* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
ضرب عضو الكونغرس الشاب من ولاية تينيسي بمطرقته لإسكات الجمهور الحاضر بغرفة الاستماع الفخمة قائلا: "لا يسعني تفادي الاستنتاج بأنّ أحد الأسباب لاستمرار مشكلة من هذا النوع هو تردّد الأشخاص النافذين في ميدان العلم في أخذ الأمور على محمل الجد".
لقد كان الاحتيال في مجال البحث العلمي مشكلة تهمّ عضو الكونغرس ألبرت جور الابن Albert Gore, Jr.. فباعتباره عضوا في لجنة مجلس النواب للعلوم والتكنولوجيا، شعر جور بالانزعاج بسبب تسارع سلسلة من الحوادث التي برزت إلى النور مؤخرا. لقد كان مصمما، بكونه رئيس اللجنة الفرعية للتحقيقات، على فعل شيء ما حيال هذه المشكلة. تعتبر جلسات الاستماع التي عقدها أيام 31 مارس – 1 أبريل 1981 المرة الأولى التي استفسر فيها الكونغرس حول القضية. لقد انتقل جور وزملاؤه أعضاء الكونغرس إلى الدهشة الظاهرة ثم إلى الغضب بسبب مواقف العلماء الكبار الذين تمت دعوتهم باعتبارهم شهودا.
كان أولهم فيليب هاندلر Philip Handler، رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم NAS آنذاك، والمتحدث البارز باسم المجتمع العلمي. فبدل أن يستفتح بالعرف المهني بإظهار امتنانه على أن طُلب منه الحضور أمام اللجنة، أعلن هاندلر مباشرة أنه يشعر "بقليل من السرور والرضا للإدلاء بشهادة في موضوع الغش العلمي". وأضاف بأنّ الصحافة قد تناولت المشكلة "بمبالغة ضخمة"؛ وما أيسرها من طريقة لإخبار اللجنة أنها تضيع وقتها. إنَّ الغش العلمي نادرا ما يقع، وعندما يقع، كما يقرر هاندلر: "فإنَّه يقع داخل نظام يشتغل بأسلوب يتميز بالفاعلية والديمقراطية والتصحيح الذاتي" مما يجعل الكشف عنه أمرا حتميا. لقد جاءت رسالته الكامنة صاخبة وواضحة؛ الاحتيال ليس مشكلا، فإنّ الآليات القائمة للعلم تتعامل معه بشكل مناسب وعلى نحو تام، وعلى الكونغرس الاهتمام بشؤونه الخاصة.
ربما كان يمكن لهجوم هاندلر العدواني أن ينجح في أوقات أخرى، إلا أنه قد أخطأ في الحكم على المناسبة. إذ إنّ حالتان من بين حالات الاحتيال الأخيرة الأكثر إثارة حدثت في مؤسسات نخبوية، هارفارد ويال، ولا يمكن التلويح بها بعيدا باعتبارها مبالغة من قبل الصحافة. وعلى مستوى أكثر شخصية، فإنّ أعضاء الكونغرس أنفسهم قد اضطروا إلى أشغال الرقابة الذاتية بسبب قضية أبسكام الأخيرة للرشوة، حيث وُجد أنّ ستة أعضاء من الكونغرس كانوا راغبين في مقايضة خدمات سياسية بالنقود. إنّ نفور العلماء من تحمّل الوضع، حتى وإن كان لفائدة مصلحة مهنتهم، لم يَرُق لأعضاء اللجنة الفرعية للتحريات والمراقبة التابعة لمجلس النواب.(1)
كما أدرك أعضاء الكونغرس أيضا حقيقة أخرى حول الاحتيال العلمي، يبدو أنّ العلماء لم يتمكنوا من فهمها: فمهما تكن نسبة العلماء الذين ربما قاموا بتزييف البيانات صغيرة، فإنّ الأمر يتطلب فقط بروز حالة واحدة إلى السطح كل بضعة أشهر أو نحوه حتى يقع الضرر الشديد بالمصداقية الشعبية للعلم. ومع تتابع الشهود الواحد تلو الآخر على كلام هاندلر بأنّ الآليات العلمية القائمة كانت تتأقلم مع المشكلة، شعر أعضاء الكونغرس باستياء متزايد. فقد أقرّ بوب شامنسكي Bob Shamansky بلهجة جافة قائلا: "لقد فجئتُ إلى حد ما باستهزاء اللجنة [بالشهود] وذلك بمجرد أنها تجرّأت على عقد جلسة الاستماع أصلا". ثم التقط روبرت ولكر Robert Walker من بنسلفينيا طرف الحديث بقوله: "ما يزعجني في كل هذا" أنّه "يبدو أنّ هناك في كثير من الشهادات التي سمعناها هذا اليوم قدرا معينا من الغطرسة داخل المجتمع العلمي حول هذا الأمر، أنّنا نحن الأعلم، ولذلك فقد طرحنا الأسئلة، وإن لم نطرح نحن الأسئلة، فلن يقوم أحد آخر بذلك".
غير أنّ أعضاء الكونغرس واصلوا طرح الأسئلة على كل حال، إلّا أنّ العلماء وضعوا لهم العراقيل عند كل منعطف. من الواضح أنّه كان هناك انفصالا أساسيا في الرؤية في نهاية الطريق المسدود: كلا الجانبان نظرا إلى الوضع نفسه بطرق مختلفة تماما. لقد رأى أعضاء الكونغرس مجموعة من الزملاء المهنيين الذين فضلوا – على ما يبدو – نفي مشكلة موجودة بدلا من مواجهتها. بينما لم يستطع العلماء، لثقتهم في آليات التصحيح الذاتي القائمة التي جعلت الاحتيال مجازفة لا طائل من ورائها، الاعتراف بأنها مشكلة قد تتجاوز الخلل العقلي عند عدد قليل من الأفراد.
لقد اقتضى موقف العلماء أنّ كلّ من حاول تزييف البيانات العلمية لا بد أن يكون مجنونا. غير أنّ الشهادة العقلانية للباحث الطبي في جامعة هارفارد جون لونج John Long الذي اعترف بتلفيق تجربة قد قوّضت موقفهم يومئذ.(2) كان لونج نادما، ولكنّه كان أيضا لَسِنًا، ومؤدبًا، ومسيطرًا على نفسه بشكل بيّن. كما بدا واضحا أنّه كان بكامل مداركه العقلية. فعندما أخبر رئيس لونج السابق ومدير الأبحاث في مستشفى ماساتشوستس العام اللجنة في وقت لاحق أنّ لونج قد قام بتلفيق أكثر من التجربة الوحيدة التي اعترف بتزويرها، بدا أنّ أعضاء الكونغرس قد شعروا بالحنق بسبب فشل العلماء في إيجاد حلّ للوضع أكثر من حنقهم على لونج نفسه. فقد لاحظ الرئيس ألبرت جور أنّه "في ساعة واحدة قصيرة، انتقلت اللجنة الفرعية من المرتفعات الأولمبية لعدم وجود مشكلة إلى أعماق شهادة زور محتملة". وأضاف أنّ "هذا النوع من التجارب يمكن أن ينتج سكيزوفرينيا علمية". يبدو أنّ ما قصده جور أنّه إذا كان للخلل العقلي علاقة بالأمر، فإنّها تكمن فيما سماه بـــ"الموقف المزدوج" للمجتمع العلمي حيال الاحتيال.
بالكاد مرّت بضعة أسابيع على جلسات الاستماع التي عقدها عضو الكونغرس جور حتى بدأت خيوط حالة احتيال علمي أخرى كبيرة في الانحلال، هذه المرة في قلب المؤسسة الأمريكة للطب البيولوجي، كلية الطب بهارفارد.(3) يبدو أنّ الحالة الأحدث كانت مصمّمة لتجسّد السيكيزوفرينيا التي لاحظها عضو الكونغرس جور. إذ لم تتمكن سلطات هارفارد بسبب وثوقها في آليات الرقابة الذاتية للعلم من رؤية أبعاد المشكلة التي كانت تتكشف أمام أعينها.
إنّ أساس قضية هارفارد هو أنّ يوجين براونفالد Eugene Braunwald، أحد أطباء القلب الرائدين في البلاد والطبيب الرئيسي في اثنين من مستشفيات هارفارد المرموقة، لم يكن يُكِنُّ إلّا أعلى الآمال لتلميذه الشاب اللامع جون دونالد دارسي John Roland Darsee. لقد عمل دارسي، الطويل القامة والاجتماعي، بلا هوادة في طليعة البحث في مجال الأوعية الدموية. ففي غضون عامين في جامعة هارفارد، نشر الطبيب الشاب ما يقارب عن مائة ورقة بحثية وملخص، عدد هائل بكل المقاييس، وكثير منها كتبت بالاشتراك مع معلمه براونفالد. كان براونفالد، الذي أشرف على مخبرين بحثيين منفصلين وأكثر من 3 ملايين دولار كتمويل من قبل المعاهد الوطنية للصحة NIH، يفكر في إنشاء مخبر مستقل لدارسي في مستشفى باث إسرائيل Beth Israel Hospital بهارفارد. إنّ ترقية من هذا النوع في عالم بوسطن التنافسي للبحوث في مجال الطب الحيوي في سنّ دارسي المبكرة من شأنها أن تضمن حياة مهنية مبهرة.
لم يكن لدارسي قدر كبير عند الباحثين الشبان الآخرين في مختبر براونفالد. فرغم أنّ دارسي قد عمل بجدّ، إلّا أنّهم لم يتمكنوا من فهم كيف أنجز كل تلك البحوث التي كانت الأساس الذي قام عليه العدد المذهل لمقالاته الطبية. فخلال مراقبته بشكل سرّي في أحد ليالي مايو 1981، أبصروه يصوغ بشكل صارخ المعطيات الأولية لتجربة كانت سوف تنشر قريبا. لقد اعترف دارسي عند مواجهته، لكنه أصرّ على أنّ تلك كانت المعطيات الوحيدة التي قام بتزويرها. غير أنّ زملاؤه كانوا أقلّ ميلا إلى الموافقة. فمن خلال مقارنة تجاربه الفعلية مع ما كتبه لاحقا للنشر، قرروا أنّ كثيرا من العمل تم إنشاؤه من نسج الخيال. فقد لاحظ أحد زملاء دارسي لاحقا أن "هذا الشيء لم يأت في ليلة وضحاها، فإنّك تشك فيه لأشهر". وقد أخبروا براونفالد باعتقادهم أنّ دارسي يقوم بتزوير عمله بشكل منهجي.
بيد أنّ براونفالد لم يستطع أن يصدّق أنّ الحدث المقلق كان أيّ شيء أكثر من حادثة معزولة. فقد لاحظ في وقت لاحق: "في تلك اللحظة كان لدينا شخص ذكي. من الواضح أنّه كان أحد الأشخاص الأكثر تميّزا، أو الشخص الأكثر تميّزا، من بين المائة والثلاثين من الزملاء الباحثين الذين تشرفت بالعمل معهم. إنّ الكشف العلني كان من الممكن أن يدمره تماما". وبالتالي فقد تم تجريد دارسي من تعيينه بجامعة هارفارد إلّا أنه قد سُمح له بالعمل في المخبر. كما لم يتم إخبار باحثين آخرين بالتجربة المزورة، ولم تُتّخذ أي خطوات لإعلام العلماء الذين قد يعتمدوا على نتائج دارسي العديدة المنشورة بأنّ هناك علامة استفهام تحوم حول البناء بأكمله.
تبدو تصرفات المسؤولين في جامعة هارفارد خلال الأشهر الخمس الأولى من القضية مستندة إلى الحجة التي أدلى بها هاندلر في جلسة الاستماع بالكونغرس. إنّ الاحتيال العلمي نادرا ما يقع، وعندما يقع، "فإنَّه يقع داخل نظام يشتغل بأسلوب يتميز بالفاعلية والديمقراطية والتصحيح الذاتي" مما يجعل اكتشافه أمرا محتوما؛ فما من أحد يحاول تزييف المعطيات العلمية، حسب هذه الحجة، إلّا ويكون مجنونا. وبما أنّه من الواضح أنّ دارسي كان شخصا عقلانيا ذا مستقبل مشرق، لم يستطع المسئولون في هارفارد أن يروا هذا التلفيق المعترف به إلّا باعتباره انحرافا معزولا، وليس كجزء من النمط العام. وقال براونفالد لاحقا أنّ: "فرصة قيام دارسي بالاحتيال بعد أن تم القبض عليه كانت منخفضة بشكل يقرب من العدم".
بقي دارسي في المختبر يقوم بالأبحاث وينشر الأوراق البحثية كما لو كان كل شيء على ما يرام. من بين التجارب التي كان يعمل عليها مشروع بقيمة 724،154$ بتمويل من المعاهد الوطنية للصحة. استمرت الأمور كما كانت من قبل لمدة خمسة أشهر. ولكن في شهر أكتوبر 1981، أُخبرت السلطات في هارفارد من قبل مسئول في المعاهد الوطنية للصحة أنّ هناك مشاكل في البيانات التي قدمها دارسي. حينها فقط بدأوا يدركون أنّ الباحث الذي قد زوّر تجربة واحدة من الممكن أن يُغرى ليلفّق تجارب أخرى.
أكدت لجنة رفيعة المستوى معينة من قبل عميد كلية الطب بجامعة هارفارد بعد ثلاثة أشهر أنّ الدراسة التي أجريت لفائدة المعهد الوطني للصحة NIH تحتوي على "نتائج غير عادية ومثيرة للشك بشكل كبير". علاوة على ذلك، فإنّ دراسة أجراها دارسي مع باحث آخر يبدو "أنّه قد تم التلاعب بها". إلّا أنّ دارسي نفى أيّ مخالفات باستثناء التزييف الأصلي في شهر مايو. لم تر اللجنة رفيعة المستوى، المتكونة من مسئولين طبيين كبار، خللا كبيرا في طريقة تعامل زملائهم في جامعة هارفارد مع القضية، رغم انتقاد مسئول كبير بالمعهد الوطني للصحة جامعة هارفارد على شاشة التلفزيون الوطني بسبب التأخير في الإبلاغ عن واقعة التزوير.(4) وكما يستمر هذا الكتاب في التأكيد، فبعد مُضيّ سنة واحدة على القبض على دارسي متلبّسا بتهمة افتعال معطيات، فإنّه لم يتمّ تقييم مدى الاحتيال في أعماله المنشورة ولا الإعلان عنها من قبل السلطات بكلية الطب بجامعة هارفارد. ما مفهوم العلم الذي يضع فيه العلماء –مثل أولئك الذي قدموا شهاداتهم أمام لجنة جور– ثقة كبيرة، حتى أنهم في بعض الأحيان يختارون الوثوق فيه حتى ولو كان الدليل على خلافه بشكل صارخ؟ يمارس المفهوم الشائع للعلم إغراءًا قويا لأنه يقوم على مجموعة من المثل ذات جاذبية كبيرة حول كيف ينبغي للعلم أن يشتغل. يمكن وصفها بدقة بأنّها أيديولوجيا، ولن ينضوي تحتها العلماء من كل أنحاء العالم بشكل كبير لعدم احتوائها، في حقيقة الأمر، على الكثير مما هو صحيح عن العلم.
1. Fraud in Biomedical Research. Hearings before the Subcommittee on Investigations and Oversight of the Committee on Science and Technology, U.S. House of Representatives, Ninety-Seventh Congress, March 31—April 1, 1981 (U.S. Government Printing Office, No. 77-661, Washington, 1981), pp. 1-380.
2. Nicholas Wade, "A Diversion of the Quest for Truth," Science, 211, 1022-1025, 1981.
3. William J. Broad, "Harvard Delays in Reporting Fraud," Science, 215, 478-482, 1982.
4. William J. Broad, "Report Absolves Harvard in Case of Fakery," Science, 215, 874-876, 1982. Also see "A Case of Fraud at Harvard," Newsweek, February 8, 1982, p. 89.