وبعد أن أجهشت بالبكاء وهدأت...
همَسَت: سبحان الله، الإنسان شيء غريب بالفعل...
كلماتي تعجز...
قلت: نعم تعجز ولكني أسمع جوابك في نبرتِك
أنا وأنتِ نرى المُحكم في أبهى صوره...
وغيرنا يراه عبثا، وحتى إن رأى فيه بعض إحكام، أو أثارة من نظام، لم يرَ في ذلك كله أكثر من دلالته على نفسه...
إن قصة الإيمان ورحلة اليقين...
ليست مسألة أدلة قاطعة وآيات ساطعة...
- إنها قضية مُركبة من ناظر ومنظور...
ففساد الناظر يعتور المنظور
فيُخفي أجمل ما فيه...
فسبحان مَن جعل الانتفاع بما خارج النفس مشروط بتطهيرها مما يعيق ذلك الانتفاع...
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)
- ولذلك نجد طرفي هذه المعادلة في القرآن...
نرى الكون يقابل الإنسان والعكس فالأول آفاقي والثاني نفساني (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ) (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)
فلا تعجبي إذا رأيتِ مَن لا يرى إلا باطلا (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)
هذا طبيعي، طبيعيٌ جدا...
وهو في مراد الله الكوني -حتى وإن شذ عن مراده الديني- أن يوجد مَن يرى ضرورة وجود الخالق أقلَّ من ضرورة وجود المخلوق!
- زفرت زفرة وقالت:
ما أحكمك يارب ما أعظمك...
ألهذا الحد بلغ الإتقان في العلاقة بين الكون والإنسان!
أجبتها: وما خفي أكبر وأعظم وأجلّ...
ألم تعلمي أن الله قد أودع فينا من أسراره ما لا يكاد يخطر ببال أحد؟
وعندي في ذلك فكرة وتأمل...
- قالت: هات ما عندك هاته كله
قلت: ألم تتفكري يوما من الأيام في حجم البدن البشري مقارنة بأحجام سائر الأشياء في كوننا المشاهد؟
قالت: بلى إنه حجم ضئيل حقير!
[انتابتني ضحكة]
وقلت: كنت أشعر أنك ستجيبين بهذا...
وأكثر الناس بالفعل يلتفت إلى هذا المعنى...
ولكن مرادي أمر آخر إن حجم الإنسان ليس حقيرا إلى الدرجة التي نتخيلها ونسمع عنها كلما أراد واعظ أو شيخ أن يخبرنا عن عظمة خلق الله!
ولكنه ليس كبيرا أيضا...
لقد اكتشف العلماء في ضوء ما لديهم من معطيات أن حجم بدن الإنسان هو وسط بين أكبر شيء نعرفه في الكون (المجرة) وبين أصغر شيء نعرفه وهو عالم (الذرة) أو (ما دون الذرة)...
حتى ريتشارد دوكينز -أستاذ ملاحدة اليوم- وجدته يعجب حرفيا من هذا الوضع المكاني الحجمي المميز للنوع البشري...
ونحن بدورنا -ومن باب من لا يشكر الناس لا يشكر الله- نشكر البروفيسور (جون بارو) أستاذ الفلك والفيزياء الذي توصل إلى هذا الكشف من خلال نموذجه -نموذج أحجام الأشياء على مقياس لوغاريتمي- ولهذا الكشف دلالاته العجيبة والتي سوف تكون محور حديثنا في المرة القادمة.
ولكن إلى أن نلتقي تدبري قوله تعالى:
(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
فإن لي مع هذه الآية وقفة...
فاجأتني قائلة: ولم التأجيل؟
أخبرني الآن عبد الله...
مهلا لم تفعل هذا عبد الله!
ثم غبت في الأفق...
تمر الأيام وألتقي بها...
كيف أنت اليوم؟
أجابت بلهفة: كيف أنا!
بل أخبرني أنت أولا لم هذا الغياب الطويل؟
أجبتها: وماذا كنت تفعلين طوال تلك المدة؟
أجابت: مكثت أتأمل قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وأقلب النظر في كل معنى انقدح في ذهني بسببها...
قاطعتها: وهل شعرت بالملل؟
هل انصرم الوقت قبل أن يفنى تأملك فيها؟
أجابت: كلا كلا...
بل لا أظن الأيام الطويلة تكفي لذلك
[ضحكت بهدوء]
قاطعتني: ما بك؟
أجبت: لا شيء لا شيء
ردت: كيف "لا شيء لا شيء"؟!!
قلت: بصراحة قارنت بين قولك أني غبت طويلا، وقولك أنك استغرقت في تأمل الآية طوال تلك الفترة، فلا أدري ما أصدق...
هل كنت في انتظاري فعلا أم لم تجدي وقتا لذلك بسبب استغراقك في تأمل الآية؟
ردت بخجل: آآه حسنًا
أمممم لا بأس، في الحقيقة صحيح أنك غبت طويلا، ولكن ما تركتني فيه بعد ذهابك أذهلني عن مضي الوقت، وماذا تتوقع ممن يقبل على كتاب الله؟!
قلت: جميل جميل
إذا هيا بنا نرى ما عندك أخبريني فكلي آذان صاغية
[زفرت زفرتها المعتادة]
ثم قالت: سأخبرك، ولكن من أين أبدأ؟ وأين انتهي؟
قلت: كنت أعرف أن الأمر عظيم وجليل
ولابد أنك شعرت وتشعرين بهذا
قالت: تماما تماما
ومع ذلك لم يخفت شعوري المتعاظم بقراءتك لأفكاري ومشاعري!
أجبتها [متعجبا]: هكذا إذا يبدو!
أنك قد أطلقت العنان لنفسك أن تسبح في ملكوت الآية...
دون أن تكبحيها بزمام الرصد والتنظيم...
إن ما فعلتيه هو أسلوب من أساليب العيش مع القرآن، بل هو من أعظم سبل الاستشفاء به...
هذه السباحة المتحررة من كل قيد...
هي لا تقف بك عند ساحل...
هي تجوال لا نهائي خارج حدود الزمان والمكان...
إن كان هناك حدود أصلا!
ولكن هذا التجوال هو الذي فوت عليك قنص فوائد التدبر التي كنت انتظر سماعها منك...
ولكن لا بأس أتودين أن أخبرك بما لدي؟
والأمر إليك...
أجابت: يالله!
لقد وصفت حالتي، بل وصفتني!
وكأنك كنت معي في تلك الرحلة الأزلية الأبدية...
قاطعتها بهدوء؛ هنيئا لك...
إذا والآن أتودين أن أقول ما عندي؟
أجابت: تفضل تفضل، وما عذري في منعك!
أنا التي كلي آذان صاغية...
[سادت لحظة صمت... لحظة تأهب]
إذا استهل الكلام بسؤال؛ إذا كان الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، فهل هذا يعني أنه لن يقدر على أن يخلق الإنسان على هيئة أحسن من الهيئة التي هو عليها الآن؟
[سكتت وطال سكوتها!]
قاطعتها: ما بك؟
أجابت: لا أدري بل يقدر يقدر!
[عرفت أنها مترددة]
واصلت حديثي: هنا يأتي دور (جون بارو) و(لورنس هندرسون) و(دارسي ثومبسون) وغيرهم...
إن هؤلاء لم يأتوا بشيء غير ما في الآية، وإنما جاؤوا بما يقرر معناها ويُحبّر فحواها...
إن هؤلاء قد فطنوا إلى الجزء الذي أهمله داروين...
ولو أعاره شيئا من الاهتمام لكان له رأي آخر في قصة الخلق...
إنه مناسبة البيئة والكون في مكوناتهما وخصائصهما لبنية الإنسان وسماته الحيوية...
فثومبسون أبرز التناسب بين الجاذبية وطول الإنسان، بينما لحظ هندرسون أن البيئة صديقة للإنسان أو بعبارة أخرى ممكّنة لوجوده واستمراره مصداقا لقوله تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ)
وهذا التمكين ليس إلا تعبيرا لمجموع الشروط والظروف المعززة لبقاء النوع الإنساني...
وأما المعايش -وفي قراءة "معائش"- فلها كلام طويل، المهم نعود إلى موضوعنا...
وأما (بارو) فبرهن على أن الكون في مجموعه مع ما تضمنه من نِسب حرجه -ومقادير دقيقة أيضا- هو مناسب لحجم الإنسان وفضاء تفكيره، فهو -أي الإنسان- ليس حقيرا صغيرا حتى يرى الجزيئات كالمجرات وليس عظيم الضخامة بحيث يفوت عليه رؤية العلاقات بين الأشياء على مستوى النظر المجرد كما نعرفه نحن في وضعنا الحالي ومن هنا نتلمح معنى جديدا "لحسن التقويم" في قوله تعالى (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
ويمكننا في آن؛ استجلاء معنى جميلا للآية، وكذلك فهم المراد بصيغة التفضيل على وزن "أفعل" في قوله (أحسن).
ذلك أن المراد هو أن الله قد جعل الإنسان في أحسن هيئة يمكن أن يوجد عليها في العالم الذي هو فيه، وأما في غير هذا العالم -كالجنة مثلا- فلا ريب أن هناك حُسْن آخر لوجود الإنسان يتناسب وهيئة ذلك العالم وخصائصه...
وهذا الإحسان في تقويم الإنسان له غرضه الشريف...
وهو تحقق معاني التكليف واستخراج مقاصد الامتحان من وجوده في عالم كهذا العالم...
ولو أردنا التمثيل بالجزئيات على هذا فإنه لا حد لها على المستوى المادي والمعنوي والأخلاقي والتشريعي...
ولكني أُعطيك مثالا واحدا؛ عند الإنسان قوة أخلاقية اسمها قوة "الوعد" أو "العهد" فهو بطبعه يحتاج أن "يعِد" أو "يُعاهد" في حياته وفي معاملاته...
ولكن تخيلي كيف يمكن لقوة الوعد والعهد أن تظهر أو تنفعل في عالم خال من الزمن كما نعرفه الآن؟!
إن الله لما يُطالب الإنسان بالوفاء بالعهد فلا بد أن يسبق ذلك شروط مادية فيزيائية مُمَكّنة ومنها أن يوجد الزمن؛ أي هذا التراخي والتباعد في الوقت ليوجد المستقبل...
وإلا فإن الوعد والوفاء به لا معنى لهما بلا مستقبل يكسبهما دلالتهما في الحاضر
وهكذا يتماهى ويتناسق التركيب الكوني مع البعد الإدراكي مع الوظيفة الأخلاقية لواحدة من خصائص السلوك البشري!!
وقيسي على ذلك الكثير والكثير فقط ضعي الأشياء في سياقها
فيزول عنك ما يُشكل عليك...
ثم رأيتها بعد برهة من الزمن وقد زال بعض ذلك الامتعاض...
بادرتها بالكلام: يا نفس هل ذهب عنك بعض ذاك الاستعجام وشيئا من تلك الآلام؟
أجابتني بمفاجأة: مرحبا بعد طول غياب...
نعم ذهب، ذهب الكثير،
ولكن هجم علي قليل خطير!
أنهكني على مر الليالي والأيام!
إنها القشة التي بعثت في قلبي شكوكا كالجبال!
قاطعتُها: هوّني عليك هوّني عليك
تذكّري ما منّ الله به عليك في ما مضى من سواطع الأنوار...
كم انقشع من غيمة...
وكم ذاب من همّ...
فاستقبلي أمرك بما استدبرتيه من سعادة...
قالت [وهي تلتقط أنفاسها]: آهاااه
ما أجملها من لحظاتٍ تلك
وما أبردها على كبدي!
قلتُ [وشفتاي تلفُّهُما ابتسامة صغيرة]:
وما الذي يمنع "عقلا" أو "عادة"
أن يكون القادم أجمل؟
أجابتني [ولغة عيناها تستبق الكلام]: يالك مِن...!
إنك لا تترك فلسفتك الغريبة!
وماذا عساي أن أقول؟
لا يوجد ما يمنع!
قلتُ: فهات ما عندِك...
هاتِ تلك القشة...
بل ذلك الوهم، لنزيده وهنا على وهن...
هات ذلك كله...
فأنتِ على موعد مع...
(الجواب الذي أسعدها)
يتبع...