قد يعتقد البعضُ أنّ الإلحادَ موقفٌ عدميٌّ لا يحتاج التبرير، موقفٌ مسلّح بالعلم والمنطق، أمَّا الإيمانَ فهو موقفٌ إيجابيٌّ إضافيٌّ يحتاج التبرير لوجوده، ويغترُّ المحاورُ المؤمن بكثرة الشبهات والاعتراضات المنطقية وغير المنطقية علي الأديان، ساعد علي ذلك أن أغلب الحوارات العربية حوارات ميكانيكية استهلاكية، كالحديث عن تفاصيل نظرية التطور دون طرح الأسئلة الآتية: ما الدليل علي أنّ نظريةَ التطور علمٌ؟ وما هو معيار العلم؟ وما هو أساسه المنطقيُّ؟
ونلخّصُ ذلك في: ما الذي يؤمن به الملحد؟ هل العلم التجريبي معصوم؟
إنّ دين الملحد يقوم علي الملاحظة والتجربة المتفاوتة؛ فتارة ملاحظة شبه خالصة كعلم الفلك، وتارة تجريبية كالكيمياء، والجمع بينهما كالطب وغيره، كلّ هذا تحت مسمى المنهج الاستقرائي في المعرفة البشرية..
فمثلا: استقراء الإنسان للمعدن أنه يتمدد بالحرارة بتجارب محددة، ثم يعمم علي المعادن هذا التمدد وتُستنتجُ قاعدة: المعادن تتمدد بالحرارة وكل معدن -ولو لم يخضع للتجربة- داخل في القاعدة أيضا، ولكي يقوم العلم التجريبي لابُدَّ من عقيدةٍ لا دليلَ عليها أيضا، تسمى "اطّرادُ الحوادثِ"، وهي الإيمان بأنّ قانونًا مثلَ (المعادن تتمدد بالحرارة..) كان في الماضي هكذا كما هو الآن وكما هو آت.
والإيمان بالجزء الخارج عن التجربة -وهو باقي المعادن- واطّراد الحوادث هو دوجما التجربة التي يقوم عليها العلم، فهو اعتقاد براجماتي لا دليل عليه، تماما كما يتهم الملحدُ أهلَ الإيمان بأن لا دليل علي وجود الله، وكانت صياغة "هيوم" لهذه المشكلة مرعبة لكافة التجريبين، مما جعل "راسل" يصف المشكلة بأنها من أكثر المشكلات الفلسفية صعوبة وإثارة للجدل.(1)
وكان تشكيك "هيوم" هو الهزة الأعنف في تاريخ الإلحاد علي الرغم من كونه تجريبيا متطرفا، وممن نصوا علي أنها عقيدة دوجماتية نفعية تسابيه Farhang Zabeeh وجعل تبرير الاستقراء كتبرير الاستنباط(2)، وأحيانا "ريشنباخ" حينما يشعر بأنّ العلم في ورطة يبرر الاستقراء بأنه عادة حسنة وكفى، وحينما يرجع للمنطق يفعل كما حاول الكثير بأن يسقط العلم التجريبي عن مرتبة اليقين إلي الظنية ومفاهيم الاحتمال!(3)
وهذا ليس حلا، بل عدم قدرة على الوعي، وستجد كلاما هنا وهناك، الكل يحاول أن يقول شيئا ما، ولكن دون جدوى. فالحل استعصى، مما جعل "وايتهلد" يقول: الموضة الآن إنكار عقلانية العلم، وسميت المشكلة هذه بأسماء عدة، قريبة من الأسماء التي يطلقها الملاحدة علي شبهاتهم كفضيحة الأديان ونحوه، ومن تلك الأسماء: فضيحة الفلسفة ، يأس الفلسفة(4)... وبكل وضوح يقول راسل: لقد أثبت هيوم أنّ التجريبية المحضة لا تشكل أساسا كافيا للعلم.
لكن إذا سلمنا بهذه القاعدة الوحيدة -الاستقراء– فأيُّ شيء بعد ذلك يتلاءم مع نظرتنا بأن كلَّ معرفتنا قائمة علي التجربة؟
ويجب التسليم بأن هذا افتراق خطير عن التجريبية المحضة، وقد يتساءل البعض: لماذا نسمح بالخروج عن نطاق التجربة في هذه النقطة بالذات ونمنع غيرها -كأي إيمان ميتافيزيقي مثلا-؟، لا أعتقد أن هذه الحجة يمكن معارضتها، وبغير هذه القاعدة يصبح العلم مستحيلا.(5)
فأين المفرُّ إذا؟
بالطبع لا يمكن للملحد أن ينتقل إلي المذهب العقلي في المعرفة(6)، فمن طبيعة الملحد الدنو التام من (الأرض، البيئة، التجربة) ويرفض أي تعالي قبلي أولي عن التجربة، لأن التساؤل سيلاحقه: هل تؤمن بأوليات عقلية متعالية عن التجربة؟ وما مصدرها؟
فالعقلانية مثلا تؤمن بأنَّ الحلَّ المنطقيَّ للاستقراء هو القانونُ العقليُّ الأوليُّ السابقُ لأيَّة تجربة وهو "السببية"؛ بمعني أن تؤمنَ بأنّ الكون منظمٌ قابلٌ للفهم، صممه الله هكذا، وليست هناك عشوائية، وليس هناك عبث، كلٌّ يسيرُ وِفْقَ نظامٍ محددٍ، وجُعِلَ كذا ليسببَ كذا وكذا، وبالتالي يسلم لك التعميم القانوني، أما خلاف ذلك فلن تجدَ سبيلا للخروج إلا "الاحتمالية"، ومن ثَمَّ التنازل عن العرش الموضوعي –المزعوم- للعلم التجريبي.
المراجع:
(1) Bertrand Russell, “The Problems of Philosophy”, Wilder Publications 2009, p.36.
(2) Farhang Zabeeh, “Hume's Problem of Induction: An Appraisal”, Livingston & King (ed.), p.81.
(3) د. يمني الخولي، "فلسفة العلم في القرن العشرين"، عالم المعرفة، ص75، وللمزيد عن فكرة الاحتمال: يراجع الأسس المنطقية للاستقراء لباقر الصدر.
(4) السابق، ص78.
(5) Bertrand Russell, “History of western philosophy”, George Allen & Unwin Ltd, London 1946, p.699.
(6) هناك مذهبان رئيسان في المعرفة البشرية:
- التجريبي: حيث المعرفة تكتسب بالتجربة وحدها باستخدام حواس الإنسان كالسمع والبصر وكل ما لا يستطيع الحس إدراكه، وأن العقل يولد كصفحة بيضاء ليس فيه أي أمور فطرية قبلية أولية.
- العقلاني: حيث العقل مصدر المعرفة يولد الإنسان بأوليات فطرية، بل العقل هو الوسيلة الكبرى للمعرفة، إذ من الممكن خداع الحواس.