يقول تشارلز ليون Charles A. Leone: "لا يمكن للعلم أن يبقى حرًا في نظام اجتماعي يسعى للتحكم بكل الحياة الفكرية والروحية لأمة من الأمم، ولا يمكن مطلقًا أن يتم الحكم على صحة نظرية علمية بناء على استعدادها لتقديم أجوبة توافق رغبة القيادة السياسية".
عاشت أوروبا توجهاً عاماً نحو جعل كل شيء ميكانيكياً وتجريبياً، وسعى المشتغلون بالدراسات الإنسانية -وبالأخص علم النفس- والمجتمع للوصول إلى علم يوازي الفيزياء، من حيث الخضوع للقياس والضبط، ومن ثم العمل على إعادة تشكيل البشر ومجتمعاتهم، وأول من بدأ تناول العلوم الاجتماعية بطريقة مادية صِرفة: "أوجست كونت"، لدراسة الإنسان كما ندرس النبات والحيوان، وأطلق عليها مصطلح (الفيزياء الاجتماعية)، فنظرَ إلى الظواهر الاجتماعية بطريقة العلوم الأخرى، وقسمها إلى ديناميكيا اجتماعية واستاتيكا اجتماعية، ولكنه اعترف لاحقاً بأن الظواهر الاجتماعية معقدة، فتخلى عن مسمى الفيزياء وأعاد تسميتها باسم علم الاجتماع Sociology، ثم جاء "كارل ماركس" وأسس على ما وضعه علماء الاجتماع قبله ووضع رؤاه الخاصة مؤسسا للفلسفة الماركسية، فحلل المجتمعات البشرية وطرح فكرته التي ترمي إلى تفكيكها وإعادة تشكيلها وفق إطار نظري حتمي استمد له مفهوم الحتمية الاجتماعية والتاريخية من الحتمية الفيزيائية الكلاسيكية، بحيث تصل المجتمعات بتطورها إلى ما اعتبره الوضع المثالي (الشيوعية)، وكان ماركس قد تأثر بأفكار نظرية داروين وقد اطلع صديقه "إنجلز" على (أصل الأنواع) 1859م، وأرسل إليه ثناء على كتاب داروين، ثم بعد عام رد ماركس الرسالة إلى إنجلز قائلاً:
"إن كتاب داروين يقدم لنا أساس التاريخ الطبيعي المبني على نظرة مادية للعالم"، وبعد عام كتب رسالة إلى صديق آخر مؤكداً أن كتاب داروين يقدم أساساً في العلم الطبيعي للصراع الطبقي".
"Darwin’s work is most important and suits my purpose in that it provides a basis in natural science for the historical class struggle."
وبعد إعادة قراءة أصل الأنواع لمرة ثانية كتب ماركس:
"لقد أذهلني داروين لأنه استطاع أن ينقل أفكار مالتوس إلى النباتات والحيوانات أيضاً".
وقد أرسل ماركس إلى داروين يستأذنه بكتابة إهداء له في بداية كتاب (رأس المال)، ولكن الأخير اعتذر منه لأنه رأى بوادر معركة ثقافية جديدة لا يريد خوض غمارها، وأرسل له نسخة من الطبعة الثانية:
"إلى السيد تشارلز داروين من معجبه المخلص كارل ماركس".
وقد اعتبرت الفلسفة الماركسية المجتمع البشري مادة مرنة قابلة للتعديل، ورسمت لها إطارًا متخيلًا لتطورها السابق وخارطة طريق للتطوير المطلوب أو التطور الحتمي، وقد لوث العلماء اليساريون معظم العلوم التاريخية بمصطلحاتهم المؤدلجة، كمصطلح الإنسان البدائي والمجتمعات البدائية، ومنهم على سبيل المثال جون ديزموند برنال John Desmond Bernal صاحب كتاب (العلم في التاريخ)، الذي دمج الفلسفة الماركسية مع العلم حتى حوت كتاباته العلمية مدحاً للاشتراكية وذماً للرأسمالية، وبخلاف التصور الماركسي لتطور المجتمعات البشرية القديمة أكد البحث أن المجتمعات توصف بالأمية وليس بالبدائية بمعنى أن ما ينقصها العلوم وليس العقل، فلا يوجد عقل إنساني بدائي غير قادر على المحاكمة الدقيقة، ومن ناحية أخرى اعتبر الفكر الماركسي عقل الإنسان ووعيه لوحًا فارغا إلا من الانعكاسات الحياتية الضرورية وبرر لهم ذلك مطامح تغيير الوعي وتشكيل العقل الإنساني وفق شروط تفرض عليه للوصول إلى الحالة المثالية بزعمهم، وكان من مشاريعهم في بداية الحقبة السوفيتية تفكيك الأسرة كوحدة اجتماعية -متخلفة- حتى تعمدوا توظيف الرجل وزوجته في مدينتين مختلفتين! ثم تراجعوا عن ذلك لما أدركوا حجم العقبات.
ومن ثمار التجربة الماركسية المحاولات الحثيثة لاستئصال الدين والمتدينين كنوع من التطوير للمجتمعات، وكذلك الأخذ بوجهات نظر علمية توافق الفلسفة الشيوعية المعتمدة رسميًا، وهو ما نتناوله باختصار في هذا المقال...
ففي المجال العلمي البيولوجي تم تبني الصيغة اللاماركية من نظرية داروين التي تقول بتوريث سهل للصفات المكتسبة وتم رفض علم الوراثة المندلية واضطهد كل من اعتقد أو عمل به عشرات السنين، وبالمقابل نجد أن العلماء في بقية العالم غير الماركسي امتلكوا الحرية لإعادة صياغة الداروينية القديمة ودمج المندلية ضمنها في محاولة للقفز فوق عقبات علم الوراثة.
تروفيم ليسينكو
أصبحت قصة تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko في الاتحاد السوفيتي نموذجًا مدرسيا لحالات التدخل السياسي العقائدي في مسار العلم، فعالم النبات ليسينكو الذي عينه جوزيف ستالين مديرًا للبيولوجي، وامتلك تفويضًا من ستالين بحيث بات كل رأي يقدمه يؤخذ كعقيدة رسمية للدولة والحزب، وقد رفض ليسينكو علم الوراثة الذي أسسه مندل ومورغان ووصفه بأنه علم غريب وغير عملي ومثالي ومنتج برجوزاي رأسمالي، واعتمد علم بديل يعتمد اللاماركية الجديدة كصيغة للتطور، ومحور اللاماركية أن الصفات المكتسبة في أجساد الأباء يرثها الأبناء تلقائيًا، وكانت في بدايتها فكرة مقبولة لأنها انتشرت قبل معرفة علم الوراثة والطفرات بشكل واضح، ولم تنتشر هذه الفكرة بالطبع باسم اللاماركية في الاتحاد السوفيتي لأن "لامارك" ينتمي لطبقة أرستقراطية لا يرغب الشيوعيون بنسبة أي فضل لها، وهكذا تم اعتماد نفس الفكرة اللاماركية مع نسبتها إلى عالم النبات والوراثة السوفيتي إيفان ميتشورين Ivan Mitchurin، الذي اشتهر بتحسين وتهجين أشجار الفاكهة وذلك بعد وفاته في 1935م، ثم وصفت الفكرة لاحقاً بمذهب الليسينكوية الذي تقبلته الحكومة الماركسية في الاتحاد السوفيتي بسرور وحماس لأنه وافق ما تهواه وتسعى إليه في فلسفتها الماركسية من هندسة وإعادة بناء طوبيا اجتماعية شيوعية هي الحالة المثالية الحتمية، وهذا التوجه السياسي العقائدي يرفض وجود الثبات في الوراثة Hard Herdity، وهو ما فرضته الفكرة المندلية وبالمقابل يتقبل الفكر الماركسي بشكل أفضل اللاماركية بصيغتها الليسينكوية التي تسمح بإحداث تغيرات سريعة ونقلها إلى الأجيال الجديدة، وهكذا بناء على أفكار الوراثة المرنة التي تسمح بنقل صفات مكتسبة سريعة ظن السوفيت أن بإمكانهم إجبار النباتات والحيوانات -بل والمجتمع السوفيتي والإنساني كذلك- على تقبل تطورات سريعة محدثة تخدم متطلبات عملية، ومن ثم يستمر وجود هذه التغيرات في الأجيال التالية، وهذه الفكرة التي انتقلت إلى الصين الشيوعية وغيرها، ونجد صداها في أكثر من بلد يساري كبولندا إذ كانت "الليسينكوية" ترى كجزء أصيل من "الواقعية الاشتراكية".
منشور رسمي يظهر تأثر العالم بعلم الوراثة السوفيتي الجديد |
أكبر مجاعة في التاريخ: ثمرة السياسة الماوية في الصين
قامت حكومة "ماو" الصينية بفرض سياسات غير واقعية في الزراعة لرفع الإنتاجية، كاعتماد الزراعة المتقاربة close planting، ففي بداية إنتاش الحبوب يعتمد النبات على ما تختزنه الحبة من المغذيات ولكنه في مرحلة لاحقة يعتمد على التربة حوله وبسبب وجود النباتات قريبة جداً من بعضها كانت النتيجة فشل الزراعة، وأثمرت هذه السياسات المفروضة من الحكومة الماركسية المركزية في الصين أكبر مجاعة عرفها التاريخ بين عامي 1958م و 1962م، وصورت الحكومة الشيوعية الفشل في البداية كإنجاز! وقد مات في هذه المجاعة أكثر من ثلاثين مليون صيني، ووثق المؤلف جاسبر بيكر Jasper Becker في كتابه الأشباح الجائعة Hungry Ghosts تفاصيل هذه الكارثة الإنسانية.
انتحار العالم الألماني كاميرر Paul Kammerer
أحد العلماء المتحمسين لفكرة إحداث تغييرات في الحيوانات أو توجيه التطور مباشرة وفق طريقة لاماكية، وقد قام بأبحاث عدة منها بحث على نوع من العلاجم midwife toad، وادعى أنه قد أحدث تغيرًا فيه يجعله يعكس بعض خصائص التكاثر عنده، مما يجعله أقرب لسلف له يتكاثر في الماء، ولكن بعد طلب أحد العلماء فحص الأدلة التي احتفظ بها كاميرر لسبع سنوات، اكتشف العالم الآخر في عام 1926م أن كاميرر قد عدل النتائج باستعمال الحبر الهندي، فأرسل كاميرر رسالة إلى أكاديمية موسكو للعلوم يلقي فيها باللوم –بتحسين- النتائج على أحد مساعديه ثم انتحر.
كيفية تصوير حادثة انتحار كاميرر في الدولة الشيوعية:
كعادة الماركسيين يجب أن يتم إلقاء اللوم على الشيطان الذي يعرفونه وهو "الرأسمالية"، فقام المسؤول عن الأفلام في الاتحاد السوفيتي بإعادة إنتاج قصة كاميرر، فلم يتحدث عن عالم شاب يعيش في مدينة أوربية مركزية ويخصص هذا العالم الشاب كل وقته الفائض لمساعدة عامة الناس، وقدم بحثه حول السلمندر دليلاً مباشرًا على وراثة الصفات المكتسبة، ولكن أسقف كاتدرائية المدينة يسمع ببحث العالم الذي يثبت وراثة الصفات المكتسبة، فيعرف أن هذا الدليل سيهدد سلطة الكنيسة، فيجتمع مع أمير البلدة الذي كان على صلة بهنري فورد! وهكذا اجتمعت الأرستقراطية والكنيسة والرأسمالية في مؤامرة على العالم الشاب الذي أثبت أن الصفات المكتسبة يتم توريثها، وتمت المؤامرة بتعيين الأمير كمساعد للعالم في مختبره، ثم يتسلل الأمير ليلاً إلى مختبر العالم ليحقن الحيوانات بالحبر الهندي، وهكذا عند عرض نتائج البحث للعموم يتسرب الحبر الهندي من العلاجم إلى الماء ويحرج العالم ويطرد من عمله، وينتهي به الأمر إلى التسول في الطرقات بصحبة قرد كان يستعمله في المختبر لإجراء التجارب، ثم ينتقل -الفيلم- إلى مرحلة جدية، حيث تصل مساعدة للعالم من الاتحاد السوفيتي، ولما رأته وهو على وشك الانتحار أخذته معها مباشرة بالقطار إلى موسكو، حيث طلبت مساعدة السلطات، وقدم مسؤول التعليم المساعدة اللازمة للعالم الشجاع، كما استقبله جمع من الفلاحين في أرض الحرية "الاتحاد السوفيتي"!
كانت رؤية علماء البيولوجي في الاتحاد السوفيتي لإمكانية توريث الصفات واثقة جدا، لدرجة أن بعضهم تبجح بمقدرتهم على زراعة أشجار الفاكهة باتجاه الشمال الأكثر برودة، حتى تحدوا أنهم سيزرعونها في القطب الشمالي، وقد تأثر بعض من درس في الاتحاد السوفيتي بهذه البروبغاندا والعنجهية الإلحادية، من الحديث عن التحكم التام بالطبيعية، وادعى ليسينكو -وكان قبل رئاسته لأكاديمية لينين للعلوم مختصًا بالنباتات- أنه أستطاع تغيير نوع من القمح الربيعي إلى قمح شتوي خلال بضع سنوات، وبالطبع فهذا الأمر غير صحيح لأن القمح الربيعي له زوجين من الصبغيات في حين أن القمح الشتوي له ثلاث أزواج من الصبغيات، وربما حدث خطأ في تجربته، ولكن ليسينكو كان يملك نفوذًا مستمدًا من مكانته في الحزب الشيوعي وأكاديمية لينين، بحيث لا يمكن لأحد الرد عليه، وفي عام 1948م سيطر ليسينكو على علم البيولوجي بصورة مطلقة، عندما أعلن في خطاب ساعده ستالين –شخصيًا- في صياغته أنه يرفض أبحاث مندل في الوراثة، وأن من يؤيد أبحاث مندل هم أعداء الشعب السوفيتي، ثم طُرِدَ العلماء الذين خالفوا رأي ليسينكو واضطهدوا واختفى بعضهم من الوجود، وبعد ذلك اكتشفت النتيجة الطبيعية للبيولوجيا السوفيتية، حيث تعطلت الزراعة وظهرت سلسلة من الإخفاقات في المحاصيل الزراعية، ثم حصل نقص في الأغذية مما دفع الاتحاد السوفيتي إلى طرد ليسينكو في عام 1965م وكان قد فقد جزءاً من سلطته بموت ستالين 1953م.
في مقابل التخريب العلمي الذي تم في الاتحاد السوفيتي تقدم العلم في بقية العالم، حيث لا توجد قيود سياسية وأيديولوجية على عمل العلماء كما حدث في الدولة الماركسية اليسارية، وختامًا تجدر الإشارة إلى أن البيولوجيين السوفيت كانوا قد نجحوا في تعديل تجريبي لبعض النباتات، ولكنهم وقعوا في المبالغة واتباع الهوى والإصرار بتكبر على الخطأ، واليوم تعود اللاماركية من جديد باعتدال في أبحاث "فوق المورثات" epigenetics بصيغة علمية معتدلة تجعل المورثات والبيئة عاملين فاعلين في صفات الكائن، ولكنهما متكاملين وغير حتميين!
كتاب "علم الوراثة السوفيتي والعلم في العالم، ليسينكو ومعنى الوراثة"، تأليف جوليان هكسلي، الصورة يظهر فيها ليسينكو ووراءه عالم سوفيتي آخر. |
المراجع:
1- Charles A. Leone, "Lysenko versus Mendel," Transactions of the Kansas Academy of Science, 1952.
2- Willy Ley, Salamanders and Other Wonders: Still More Adventures of a Romantic Naturalist, The Viking Press, New York, 1955. https://www.sjsu.edu/faculty/watkins/lysenkoism.htm
3- "The International Workshop on Lysenkoism", Harriman Institute, Columbia University, December 5, 2009. http://harriman.columbia.edu/event/international-workshop-lysenkoism-0
4- Jasper Becker, Hungry Ghosts: Mao's Secret Famine, Free Press; 1st Printing edition (February 3, 1997).
5- Richard Weikart (1999), "Socialist Darwinism: Evolution in German socialist thought from Marx to Bernstein", International Scholars Publications.
منشور رسمي يظهر تأثر العالم بعلم الوراثة السوفيتي الجديدImperial bureau of plant breeding and genetics