قبل أيام نشرنا أحد القصص التي عرضها برود ونيكولاس واد في كتاب (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم). وكانت عن حادثة وقعت بين 1979 و1981 في كلية الطب بجامعة ييل، بدأت بالتحقيق في انتحال أحد الباحثين عمل غيره ونسبته لنفسه، وانتهت بسحب 12 ورقة بسبب وجود بيانات مفبركة ومزورة.
في نفس الوقت انتشرت في الصحف أخبار عن سحب 31 ورقة لباحث مرموق في طب القلب، لكن هذه المرة من طب هارفارد.
في تغطية النيويورك تايمز للخبر:
"باحث مرموق في طب القلب في مدرسة طب هارفارد وفي مؤسسة بريجام ومستشفى النساء في بوسطن فبرك أو زور البيانات في 31 دراسة منشورة، وانتهى المسؤولون إلى أنه يجب أن يتم سحبها.
أنتج الدكتور (بيرو أنفيرسا Piero Anversa) أبحاثا تقترح أن عضلات القلب التالفة يمكن أن يتم تجديدها بالخلايا الجزعية، وهي نوع من الخلايا يمكنها أن تحول نفسها إلى أنواع عديدة من الخلايا الأخرى.
وبالرغم من أن المعامل الأخرى لم تستطع إعادة إنتاج ما توصل إليه، لكن عمله أدى إلى تكوين شركات لتطوير علاجات جديدة للأزمات القلبية والسكتات وإلى إلهام تجارب إكلينيكة ممولة من قبل معاهد الصحة الوطنية.
علق المدير المساعد للبحث في القلب والأوعية الدموية في معهد جلادستون في سان فرانسيسكو (بينوا برونو Benoit Bruneau) على الخبر قائلا: "ورقتين أو ثلاثة قد تثير القلق، لكن 31 ورقة قيد التحقيق هو أمر لم نسمع به من قبل. فذلك تقريبا يمثل كل إنتاج المعمل، وبالتالي معظم ما في الحقل البحثي هو قيد التحقيق الآن".
مدرسة طب هارفارد ومؤسسة بريجام ومستشفى النساء بدأوا مراجعة أعمال د. أنفيرسا في يناير 2013، وفي إبريل 2017، وافقت مؤسسة بيرجام ومستشفى النساء على دفع 10 مليون دولار للحكومة الفيدرالية كتسوية بعد اعتراف د. أنفيرسا بتقديم بيانات مزورة للحصول على التمويلات البحثية. أما المسؤولون في هارفارد، فرفضوا التعليق على سبب التأخر في اتخاذ أي إجراء".
نشر ويليام برود ونيكولاس واد كتابهما (خونة الحقيقة) في 1982، ونحن اليوم في 2018، وما زالت المشكلة في ازدياد.
يرى المؤلفان أن المشكلة ليست في وجود الغش نفسه، ولكن في الأفكار الشائعة عن العلم، حيث يقولان: "تعجز الأيديولوجيا العلمية الشائعة عن تفسير ظاهرة الغش بصورة مرضية. فهي تتعامل مع الظاهرة من خلال إنكارها لكونها مشكلة لها أية أهمية أو انتشار. في واقع الأمر، يعد الغش ظاهرة خطيرة حدثت طوال تاريخ العلم، والحال ليس أفضل اليوم، وبالتالي، ليس الغش الذي يتعين نبذه بل الأيديولوجيا الشائعة".
وبالإشارة إلى الحادثة السابقة، كانا يقولان: "يكشف الغش ليس فقط البنية الاجتماعية للعلم لكن المنهجية العلمية أيضًا. يولد الغش والخداع الذاتي بيانات غير صحيحة، والتي تضع تحديا أمام آليات العلم ذاتية التصحيح، ولا سيما التحقق من النتائج العلمية. وكما تبين من جانب العديد من عمليات الغش التي نوقشت هنا، التكرار المتماثل للتجربة غالبا ما يُجرى باعتباره ملاذ أخير فقط، وعادة لتأكيد شكوك تُوصِل إليها لأسباب أخرى. لا يعد تكرار نفس التجربة جزء من العملية العلمية، والسبب بسيط؛ ليس هناك أي مكانة وحظوة يمكن جنيها من تكرار تجربة شخص آخر".
ويرى المؤلفان أن المشكلة تكمن في أن "السلطات العلمية تُنكِر أن الغش أكبر من مجرد شائبة زائلة من على وجه العلم"، لكن الحل لن يأتي إلا إن تم الاعتراف بأنه "لا يمكن فهم طبيعة العلم وخادميه بشكل كامل، إلا من خلال الاعتراف بأن الغش مستوطن فيه". وأنه بالنسبة لجمهور العامة "سيؤدي الفهم الأفضل لطبيعة العلم إلى التعامل مع كل ما يتصل بالعلماء بهيبة أقل وبانطلاق نحو مزيد من التشكك. وسيكون اتجاها أكثر واقعية ومفيدا لكليهما. لكن يتعين أن يبدأ الفهم الصحيح للعلم من العلماء أنفسهم، كما يجب تبني مفهوم أنه لا يوجد انفصال بين المنهج العلمي وأنماط الإنتاج الفكري الأخرى".
أكثر من ثلث قرن مضى على هذا الكلام، فهل الصورة تسير نحو تحقيق ذلك؟ أم أنها تبتعد تماما عنه؟