* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (توقيع في الخلية: الدنا وأدلة التصميم الذكي) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
هل حقول التضخم الكوني موجودة؟
أولًا، هناك أسباب وجيهة لنشك بوجود حقول التضخم Inflation Fields أصلًا، إذ افتُرضت أساسًا لتفسر مشكلتي التجانس في الكون وتسطحه، ولكن كما دلل عدد من الفيزيائيين المرموقين، فقد لا تفسر هذه الحقول هاتين السمتين للكون على الإطلاق، فحتى يفسر الفيزيائيون تجانس الكون بمفهوم حقول التضخم عليهم تبني افتراضات واسعة غير مبررة حول المتفردة singularity التي جاء منها كل شيء، وكما شرح الفيزيائي في أوكسفورد روجر بينروز Roger Penrose: "إن كانت المتفردة شاملةً تمامًا، فسيُنتج التوسع منها الكثير من الأنواع المختلفة من الأكوان غير المنتظمة (غير المتجانسة)، حتى لو حدث التضخم الكوني"6، ولهذا فإن التضخم وحده دون افتراضات إضافية لا يحل مشكلة تجانس الكون، وللحصول على نتائج مفيدة فلابد من فرض القياس الملائم (قياس المسافة) على الزمكان.
بالإضافة إلى ذلك، ذكر ستيفن هوكينج Stephen Hawking ودون بايج Don Page وجود صعوبة في تفسير وجوب العمل المشترك لحقول التضخم الكوني وحقول الجاذبية (كما تصفها نظرية النسبية العامة التي يوجد لدينا أسباب قوية لنقبلها) لإنتاج التجانس في إشعاع الخلفية الكوني وتفسير التسطح في الزمكان في كوننا المرصود، الواقع أن الحقول عندما تُربط، فلا ضمانة حتى لحدوث التضخم،7 بالإضافة إلى أن حقول التضخم الكوني هذه بقدرتها المدهشة على التفكك بالوقت المناسب تمامًا، (بين 10–37 إلى 10–35 ثانية بعد الانفجار العظيم) وبالقياس المناسب تمامًا، لها خصائص لا تصاحب أية حقول فيزيائية أخرى، (بدلًا من ذلك، فإن لها خصائص مخترعة بهدف حل مشكلتي الأفق والتسطح فقط، وهاتان لا يمكن حلهما دون افتراضات وخصائص اعتباطية أخرى في الشروط الأولية).
اعتبارات الكفاية السببية
يوجد سبب آخر يمنع علم التضخم الكوني من تقديم تفسير مقبول أو أفضل من التصميم الذكي لنشأة المعلومات البيولوجية، تعتمد القدرة التفسيرية لعلم الكون التضخمي على القدرات السببية المفترضة لكيان مجهول تمامًا (كيان مطروح فقط لتفسير مجموعة تأثيرات غامضة) وله قدراتُ سببية لم توضَّح أو تُلاحَظ، ولا نعلم هل الحقول التضخمية موجودة حقًّا أم لا، ولا نعلم في حال وجودها ما الذي ستفعله حقيقة، ومع هذا نعلم (من الوعي المباشر للإنسان بنفسه إن لم يكن من شيء آخر) أن العقول الذكية الواعية موجودة ونعلم ما يمكنها فعله.
وبعد فإن فيلسوف الفيزياء روبن كولينز Robin Collins قد جادل بأنه في حال تساوي الظروف، علينا أن نفضل الفرضيات التي "تُعتبر استقراءً طبيعيًّا لما نعرفه مسبقًا" عن القدرات السببية للكيانات المختلفة،8 وفي سياق مختلف قليلًا جادل بأن فرضيات الأكوان المتعددة تفشل في تجاوز هذا الاختبار في تفسيرها للضبط الدقيق للكون الذي يوجه لصالح المبدأ البشري، في حين تتجاوز فرضيات التصميم هذا الاختبار، ولتوضيح هذا يطلب كولينز من القارئ أن يتخيل عالم أحافير يدعي وجود "حقل كهرومغناطيسي منتج لعظام الديناصورات"، في مقابل الديناصورات الحقيقية، كتفسير لنشأة العظام المتحجرة الضخمة، ورغم أن مثل هذا الحقل مؤهل كتفسير محتمل لنشأة العظام المتحجرة، فليس لنا خبرة بهذه الحقول أو بإنتاجها عظامًا متحجرة، ولكننا رصدنا بقايا الحيوانات في مختلف المراحل من تفكك العظم وحفظه في الترسبات والصخور الرسوبية، ولهذا يفضل معظم العلماء –وهم محقون في ذلك– فرضية الديناصور الحقيقي على فرضية الديناصور الظاهري (أي فرضية "الحقل المنتج لعظام الديناصور") كتفسير لنشأة الأحافير.
وعلى نفس المنوال، لا نملك خبرة سابقة عن أي شيء يشبه حقل التضخم الكوني المولد لأكوان كثيرة لا نهاية لها (أو في هذا السياق، أي خبرة عن أي آلة أو آلية قادرة على إنتاج أي شيء ذي ضبط دقيق مثل كوننا دون أن تكون هي نفسها مصمَّمة)، ولكن عندنا خبرة واسعة بإنتاج الفاعلين الأذكياء آلات دقيقة الضبط أو أنظمة غنية بالمعلومات من شيفرات رقمية أو ألفبائية، ولذلك يستنتج كولنز أن افتراض العقل لتفسير الضبط الدقيق للكون يشكل استقراءً طبيعيًّا لخبرتنا بالقوى السببية للفاعل الذكي، في حين أن افتراض الأكوان المتعددة (بما فيها الناشئة عن حقول التضخم) تفتقد أي أساس مشابه، وبالتالي فالاستنتاج الأقوى هو أن فرضية التصميم تفسير أفضل من تفكك الحقل التضخمي لتعليل نشأة المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى، لأنها تعتمد على القوى السببية المعروفة المألوفة لكيانات من خبرة متكررة ومباشرة، ويعتمد علم الكون التضخمي على كيان مجرد لم تشاهد قواه السببية أو تثبت.
عودة مشكلة الإزاحة
هنالك مشكلة إضافية في استعمال الحقول التضخمية لتفسير نشأة المعلومات الضرورية للحياة الأولى، لكي نفسر نشأة سمات محددة من كوننا المرصود، ونفسر (كمكسب إضافي غير مقصود) نشأة الأكوان الملائمة للحياة التي لا تحصى عددًا وتشبه كوننا، فإن على فرضية الكون التضخمي أن تلجأ إلى عدد من المصادر غير المفسرة أو مصادر ضخ معلومات، على سبيل المثال، يجب أن تكون الحقول التضخمية والحقول التي تتزاوج معها مضبوطة بدقة لتُنتج فقاعات أكوان جديدة من النوع الصحيح، وإن "قطع" الطاقة عن الحقل التضخمي (وهو ما يحدث خلال تفككه) لوحده يجب أن يكون مضبوطًا بدقة بين جزء من 1053 وجزء من 10123 (حسب نموذج التضخم المستدل به) لينتج فقاعة كون متوافقة مع الحياة، بالإضافة إلى أن علم الكون التضخمي يعقد أكثر من مشكلة الضبط الدقيق المعقدة أصلًا المتعلقة بالإنتروبية المنخفضة الأولية في كوننا، ووفقًا لحسابات روجر بينروز (الذي يعتبر علم الكون التضخمي نشاطًا علميًّا مشكوكًا به جدًّا) فإن الإنتروبية الأولية لكوننا كانت مضبوطة بدقة أصلًا إلى درجة جزء من 10 إلى القوة 10 إلى القوة 123،9 ولا يفسر التضخم شيئًا من هذا الضبط الدقيق بل يضاعف المشكلة.
ويجادل بعض علماء الكونيات بالطبع بإمكانية تخطي عقبة هذه الأمور غير المحتملة بوجود عدد من فقاعات الأكوان التي أنتجها حقل التضخم الأصلي، ولكن إلى جانب ضعف هذه الاستراتيجية التفسيرية وافتقادها للبساطة والاقتصاد العلمي، فإن توليد حقل تضخمي أكبر ليعطي النتائج الصحيحة (أي أكوانًا لها خصائص كوننا المرصود) يعتمد نفسه على عدد من الافتراضات المبالغ فيها والشروط الأولية دقيقة الضبط، وكما أشرنا أعلاه، يضع الفيزيائيون عددًا من الافتراضات غير المبررة عن المتفردة الأولى ليتمكنوا من التوفيق بين الحقل التضخمي ونظرية النسبية العامة، على سبيل المثال لجعل التضخم الكوني منسجمًا مع النسبية العامة ينبغي على علماء الكونيات افتراض طريقة خاصة لقياس المسافة في الزمكان (وهي ما يُسمى مقياسًا metric) ورفض كل الطرق الأخرى، بالإضافة إلى وجود عدة نماذج ممكنة من التضخم الكوني، وبعضها فقط (عندما تُدمج مع النسبية العامة) سيتسبب بتضخم الأكوان، ولكي نضمن أن الحقول التضخمية ستنشئ فقاعات كونية، على الفيزيائيين انتقاء بعض النماذج التضخمية وإقصاء نماذج أخرى في افتراضاتهم النظرية، وكل خيار من هذه الخيارات يشكل تدخلًا واعيًا من جانب واضع النموذج، وهو تدخلٌ يعكس وجود معلومات غير مفسرة لابد من وجودها في الشروط الأولية المرتبطة بالمتفردة الكونية.
وفي الواقع إن الحاجة إلى طرح مثل هذه الافتراضات وتقييد الفرضيات النظرية يوحي بأنه كان من اللازم أن تكون المتفردة الأولية نفسها مضبوطة بدقة حتى يستطيع أي حقل تضخمي إنتاج كون مثل كوننا، ولكننا نعلم أن كوننا موجود، ولدينا أسباب وجيهة للاعتقاد بأن النسبية العامة صحيحة، وبالتالي، إنْ وجد حقل تضخم كوني، فلن يعمل بالطريقة التي تصورها علماء الكون التضخمي إلا لو كانت المتفردة نفسها التي ظهر منها الحقل التضخمي مضبوطة بدقة (وغنية بالمعلومات).
وهكذا، وبالاعتماد على علم الكون التضخمي لتفسير المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى، أنشأ كونين مشكلة معلومات في ادعائه محاولة حل مشكلة معلومات أخرى (انظر الفصل الثالث عشر)، وحتى مع افتراض وجود الحقول التضخمية وإمكانية نشأة عدد لا نهائي من الأكوان (وهذا رهان غير مضمون مطلقًا)، فإن كونين يحل مشكلة نشأة المعلومات البيولوجية بإيجاد مشكلة جديدة للمعلومات الكونية، وهي معلومات ضرورية تمامًا في نموذجه أيضًا لتفسير نشأة الحياة، بالإضافة إلى أن كل النماذج التضخمية تفترض أن الحقل التضخمي يعمل ضمن الأكوان وينشئها بنفس القوانين الأساسية والثوابت الفيزيائية التي توجد في كوننا، ولكن قوانين وثوابت كوننا نفسها مضبوطة بدقة شديدة للسماح بإمكانية وجود الحياة، وهذا الضبط الشديد يشكل مصدر معلومات آخر يجب تعليله لنتمكن من تفسير نشأة الحياة في كوننا، ولكن مع هذا تفترض نظرية التضخم الكوني وجوده مسبقًا بدلًا من أن تفسره.
الكلفة الأبستمولوجية
وفي علم الكون التضخمي أيضًا نقطة ضعف أخرى، فبمجرد أن نسمح بهذا العلم كتفسير محتمل لأي شيء، سيُدمر المنطق العملي والعلمي لكل شيء، فعلم الكون التضخمي قادر على تفسير نشأة كل الحوادث مهما كانت غير محتملة بإرجاعها إلى الصدفة، لأن الموارد الاحتمالية التي يُفترض أنه يولّدها لانهائية، وبالتالي فإن كل الأحداث التي نفسرها بأسباب معروفة بناء على الخبرة العادية يمكن تمامًا تفسيرها في علم الكون التضخمي كحوادث مصادفة دون أي مسبب سابق، وبناء على علم الكون التضخمي، فإن كل الأحداث المتوافقة مع قوانينا الطبيعية قد تنشأ في النهاية نتيجة تموج عشوائي في الفراغ الكمومي الناشئ من الحقل التضخمي، وهذا يعني أن الآلة المصممة بدقة أو قصيدة الشعر المؤلفة بإحكام كليهما يتساوى احتمال إنتاجهما بصدفة تموج في الفراغ الكمومي مع احتمال أن يكون قد أنتجها إنسان، كما أن ذلك يعني أن أحداثًا مثل الزلازل أو الظواهر المعتادة مثل تكاثف البخار يتساوى احتمال حدوثها نتيجة صدفة تموجات في الفراغ الكمومي مع احتمالية حدوثها نتيجة توالي أسباب مادية محددة، وباختصار، إن كان علم الكون التضخمي صحيحًا فأي شيء يمكن أن يحدث بلا سبب على الإطلاق، انطلاقًا من تموجات كمومية عشوائية للحقل التضخمي.
والأدهى أن علم الكون التضخمي يوحي ضمنيًّا بأن بعض التفسيرات التي نعتبرها غير محتملة بدرجة هائلة تصبح محتملة الصحة أكثر من التي نقبلها عادةً، ولننظر على سبيل المثال في ظاهرة "دماغ بولتزمان Boltzmann brain" التي درسها علماء الكونيات الكمومية كثيرًا، فضمن علم الكون التضخمي يمكن نظريًّا أن يظهر فجأة دماغ بشري كامل الوظائف تلقائيًّا إلى الوجود نتيجة تموجات حرارية في الفراغ الكمومي ثم يختفي تلقائيًّا مرة أخرى، وسمي هذا الكيان بـ"دماغ بولتزمان"، وتحت الظروف القياسية لتوليد الفقاعات الكونية في علم الكون التضخمي، يُتوقع ظهور دماغ بلوتزمان بقدر حدوث الظواهر الطبيعية في كوننا أو أكثر من ذلك، بل إن الحسابات بناءً على بعض نماذج التضخم الكوني تؤدي في الواقع إلى وضع يكون فيه وجود أدمغة بولتزمان سابحة مستقلة بأعداد لا نهائية تفوق عددًا الأدمغة العادية التي توجد عند أشخاص مثلنا.10
فالمقتضيات الأبستمولوجية لهذا الاحتمال أثارت قضايا لا يمكن لعلماء الكونيات تجاهلها، فلو كانت هذه النماذج الكونية التضخمية دقيقة، فسيكون احتمال أن نكون نحن أنفسنا أدمغة بولتزمان تسبح مستقلة أكثر بكثير من أن نكون أشخاصًا حقيقيين لنا تاريخ من الحياة في هذا الكون الذي عمره 13.7 مليار سنة، حتى أنه في بعض النماذج يكون احتمال ظهور كون كامل مثل كوننا بشكل تلقائي مفاجئ أكثر من احتمال أن يكون كوننا –بشروطه الأولية غير المحتملة بدرجة هائلة– قد تطور بشكل مرتب منتظم عبر مليارات السنين، وهذا يعني أن فرضية العوالم المتعددة في عالم واحد قد أنشأت سخفًا، لأنها تعني احتمال أننا لسنا من نظن أننا نكون، وأن ذاكرتنا وتصوراتنا غير معتَمدة، بل من المحتمل أن صدفة ما قد اصطنعتها من حقول كمومية، وكذلك كوننا نفسه ليس ما يبدو عليه وفق فرضية التضخم الأبدي، باختصار؛ إن الفرضية التي اعتمدها كونين ليحل مشكلة نشأة الحياة جعلت كل التفكير والتفسير العلمي غير معتمد عليه، وبالتالي فإنها تهدد أي أساس لتفسيره كونين نفسه لكيفية نشأة الحياة، إنه لمن العسير أن نخترع فرضية تنقض ذاتها أكثر من هذه!
6. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57.
7. Hawking, Stephen, and Donald Page. “How Probable Is Inflation?” Nuclear Physics B 298 (1988): 789–809.
8. Collins, “The Fine-tuning Design Argument,” esp. 61.
9. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57, esp. 730, 755.
10. Dyson, Lisa, Matthew Kleban, and Leonard Susskind. “Disturbing Implications of a Cosmological Constant.” Journal of High Energy Physics 10 (2002): 11.
6. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57.
7. Hawking, Stephen, and Donald Page. “How Probable Is Inflation?” Nuclear Physics B 298 (1988): 789–809.
8. Collins, “The Fine-tuning Design Argument,” esp. 61.
9. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57, esp. 730, 755.
10. Dyson, Lisa, Matthew Kleban, and Leonard Susskind. “Disturbing Implications of a Cosmological Constant.” Journal of High Energy Physics 10 (2002): 11.