- البارحة، وأنا أجر خطاي على شاطئ الخليج العربي...
ويلفعني نسيم ليلة صافية، بدت فيها النجوم تتلألأ فوق ظلمة البحر...
- سألتني نفسي سؤالاً، بل أسئلة: إنك سعيد قرير العين بهذا الجمال، هذا الجلال، هذا النظام، أليس كذلك؟
- قلت: بلى، وكيف لا؟
- قالت: لا شيء، ولا أنكر ما تراه، ولكن أخبرني: لم لا تُنْصف وتنظر إلى الجانب الآخر من الحياة.
- قلت: كيف؟ ما هو؟
- قالت: تلك المظاهر التي لا تنسجم تحت قانون مفهوم، ولا تنتظم في سلك معلوم...
طفل يعبر الطريق فتدهسه سيارة مسرعة..
و أخطاء الطبيعة الفادحة: إعاقات، تشوهات، إلخ..
آثار الفوضى ومظاهر العبث التي تحصل بلا فائدة معلومة أو نفع مفهوم ؛ انفجار نجمي في الغور السحيق من الكون، لِمَ ؟
كوب القهوة الذي سقط من يدك صباح اليوم، لِمَ ؟
أتسمي هذا نظاماً؟
أترى في هذا جمالاً؟ أو دليلاً على خالق عظيم عليم، بزعمك، يحسن تدبير الأمور؟
إنك فقط تنظر إلى ما تريد أن تنظر إليه، هيا، اعترف، أليس كذلك؟
- سادت لحظة صمت...
يتخللها صوت تكسر الأمواج على جانب البّر...
ظنت بي نفسي ظن السَّوء، على شيطانها دائرة السَّوء...
وهي تنتظر لتنتزع مني اعترافاً...
ولم تدرِ..
لم يدر بخلدها، أني قد أعددت لهذا جواباً يسكن بين جوانحي، اقتبسته من علمي بكتاب الله..
وهكذا مرت الدقائق في ذلك المكان...
- التفت إلى نفسي وكأني بها قد خرجت لتواجهني...
نظرت إليها وتدبرت وجهها، لم تكن هي التي أعرفها...
هناك شيء ما، ولكني عرفت أن الشيطان أراد أن يمسها بنصب وعذاب، وقد كان شيء من ذلك...
رأيت نفحة من الإعياء تعلو مُحيّاها، فشعرت على الفور أنها بحاجة إلى مساعدة، إلى مد يد العون في أسرع وقت، استجمعت فكري كله..
ثم ناديتها: أيا نفس اطمئني، لا خوف عليك إن شاء الله..
سيأتيك ما يُذهب جزعك وفزعك..
- سألتها: ألست تعرفين القرآن ؟
- قالت: بلى...
- فقلت: هل قرأتِ هذه الآية أو سبق أن وقفتِ عندها: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران : 7]
فماذا فعلت بك وماذا فعلتِ بها؟ تعجبت!
- وقالت: ولم هذه الآية تحديداً؟
وأين جوابك عن تلك الأسئلة؟
أتريد أن تتركني بلا جواب أم ماذا؟
- قلت لها: مهلاً إن الجواب في هذه الآية على أحسن ما يكون.
- ردت بحدة: كيف؟ أرني ! ولا تتأخر!.
- فقلت لها: أشترط عليك أولاً !
- ردّت: بماذا؟
- قلت: اشترط عليك شرط العبد الصالح مع موسى، ألا تقاطعيني حتى أفصّل لك الجواب تفصيلاً...
فأنت لست إلا نفساً مسلمة أقلقها بعض ما تسمع وتقرأ من الشبهات، أليس كذلك؟ قالت: بلى.. بلى.
- قلت: إذاً اتفقنا، نمضي قُدُماً، نسمع الجواب؟
- قالت: نعم.. نعم.. أعدك أن أنصت إلى جوابك..
إذ يبدو أنك قد عرفت دائي.. فعجل بدوائي..
كي أرتاح، وأعود من غربتي إليك، فلا أتركك أبداً.
إذاً، كوني معي بكليتك..
- إن الله لما أنزل القرآن، جعل فيه المتشابه والمحكم، وكل منهما مقصود، حتى هذا المتشابه الذي يعتبره البعض مصدر تشويش وغموض، مجعول مقصود..
(فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)
نعم، إن المتشابه له وظيفة ينتهي إليها، ومغزى يحققه..
تأملي معي، أليس يمكننا تصور عبث مقصود؟
- قالت متعجبة: عبث مقصود؟!!
ما هذا التناقض؟
- قلت: نعم. لعبة النرد أليست نشاطاً مقصوداً ولها قوانين، ولكن فيها قدر من الفوضى والعبث المتمثل في الرمي العفوي الذي لا تعلم عواقبه؟
- قالت: نعم، صحيح.. صحيح، بالفعل.
- قلت: فهذا فقط تقريب للمسألة التي نحن بصددها.
إن المتشابه القرآني التنزيلي من حيث كونه فتنة لمن تعلق به إنما تستجيب له النفوس التي ترد المحكم إلى المتشابه بدلاً من العكس، إنها غاية ربانية مرتبة ومقصودة، لها طلابها..
(وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ)
- توقفتُ برهة أتأمل ذلك السرحان في وجهها..
- ولكن سرعان ما ثابت إلى ما نحن فيه سائلة: كلام جميل، ولكن لا أدري ما غايتك من هذا؟ هل انتهيت؟
- قلت: أبداً، لم أنته، إنها البداية فقط.
ولكن قبل أن أودعك لألتقي بك في المرة القادمة إن شاء الله، خذي هذه الفائدة، وإلى أن يحين موعد اللقاء بك، أظنك بتفكرك فيها ستدركين شيئاً مما أرمي إليه...
إنني اعتقد أن الله جعل المتشابه على نوعين من الوجود: المتشابه القرآني التنزيلي، ويقابله ويتماهى معه، المتشابه العيني التكويني، الآن تفكري وتأملي في هذه المقولة، سوف ترين أن ما استحسنتيه قبل قليل حول المتشابه في القرآن هو ما سوف تستحسنينه في النوع الثاني من المتشابه العيني التكويني..
- قالت: وماذا تقصد بالعيني التكويني؟
- قلت: هذا شيء أريدك أن تفهميه بقليل من التدبر، ولابأس إن لم تصيبي، سوف أسددك، وأصححك..
والآن، لا بد أن أذهب (كارل ساجان!!)..
أتركك في حفظ المولى في أمان الله.
- هتفت بسرعة: لحظة، لا تذهب، كارل ساجان!
قد سمعت بهذا الاسم من قبل، أخبرني عن صاحبه، تمهل أرجوك...
ثم وليتُ وتركتها مشغولة البال، تدور طاحونة فكرها وفضولها لأقصى قوة...
- جئت على الموعد لم تُخلفني.
- رحبتُ بها، هشّت وبشّت، أصبحنا أكثر قرباً..
- والآن، أخبرني ولا تؤخرني، ما قصتك مع كارل ساجان هذا؟
- قلت: حسناً، سأخبرك عن الرجل، فهذا أوان الحديث عنه..
إنه رجل ملحد، يمثل فئة من الملاحدة تفكر بطريقة غريبة..
- قالت: كيف؟
- قلت: باختصار، أساس إلحاده أنه مولع بتتبع المتشابهات التكوينية..
- آه، بالمناسبة أجدها فرصة الآن لأشرح لكِ فهمي للمتشابه التكويني العيني.
حسناً المتشابه التكويني هو الجزء غير المفهوم من الكون المشاهد..
الجزء الذي يشتبه على الملاحظ، ويتردد بين أصلين فيصعب إلحاقه بأحدهما، ففيه مقومات النظام والإحكام، وفي نفس الوقت ينفعل في الوجود بطريقة تصطدم مع معاييرنا الأخلاقية ومقاييسنا العقلية..
كارل ساجان نفسه اعترف أنه يوجد نظام كثير في الكون، ولكن لسبب نفسي عميق أذكره لاحقاً، آثر التأثّر بالمتشابه وجعله الأصل الذي ترد إليه كل الأشياء، بما في ذلك المحكم التكويني الذي لا تشابه فيه..
- قاطعتني قائلة: أعطني مثالاً للمحكم التكويني إذاً؟
- قلت: آه لا أجـد!!
[جحظت عيناها]
- ردّت: ماذا؟ أتعني ما تقول؟ ليس عندك مثال لما تزعم أنه محكم وواضح لكل ملاحظ؟!!
[بابتسامة هادئة]
- أجبتها: نعم من الصعب إيجاد محكمٌ واحد يقطع النزاع فتجتمع عليه قلوب البشر كلهم..
[ صمَتَتْ ومعالم الحيرة والقلق تعلو محيّاها]
- قطعتُ هذا الصمت: ماذا بك هل أزعجك جوابي؟
أنا لم أنف وجود المحكم التكويني، هو موجود ولكني أعجز أن أضرب لك مثالاً على محكمٍ لا يختلف عليه اثنان!
وإلا فالمحكم التكويني عندي شخصياً لا أمَد له ولا حصر له...
ما أريد أن أقوله هو أن إحكام الآيات الكونية مهما بلغت من الإحكام ليس شرطاً كافياً لضمان رؤيتها على نمط واحد من الوضوح عند كل ملاحظ..
إنها معادلة مقدَّرة الإنسان طرف فيها، هاه فهمتِ؟
- أجابت بتردد: ليس تماماً
- قلت: حسناً بسرعة، تخيلي أنك عاصرتِ أحد الأنبياء..
وكنتِ ممن شهد بأم عينيه نزول كتاب من السماء حتى وقع في يده..
وليس هذا فقط بل أمسكتيه بيديك، أفيبقى عندك شك في صدق ما رأيتي؟
- قالت: أبداً!
- قلت مستفهماً: ماذا تقصدين بـ"أبداً"؟
- أجابت: أقصد لا أشكّ في صدق ما رأيت وأمسكت البتة !
- قلت: إذاً إقرأي وتدبري هذه الآية..
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ)
صَرَخَتْ: يا الله يا رب..!
يتبع..