رأى الفيزيائي ماكس بلانك Max Planck أن النظريات لا تُهجر إلا بعد أن يموت كل مناصريها، وأن العلم يتقدم على طريقة (الجنائز المتتالية)، لكن هذه نظرة مليئة بالسخرية المريرة؛ فالعديد من المسائل الكونية الجدلية قد حُسمت، وبعض القضايا القديمة لم تعد مثار جدل أو اختلاف، لقد غير الكثيرون منا رأيهم، وأنا منهم. يقدم هذا الكتاب قصة كنت سأظنها –في وقت سابق– مدهشة؛ فالمنظور الكوني الذي سأطرحه هو منظور شهير يشترك فيه الكثيرون، لكن قد لا يتفق معي الكثيرون بالكامل في تفسيري. الآن، ليست هناك أفكار كونية أكثر هشاشة –وتفلّتًا من الذاكرة– من نظرياتنا حول تاريخ كوكبنا (الأرض)؛ حيث يشير علماء الجيولوجيا إلى أن القارات تتزحزح على سطح الأرض بالسرعة التي تنمو بها أظافرك، وأن أوروبا وأمريكا الشمالية كانتا ملتحمتين منذ 200 مليون سنة، ونحن نصدقهم، على الرغم من أن فترات زمنية طويلة كهذه يصعب أن ندركها جيدًا. نحن نصدق أيضًا قصة تطور محيطنا الحيوي –على الأقل بخطوطها العريضة–، وكيف ظهر البشر. لكن الآن، أصبحت هناك بعض الخواص الأساسية لبيئتنا الكونية، مدعومة بأدلة لا تقل صلابة عن الأدلة التي تدعم الظواهر السابق ذكرها. إن الأدلة الملموسة الداعمة لحدوث انفجار كبير منذ (10–15) مليار سنة لا تقل قوة عن الأدلة التي يطرحها الجيولوجيون عن تاريخ الأرض، وهذا تحول مذهل، إن أجدادنا كانوا يحيكون النظريات دون أي اهتمام بالحقائق، وحتى وقت قريب جدًا لم تبدُ علوم الكون شيئًا أكثر من رياضيات تأملية.
منذ بضع سنين، كنت أثق بنسبة تسعين بالمئة أنه قد حدث انفجار كبير، وأن كل شيء في كوننا المشاهد بدأ ككرة مضغوطة من اللهب، أكثر سخونة من مركز الشمس بكثير. الآن، صارت الأدلة أقوى بكثير، والتقدم المذهل في الملاحظات والتجارب قد سلط الضوء على الصورة الكونية الواسعة خلال تسعينيات القرن العشرين، وإنني لأرفع –الآن– من درجة يقيني إلى تسع وتسعين بالمئة.
"أكثر شيء لا يمكن فهمه عن الكون؛ هو أنه يمكن فهمه" هذه واحدة من أشهر حِكَم أينشتاين، والتي تعبر عن دهشته من أن قوانين الفيزياء –التي ضُبِطت عقولنا بطريقة ما لفهمها– لا تنطبق فقط على الأرض، لكن أيضًا على أبعد مجرة.
علمنا نيوتن أن نفس القوة التي تجعل التفاح يسقط هي التي تمسك القمر والكواكب في مساراتها، والآن نعرف أن نفس القوة هي التي تُحْكِم رباط المجرات، وتجذب بعض النجوم إلى الثقوب السوداء، وقد تقود في النهاية إلى انهيار مجرة أندروميدا على رؤوسنا. إن الذرات في أبعد المجرات تتطابق تمامًا مع الذرات التي يمكننا دراستها في مختبراتنا، ويبدو أن كل أجزاء الكون تتطور بطريقة مشابهة، كأنها تشترك في منشأ واحد، ولولا هذا التطابق ما كان لعلم الكون أن يصل لشيء.
تسلط بعضُ التطورات الأخيرة الضوءَ على ألغاز جديدة حول منشأ كوننا والقوانين التي تحكمه، وحتى مصيره النهائي، وهذه منوطة بأول جزء صغير من الثانية الأولى بعد الانفجار الكبير، حيث كانت الظروف لحظة حدوثه شديدة التطرف إلى درجة عجزنا عن فهم الفيزياء المتعلقة بها، التي من خلالها نتساءل عن طبيعة الوقت وعدد الأبعاد وأصل المادة. في تلك اللحظة الأولى كان كل شيء مضغوطًا بشدة، لدرجة أن مشاكل الكون والعالم الصغير تتداخل –كما يُرمز لذلك بالأروبوروس–.
لا يمكن أن يمتدَّ الفضاء إلى ما لا نهاية، أجَل لا تزال التفاصيل غامضة، لكن يظن أغلب الفيزيائيين أن هناك نوعًا من الحبوبية على مقياس يبلغ (10–33) سنتيمتر، وهذا أصغر بـ (2210) مرة من النواة الذرية، وهو انخفاض كبير يساوي الارتفاع في المقياس بالانتقال من النواة الذرية إلى مدينة كبرى –من ناحية عدد الصور في المثال الذي تصورناه عن عدسة التكبير–. هنا نصطدم بعقبة؛ فلو كانت هناك بُنى أصغر من ذلك لتجاوزت حدود فهمنا للزمان والمكان. ماذا عن البُنى الأكبر؟ هل هناك أصعدة لم يكفِ الوقت منذ الانفجار الكبير –منذ حوالي عشرة مليارات من السنين– ليصل إلينا ضوءها؟
ببساطة لا توجد لدينا أدلة مباشرة، لكن لا حدود نظرية حول مدى كوننا فيما يتعلق بالفضاء والوقت المستقبلي، وحول ما يمكن أن يظهر لرؤيتنا في المستقبل البعيد، فلعل الكون لا يمتد فقط إلى ملايين الأضعاف أبعد من الحيز المشاهَد حاليًا، بل إلى ملايين الأسس للرقم عشرة أبعد من الحيز المشاهد. هذا ليس كل شيء، فكوننا الذي يمتد لمسافات شاسعة أبعد من الأفق الذي نراه حاليًا، قد يكون أصلًا واحدًا من عدد يحتمل أن يكون لانهائيًّا من الأكوان. وعلى الرغم من أن مفهوم (الأكوان المتعددة) هذا تخيلي، إلا أنه امتداد طبيعي للنظريات الكونية الحالية، التي تكتسب مصداقية لأنها تفسر الأشياء التي نراها بالفعل. قد تكون القوانين الفيزيائية والهندسة مختلفة في أكوان أخرى، وهذا يقدم منظورًا آخر حول القيم الهامة التي تمثلها الأرقام الستة في كوننا.