تتخبط الأرواح في ظلمات التيه، ويطوق خناقها طوفان الشك، فتكبلها موجات التزعزع، تجدها أقامت ردحا من الزمن في دهاليز الظلمة والشك ينخر في فطرتها، يزيدها ضلالا وضياعا، كبرا وجهلا، وكانت دعوى تحرر العقل وتنويره هي البوابات الكبرى لولوج هذا الكهف المظلم...
وما تلبث الأرواح التي تبحث عن الحقيقة بصدق أن ترجع إلى ميدان الضياء، وفسحة الأمل، وراحة البال وهناءه، وتوفيق الله كان لها حليفا.
هنا تنطلق الفطرة السوية وتتحرر مما يكبلها، فالفطرة الصافية المتحررة من كل زيغ وبهتان، تسلم بوجود الله وأنه هو الخالق لهذا العالم، والمالك لهذا الوجود بلا منازع.
من هذه النماذج التي أقامت تحت طوفان الشك وأقلقتها الحيرة وبددت استقرارها فبدى صوت العقل في مسيرتها لحوحا حتى جرفها في وحل الضياع، الأستاذ الدكتور (مصطفى محمود).
فقد بدأ هذا الداء ينخر في نفسه في سن مبكرة، وأصبح يقض مضجعه ولعلنا في هذه السطور نقف على شيء من محطات رحلته، ونسلط الضوء على بعض التحولات التي مر بها في مسيرته، ونستعرض كلماته التي عبر بها عن ذاته في كل مرحلة من هذه الرحلة...
يقول مصطفى محمود في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان): "كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره.. ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك.. في مطالع المراهقة.. حينما بدأت أتساءل في تمرد: تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من موجد.. صدقنا وآمنا.. فلتقولوا لي إذن من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته.. فإذا كان قد جاء بذاته وصح في تصوركم أن يتم هذا الأمر.. فلماذا لا يصح في تصوركم أيضا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال...".
وبالطبع كلما توغل الإنسان وتعمق في نظرته إلى الكون لتظهر له الصفات الواجب توفرها في هذا الأزلي الذي ليس قبله شيء: أدرك بأقل نظر وإعمال عقل أنه حكيم قدير عليم له إرادة خاصة ومشيئة حرة، وهو أبعد ما يكون عن كون أصم لا حياة فيه ولا حرية تصرف في مادته التي نخضعها في معاملنا ليل نهار من غير أن تعترض!
ويحكي مصطفى محمود خطواته الأولى في هذا الطريق، ويظهر حقيقة تسيطر على من يمضي فيه، بأن السائر في هذا الطريق ليس بالضرورة يبحث عن الحقيقة، فقد يكون تقلبه في هذا الوحل واستمراره في هذا التيه إنما هو نابع عن اعتداد بالنفس وكبر فيها، يقول مصطفى محمود واصفا هذه المرحلة من حياته، وزهوه في عقله: "إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها.. كان هو الحافز دائما.. وكان هو المشجع.. وكان هو الدافع.. وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب.
لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة".
ويصف مصطفى محمود مزلقا خطيرا يقذف بالإنسان في الهوة، ويغرقه في مستنقع الوحل من حيث لا يشعر، إنها نظرة التبجيل والإكبار الزائد للغرب، ونظرة التخلف والدونية للعرب فيقول حاكيا نظرته ومن سار على طريقه: "كان الغرب هو التقدم، وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والانهيار تحت أقدام الاستعمار، وكان طبيعيا أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق... وهو السبيل إلى القوة والخلاص".
ومن ثم مضى مصطفى محمود يبحث عن راحة نفسه واستقرارها لما رأى أنها مضمحلة في هذا العالم الذي يعيشه، فظل يبحث عن مخرج تأنس به روحه وتستقر، فتشبث بوميض رأى أن فيه خلاصًا لنفسه، حيث يقول حاكيًا رحلته في أحد السراديب وهو يتلمس نور الحقيقة: "وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها، وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود، وسيطرت عليّ فكرة التناسخ مدة طويلة، وظهرت روايات لي مثل العنكبوت والخروج من التابوت، ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الاقتناع، واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط، ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومُنقذي ومُرشدي".
وفي سراديب العيش في وحدة الوجود الهندية حيث كانت طريق امتد إلى نهاية هلامية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تمنح راحة ولا قرارًا وإنما زيادة تيه على تيه، وضياع على ضياع، فلم يلبث أن وعى أنه أقحم نفسه في سراديب مظلمة.
وبعد تجليات ومسارات متعددة في حياته من تمجيد للعقل، وخوض في الفلسفات المتنطعة كوحدة الوجود الهندية، وتشعبات وطرق متداخلة، وشد وجذب مع النفس وصل أقصى حدوده، استقرت نفس مصطفى محمود على الحقيقة الكبرى، واطمأنت إلى الحقيقة العظمى، وأدركت أنها هي الطريق الصحيح الوحيد، فالدنيا مرحلة مؤقتة تليها الحياة الكبرى، فالبعث والنشور حقيقة لا مرية فيها ولا جدال بعد هذه الرحلة الطويلة، فها هو يصف الدنيا بعد أن استقر نور الحقيقة في قلبه: "إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها وما قبلها, وهي ليست كل الحقيقة ولا كل القصة.. وإنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً، وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة، أدركها الإنسان البدائي، وقال بها الأنبياء أخباراً عن الغيب، وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح...".
ويعلن مصطفى أن الفطرة السوية التي خلقها الله في القلوب بيضاء نقية لم يشبها الغبش ولم تلونها الفلسفات المتنطعة، هي من أعظم الطرق لبلوغ التوحيد الصحيح، وإن الإسراف في تتويج العقل وجعله هو المحرك لحياة الإنسان، لا حدود إلا ما يرسمها، ولا ضوابط إلا ما يقيمها لهو الهوّة العظمى في طريق الصواب يبتلع كل ما يمر عليه.
يقول مصطفى محمود في هذا الشأن حاكياً مشواره الذي تقلب فيه سنيناً من عمره ووجع الضياع يفتك به ويسلبه الأمان: "واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثم إعادة النظر في إعادة النظر.. ثم تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين.
لم يكن الأمر سهلاً.. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً، ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل.. ولقادتني الفطرة إلى الله.. ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسًا، وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورًا واعتدادًا.. والعقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات.. فتصور نفسه القادر على كل شيء وزج نفسه في كل شيء وأقام نفسه حاكمًا على ما يعلم وما لا يعلم".
وسبحان مَن يغير القلوب ويهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، فقد كان مصطفى محمود يحارب الدين بالعلم، ويقارعه بالفلسفة، وحين انبثقت الفطرة السوية وزال عنها الغبش فها هو يقول: "إن الله الخالق العادل الملهـِم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة، وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك، والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت.. لأنه لا يقوم على أساس.. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية، وهذا ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة.. من بدايتها المزهوة في كتاب ((الله والإنسان)) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل".
وفي هذا الطريق هناك العديد من الشبه التي تغذي السير فيه، وتزرع التذبذب، بدت لمصطفى محمود في رحلته، وبعد أن تجلت أنوار الحقيقة إذا هو ينقض هذه المزاعم ويفندها.
فها هو يبطل دعامة من أكبر دعائم هذا الطريق، وجسر عبره الكثيرون للوصول إلى هذه المرحلة من الشك والإلحاد، إنه القول بـ"أزلية الوجود" والفلسفات المنطوية على هذا المعنى، فيقول: "أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود، فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ، والعدم في واقع الأمر غير معدوم، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوماً.. ويقول: "ولو كان الكون أزليًا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة.. ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كلُّ شيء، إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون كان له بدء".
ومن الشبه التي تثار كثيرًا ويتعلق بها السائرون في غياهب الإلحاد والشك، وينثرونها لتعزز اتجاههم وتدعم موقفهم ويظهرون أنهم على الحق هي: لماذا العذاب؟!
وها هو الدكتور مصطفى محمود يحكي من خلال رحلته نظرته لهذا الجانب: "المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب, فهم يقولون: كيف يعذبنا الله والله محبة؟ و ينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب ومع ذلك يعاقبه بالضرب والحرمان من المصروف والتأديب والتعنيف.. وكلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه.. ولو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه ولقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية.. فما بال الرب وهو المربي الأعظم.. وكلمة الرب مشتقة من التربية، والواقع أن عبارة ((الله محبة)) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويحملونها معنىً مطلقاً.. ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق.. وهذا غير صحيح، فهل الله يحب الظلم مثلاً؟ مستحيل.. مستحيل أن يحب الله الظلم والظالمين.. وأن يستوي في نظره ظالم ومظلوم".
والصدفة من أهم مرتكزات الفكر الإلحادي التي يُفسر وجود العالم بها وأن هذا العالم هو نتاج للصدفة، ثم بسلسلة من المصادفات تسير الحياة. وها هو مصطفى محمود بعد أن أبصر نور الحقيقة، وعلم أن هذا الكلام لا يقبله عاقل، ولم يبن على علم صحيح، فهو يصف مظاهر الحياة والنظام البديع فيها، ويتساءل كيف يكون سيرها بهذا النظام والإحكام والدقة صدفة؟! فيقول: "وإذا سلمنا بصدفة واحدة في البداية. فكيف يقبل العقل سلسلة متلاحقة من المصادفات والخبطات العشوائية، إنها السذاجة بعينها التي لا تحدث إلا في الأفلام الهزلية الرخيصة؟".
ومما يتشدق به المتعلقون بهذا الوهم أن وجود الإله ينافي العلم، وأن العلم ينافي المحسوسات فأين الله حتى نؤمن به؟!
فيقول مصطفى محمود نافياً هذا الزعم ومبطلاً هذه الفرية: "إن نصف العلم الآن أصبح غيباً، العلم يلاحظ ويدون الملاحظات.. ثم يقول: نحن في عصر العلم الغيبي.. والضرب في متاهات الفروض، وليس للعلم الآن أن يحتج على الغيبيات بعد أن غرق إلى أذنيه في الغيبيات، وأولى بنا أن نؤمن بعالم الغيب. خالقنا البر الكريم. الذي نرى آثاره في كل لمحة عين وكل نبضة قلب وكل سبحة تأمل، هذا أمر أولى بنا من الغرق في الفروض".
وهو يسير هنا إلى ما وصل إليه العلم من الحديث عن عالم الذرة وجسيمات ما دون الذرة والتي يستدل عليها بآثارها وكتلتها وسلوكياتها وهو لم يرها بعينه قط !! ويذكر مصطفى محمود أن العلم الحقيقي لم يكن يوما مناقضاً للدين، وأن السبب في وقوع الشبهات هو القصور في العلم والاعتداد بالعقل: "إن العلم الحق لم يكن أبدًا مناقضًا للدين بل إنه دال عليه مؤكد بمعناه، وإنما (نصف العلم) هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك.. وبخاصة إن كان ذلك العقل مزهوًا بنفسه معتدّاً بعقلانيته.. وبخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كلّ شيء.. وإذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة ماديّة صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعيّة.. هاتفةً كلّ لحظة، أنا المادة، أنا كل شيء".
ويحكي مصطفى محمود حقيقة عظمى وهي: "لا تعارض بين الدين والعلم، لأن الدين في ذاته مُنتهى العلم المشتمل بالضرورة على جميع لعلوم، والدين ضروري ومطلوب لأنه هو الذي يرسم للعلوم الصغيرة غاياتها وأهدافها ويضع لها وظائفها السليمة في إطار الحياة المثلى، الدين هو الذي يقيم الضمير، والضمير بدوره يختار للطاقة الذرية وظيفة بناءة.. ولا يلقى بها دماراً وموتاً على الأبرياء".
إن العقل -ومهما بلغ مبلغه في الإنسان- إذا نأى بصاحبه عن الطريق المستقيم فلن يجد في قلبه مستراحًا، فسبحان مقلب القلوب، فحينما أراد الله لمصطفى محمود سلوك الطريق المستقيم، صار يتعجب ممَن يطلب برهاناً لوجود الله رغم أن هذا كان شأنه في بداية طريقه، ولكن بعد أن تجلت له أنوار الهداية أصبح يقول وبكل ثقة: "والعجب كل العجب لمَن يسألنا عن برهان على وجود الله.. على وجود الحق.. وهو نازع إليه بكليته مشغوف به بجماع قلبه، وكيف يكون موضع شك مَن هو مَطلب كل القلوب ومَهوى جميع الأفئدة وهدف جميع البصائر؟ كيف نشك في وجوده وهو مستول على كل مشاعرنا؟ كيف نشك في الحق ونطلب عليه دليلاً من الباطل؟ كيف ننزلق مع المنطق المراوغ إلى هذه الدرجة من التناقض فنجعل مِن لب الوجود وحقيقة حقائقه محل سؤال؟ إني لا أجد نصيحة أثمن من أن أقول: ليعُد كل منا إلى فطرته.. ليعُد إلى بكارته وعذريته التي لم تدنسها لفلفات المنطق ومراوغات العقل، ليعُد كل منا إلى قلبه في ساعة خلوة، وليسأل قلبه، وسوف يدله قلبه على كل شيء، فقد أودع الله في قلوبنا تلك البوصلة التي لا تخطئ.. والتي اسمها الفطرة والبداهة، وهي فطرة لا تقبل التبديل ولا التشويه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)".
ونختم هذه الرحلة بعبارات جميلة نابعة من قلب أرهقته الرحلة فاستقر أخيراً، فها هو مصطفى محمود يحكي العلاقة بين الخلق والخالق، يحكي الصلة بين الله سبحانه وتعالى وبين مخلوقاته وتعامله معها فيقول: "والصلة دائمًا معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها، وهو المبدع الذي أظهر الإبداع في هذه المعزوفة الكونية الرائعة، وهو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ، وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله".
المراجع:
- دكتور مصطفى محمود، رحلتي من الشك إلى الإيمان، طبعة دار المعارف المصرية.
- دكتور مصطفى محمود، كتاب حوار مع صديقي الملحد، طبعة دار المعارف المصرية.