه ليس للعقل حالة قارة حين يفارق حالته الطبيعية السوية؛ ولذلك يقبل النصارى التناقض الذاتي لعقيدة التثليث بلا تردد، وإن شعروا أن أنفسهم تأبى ذلك. وقد ذكر ابن تيمية أنه لا يمتنع تواطؤ الجم الغفير على إنكار ضروري من الضروريات. والمسيحية مثال على هذا. يُنظر مواضع ذات صلة عن آثار انحراف العقل في الرسالة الثانية من كتابي (ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان).
[15] يشير إلى الخرافة التي تربط بين اكتمال القمر ووقوع الجنون لبعض الناس.
[16] في هذه الدعوى مبالغة ظاهرة، إن لم نقل باطلة. كذلك تقليله من القوة التفسيرية للإيمان بالله هو أيضًا محل نظر؛ فالله هو أقوى وأقصى وأسمى قوة تفسيرية يمكن للعقل البشري أن يصل إليها أو يفترضها. يقول جيروم كارل Jerome Karle، الحائز على نوبل في الكيمياء، معبرًا عن هذا المعنى: "مفهوم الإله هو خلاصة أسمى خبرة يمكن أن يتصورها الإنسان في وجوده". أما يوجين وجنر Eugene Wigner، الحائز على نوبل مشاركةً، فيذهب إلى أبعد من هذا ويؤمن أن "مفهوم الإله... يساعدنا في اتخاذ قراراتنا في الاتجاه الصحيح"، ثم قال: "أخشى أننا كنا سنكون مختلفين عما نحن عليه الآن لو لم نملك ذلك المفهوم". ومن أجل تعميق فهمنا لهذه الجزئية، ألحقتُ بهذه الترجمة فقرةً مقتبسةً بطولها من كتابي (ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان).
[17] انظر في عامل الاستقلال الإنساني وتداعياته الإلحادية ص51-73 من كتابي (ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان)، دار نماء.
[18] في معنى الاسغناء قال الحق تعالى: "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى". وفي معنى انتحال دور الإله قال سبحانه: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه".
[19] الضمير الليّن أو الرقيق tender conscience في أدبيات اللاهوت الكاثوليكي مرتبة من مراتب التقوى والمراقبة يكون فيها الوعي حساسًا حساسية مرهفة تجاه أي مخالفة أو تقصير ديني.
[20] حجة بلانتنجا جيدة إجمالا، كما سيأتي. ولكنه قد ينازع في هذا الموضع؛ لأن المحتوى معنى، والأصل أن المعنى محرّك للسلوك. يتعين على بلانتنجا تقديم دليل استثنائي راجح ينهض لجعل هذا الأصل مرجوحا. يحتاج بلانتنجا إلى البحث عن مسلك آخر لتتميم فائدة هذه الحجة واستكمال وجاهتها المنطقية. وسيأتي قول بلانتنجا: "سينتخب التطور عمليات من شأنها أن تنتج معتقدات ذوات خصائص عصبية فسيولوجية تكيفية.. " إلخ، وهو المهم.
[21] حسنٌ في الحالتين لأنه يكون قد حقق وظيفته التكيفية في الحالتين، من غير ضرورة تقتضي الوعي بقيمة المحتوى من جهة الصحة والبطلان. ولإثراء هذه الجزئية وزيادة في توضيحها ألحقتُ بهذه الترجمة فقرة مقتبسة من (ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان) تشرح قصور المذهب الطبيعي في ضوء حجة بلانتنجا هذه.
[22] جديرٌ بالذكر أن داروين نفسه أبدى قلقًا صريحًا تجاه هذا الإشكال تحديدا، إذ قال: "ينتابني دومًا شكٌ فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، والذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى، تتمتع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة". [انظر: Charles Darwin to W. Graham, July 3, 1881, In Darwin, F.; edit. (1911) The Life and Letters of Charles Darwin, Vol. 1, London, p. 285]