ملحوظة: هذا المقال من كتاب (الإسلام والعلم) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
سامح طفل في التاسعة من عمره، تشكو منه والدته كثيرًا لأنه كسول جدًا ولا يستيقظ مبكرًا للذهاب إلى مدرسته. عندما فشلت والدة سامح في أن تدفعه للاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى مدرسته بدون تأخير، توجهت إلى مدرسة الفصل كي تساعدها في ذلك. المدرسة المخضرمة بخبرتها التربوية الطويلة جمعت جميع تلاميذ الفصل وقالت لهم:
سأحكي لكم حكاية عصفور صغير، هذا العصفور كان نائمًا في عشه الصغير؛ العصفور اللطيف قام مبكرًا من نومه وانطلق طائرًا بجناحيه الصغيرين، وبينما هو كذلك لمح دودة صغيرة على الشجرة فنزل إليها وأكلها، وكان سعيدًا جدًا لأنه قام من النوم مبكرًا وطار في السماء مبكرًا وتناول إفطاره مبكرًا، وعاد في نهاية النهار إلى عشه الصغير وكله سعادة وبهجة.
وبعد أن انتهت المدرسة الخبيرة من قصتها توجهت إلى سامح وسألته: أخبرني يا سامح، ما هو الدرس الذي تعلمته من هذه القصة؟
فأجابها سامح بكل برود وسماجة: تعلمت أن الدودة عندما استيقظت مبكرًا أكلتها العصفورة!
...
لا ريب أنك عزيزي القارئ عندما قرأت هذه القصة تعلمت شيئًا مختلفًا بالكلية عن الدرس الذي تعلمه سامح من نفس القصة؛ المفترض في هذه القصة أنها تنمي معنى القيام مبكرًا من النوم والذهاب إلى العمل أو المدرسة، وهو المعنى الذي يؤكده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بُكورها).[1] لكن سامح استنبط من القصة المعنى العكسي تمامًا، سامح كان لديه وجهة نظر أخرى، رغم أنه سمع نفس القصة بنفس التفاصيل، لكن منظوره إليها كان مختلفًا غاية في الاختلاف، بل هو العكس تمامًا.
هذا هو الفرق بيننا وبينهم؛ المنظور أو وجهة النظر. نحن عادةً نتلقى نفس المعطيات، لكن منظورنا يختلف، والكثير من سوء الفهم ينشأ بسبب هذا الأمر، اختلاف وجهة النظر بيننا وبينهم، هم يقولون: لا خالق ولا إله ولا غيبيات، بينما نحن نؤمن بالله الخالق العليم الحكيم الخبير. هذا الفرق الجوهري هو أساس النزاع بيننا وبين هؤلاء. فعلى سبيل المثال نجد أنه فيما يتعلق بالتاريخ الطبيعي ونشأة الكائنات الحية تقف المؤسسات العلمية والأكاديمية في صف نظرية التطور الداروينية بمنتهى القوة بينما يقف قلة من العلماء ضد التطور الدارويني، كيف ذلك؟ إذا كانت المعطيات العلمية المحضة عند الطرفين ليس فيها أي اختلاف، فكيف يختلفون في تفسيرها إلى هذه الدرجة؟
قبل أن نتصدى لإجابة هذا السؤال من الضروري أن نتعرف على مصطلح خطير جدًا، هو الفلسفة المادية. الفلسفة المادية تعني باختصار أنه لا ثمّ إلا المادة، وأنه لا يوجد إله ولا خالق ولا غيبيات، وأن هذا العالم المنظور، عالم الشهادة، عبارة عن نظام مغلق لا يوجد أي شيء وراءه أو خارجه، ولا توجد غيبيات. في الفلسفة المادية لا يوجد مكان لله وخالقيته وأفعاله، باختصار هي الإلحاد في أبلغ صورة. البعض يحلو له أن يستعمل مصطلح الطبيعة أو أمنا الطبيعة كبديل عن الله، لكن الحقيقة أن هذا التعبير لا يعني أن الطبيعة فاعل حقيقي، بل هو مجرد مجاز حقيقته هي الصدفة والعشوائية المحضة، وأنه لا فاعل ولا خالق ولا مدبر!
وبالتالي إذا كان العلم مخلصًا للفلسفة المادية، فمن المنطقي أن تأتي مخرجاته كلها في صالح إنكار الخالق وتأييد الصدفة والعشوائية، وسوف تكون التفسيرات "العلمية" حينئذ وفية ومخلصة للآليات أو الميكانزمات المادية العشوائية، وأفضل تفسير "علمي" هو أفضل تفسير يوظف الآليات المادية العشوائية. العلم المادي (واسمحوا لي باستعمال هذا المصطلح) في حالتنا هذه يفترض مسبقًا أنه لا إله ولا خالق ولا مدبر، فمن المنطقي جدًا أن تكون كل نتائجه موافقة للإلحاد وإنكار وجود الخالق، وبالتالي فهو من السبل الفعالة لترويج الإلحاد وإنكار الخالق، وهذا يتم طبعًا باسم العلم، والعلم منه براء!
دعونا نتأمل قليلاً هذا الوضع!
العلم المادي (واسمحوا لي ثانية باستعمال هذا المصطلح) ومؤسساته يسيرون على خطى الفلسفة المادية، بمعنى أن نقطة البداية عندهم ليست هي السؤال أو الحياد، بل هي الإجابة، فلديهم إجابة مسبقة على سؤال وجود الخالق، في الحقيقة هي ليست مجرد إجابة مسبقة بل اعتقاد راسخ. هذا الموقف المبدئي يجعل الأمر في حقيقته ليس بحثًا عن الحقيقة، بل سعيًا لتبرير الإلحاد وتسويغه، العلم في هذه الحالة يدور حول أفضل تفسير "مادي" وأحسن آلية "عشوائية"، والهدف هو إيجاد الدليل الصالح للتفسير المادي.
هنا يقفز إلى الذهن مصطلح "التبرير"؛ التبرير هو البحث عن دليل، ليس البحث المتجرد عن الهوى ولا السعي المخلص لأجل الحقيقة، بل هو أن تبدأ بالإجابة الجاهزة لتصل إليها نفسها في النهاية. هو باختصار عدم البحث عن الحقيقة، بل البحث عما يؤيد قناعاتك المسبقة. الدليل في حالة التبرير ليس شيئًا حياديًا موضوعيًا، بل هو دليل منتقى بعناية وحرص شديدين ليقود الناس إلى الفكرة الجاهزة المسبقة.
طبعًا أنت إذا بدأت بالإجابة الجاهزة كأحد مدخلات العملية العلمية، فسوف تكون عملية معالجة هذه المدخلات عبارة عن تصنيع للدليل أو التبرير الصالح لإقناع الناس بهذه الإجابة الجاهزة التي سوف يجدونها في مخرجات العملية العلمية. وعلى هذا المنوال فإن العلم المادي (واسمحوا لي باستعمال هذا المصطلح للمرة الثالثة) الذي يضع من ضمن مدخلاته الإلحاد وإنكار وجود الخالق، سوف تكون كل مخرجاته ونتائجه في صالح الإلحاد وإنكار وجود الخالق.
لهذا يجيد الملاحدة استغلال العلم المادي (واسمحوا لي للمرة الأخيرة باستعمال هذا المصطلح) للدعوة إلى الإلحاد ونشره وترويجه، فينصبون أنفسهم كهنة للعلم يتكلمون باسم العلم وبلسان العلم، والحقيقة أن العلم بريء منهم ومن سبلهم المعوجة، فالعلم الذي يرفعون رايته هو ذلك الذي لوثته الفلسفة المادية ولطخته بأفكارها وأطروحاتها، أما العلم الذي يتعامل مع الحقائق بموضوعية ودون تحيز فليس له مكان بينهم.
دعونا نفكر قليلاً في هذه السؤال: كيف يمكن للملحدين أن يقنعوا الناس بالإلحاد وعدم وجود خالق بينما كل ما في الكون ونظامه ودقته والأرض والبر والبحر والإنسان والحيوان والنبات وحتى الجراثيم والحشرات يدل على وجود خالق عليم قدير حكيم خبير؟ الجواب هو التلاعب بالعلم ثم المتاجرة باسمه.
قيل لي ذات يوم إنه لا يوجد أي دليل في هذا العالم قادر على إقناع الملحد بوجود الله، والواقع أن هذا صحيح إلى حد كبير؛ لأن المشكلة ليست في الدليل، بل في الذهنية الإلحادية، في المنظومة العقلية التي تضع كمبدأ أنه لا إله ولا خالق ولا غيبيات! في هذه الحالة الدليل خارج نطاق المناظرة أصلاً، ومدار الحوار كله حول الفلسفة التي اختزلت كل شيء في المادة، التي استبعدت من البداية أي شيء ما خلا المادة ليس لسبب منطقي أو إتباعًا لبرهان عقلي بل على سبيل التحكم فقط لا أكثر. إذا أردنا أن نلخص الفقرات السابقة في كلمات يسيرة سوف تكون هذه الكلمات: الملحد يؤمن بالفلسفة المادية ثم يسعى ليجد لها تبريرًا في العلم ثم يزعم أمام الناس أن إلحاده مبني على العلم.
لهذا يتساءل كثيرٌ من الناس، وربما تكون أنت واحدًا منهم عزيزي قارئ هذه السطور: كيف يختلف العلماء اختلافًا صارخًا بينما المعطيات العلمية لديهم جميعًا واحدة لا اختلاف فيها؟! والإجابة الصادقة الأمينة لتفسير هذه الفجوة بين العلماء المؤمنين والملحدين هي: القناعات المسبقة. الملحد أو العالم الذي يسعى لترويج الإلحاد يبدأ تحليله للمعطيات العلمية بفرضية مسبقة أو قناعة مسبقة أنه لا يوجد إله، وبالتالي فالمخرج العلمي الذي يعطيه أو النتيجة العلمية التي يقدمها لابد أن تتفق وهذه القناعة المسبقة. وعلى الجانب الآخر العالم الذي يؤمن بالله، أو على الأقل لا يؤمن بأنه لا يوجد شيء وراء هذا العالم، سيكون استنتاجه العلمي مختلفًا بالكلية. هذه الفجوة الواسعة سببها الفعلي ليس المعطيات العلمية المحضة، بل المعطيات الفكرية أو الفلسفية أو العقلية!
الفلسفة المادية في حقيقتها وجوهرها ليست إلا تحكمًا محضًا، يفتقر إلى الدليل والبرهان. هل نحن أحطنا بكل شيء علمًا في هذا العالم واكتملت علومنا في كل المجالات؟ أم ما زال القسم الأعظم من العلوم والمعارف محجوبًا عنا وما زلنا نكتشف كل يوم الجديد في كل فروع العلم بلا استثناء؟
إن كان الأمر كذلك فما الذي يضمن ألا توجد هناك حقائق وراء هذا العالم المادي لا نعلمها ولا ندري عنها شيئًا؟ إن كانت علومنا في هذا العالم المادي قاصرة على أشد ما يكون القصور، فكيف يمكننا أن نجزم بعدم وجود ما يتجاوز هذا العالم المادي نفسه ويتعداه؟
أضف إلى هذا أنه لا يشترط لوجود الشيء أن ندركه بالحواس، فهناك العديد من الأشياء في هذا العالم المادي لا ندركها إلا عن طريق الآلات المساعدة مثل التليسكوبات والميكروسكوبات، وأشياء أخرى عديدة نعرفها من آثارها كالكهرباء والمغناطيسية والجاذبية. فإن كان الأمر كذلك من وجود أشياء لا ندركها إلا بالواسطة، فما المانع عقلاً من وجود أشياء لا ندركها حتى بدون واسطة ونحتاج فيها إلى حاسة أخرى غير موجودة فينا؟ وإذا كانت حواسنا بهذا العجز والقصور في عالمنا المادي المشاهد، فكيف يستبعد عجزها عن إدراك أشياء فيما وراء هذا العالم المشاهد؟
فالإنصاف يقتضي منا أن نعترف بقصورنا في سبل المعرفة وبوجود حقائق كثيرة لا نعرفها لأجل هذا القصور ووسيلتنا إلى معرفتها ما زالت مفقودة، فإن كان هذا فلندرك أن رفضنا لوجود ما وراء هذا العالم المادي المشاهد هو ضرب من التحكم والتعسف بغير دليل. فإن غاية ما بلغه العلم الطبيعي أنه لم يقم لدينا دليلٌ على وجود ما وراء هذا العالم ولم يقم لدينا دليلٌ على عدم وجوده، ومعلومٌ أن عدم الدليل لا يعني عدم المدلول، وأن عدم وجود الدليل على الشيء لا يعني عدم وجود هذا الشيء في ذاته، بل قد يكون موجودًا لكننا نقصر عن إدراكه والعلم به.
ما الدليل على أنه لا يوجد إلا المادة سوى أنها فرضية افترضناها؟ لكن هل يوجد دليل علمي أو عقلي على صحة هذه الفرضية؟ للأسف لا يوجد!
يقول ابن تيمية رحمه الله: «ومعلوم أن عدم شهادة الحس لا تنفي ثبوت ما لم يشهده. ولو كان ما لم يشهده الإنسان بحسه ينفيه؛ لبطلت المعقولات والمسموعات، وقد قال سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؛ فإذا كان المكذب بما لم يعلمه بوجه من الوجوه مذمومًا في الشرع، كما هو مخالف للعقل؛ فكيف بالمكذب بما لم يعلمه بحسه فقط؟! وإذا كان عدم العلم ليس علمًا بالعدم؛ فكيف يكون عدم الإحساس علمًا بالعدم؟!».[2]
هذا هو الفرق بيننا وبينهم؛ ليس حول العلم كمعطيات ومشاهدات وتجارب، لكنه حول نقطة البداية نفسها؛ الذهنية المادية التي تقوم بتفسير هذه المشاهدات والتجارب. نحن كمسلمين نؤمن بالله وصفاته وأفعاله لا ننظر للعلم ومعطياته نفس النظرة التي ينظرها الماديون، لذلك لابد أن نعي جيدًا الفرق بيننا وبينهم، ونعي أنه ليس قضية هامشية، بل هو في صميم العلم والانتفاع به، خصوصًا إن كانت نتائج العلم يتم الترويج لها بين المسلمين على أنها تؤيد الإلحاد وتدعو إليه، وصار العلم مطية للانتهازيين من الملاحدة الذين يريدون أن يروجوا بضاعتهم الكاسدة على ضعاف العقول وقصيري النظر، فيقال لهم بمنتهى السماجة إن العلم ينفي وجود الله ويثبت بطلان الأديان ويرسخ الفوضى والعشوائية ويدعم نظرية التطور، فيقع الأغرار في الفخ وهم مساكين خدعتهم زخارف الباطل وزينته! ولله الأمر من قبل ومن بعد!
[1] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن. (الترغيب والترهيب، للمنذري، تحقيق مصطفى محمد عمارة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1388هـ، 1968م، ج2، ص529).
[2] ابن تيمية، مسألة حدوث العالم، تحقيق يوسف بن محمد مروان الأوزبكي المقدسي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص65.