* ملحوظة: هذا المقال هو من كتاب (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
في صباح أحد أيام مارس 1979، وصل خطاب غير اعتيادي إلى المكاتب الصارمة لـ(روبرت بيرلنر Robert Berliner) عميد كلية الطب بجامعة ييل، موجهًا اتهامًا لاثنين من أعضاء كليته بارتكاب الجريمة العلمية الضخمة؛ الانتحال. لقد تقلد ذاك المسؤول المهذب مدخن البايب بيرلنر (64 عامًا) أعلى المناصب في معاهد الصحة الوطنية لعقدين من الزمن قبل مجيئه إلى ييل. تفحص الخطاب، وألقى نظرة سريعة على المخطوطات الملحقة، وانتهى فورًا إلى أن الأمر فيه مبالغة.
وهكذا، تبين هذه الواقعة رؤية فريدة للممارسة اليومية للبحث في الولايات المتحدة. وحيث أنها تتعلق بعملية الغش، فلا يمكن القول إن الحادثة نفسها نموذج متكرر. ومع ذلك، فإن السلوك العام من العديد من العناصر الفاعلة في الأحداث، ممثلا بقوة –إن لم يكن تماما– لكيفية ممارسة العديد من العلماء لأبحاثهم اليومية. وفي تتبع أفعال ومواقف المتلبسين بهذه الواقعة، من المفيد أن نضع في الاعتبار المثل العليا التي يقول العلماء أنها توجه سلوكهم: كالالتزام النزيه تجاه الحقيقة، الحكم على الأشخاص والحجج بناء على صلاحياتها فقط، الفحص الدقيق لكل دعاوى الأبحاث بصرف النظر عن وجاهة من يؤيدها، تبادل لجميع الأفكار والمعارف بشكل عام لأجل صالح المجتمع والرقابة الذاتية الصارمة.
جاءت هذه الرسالة –التي سقطت على مكتب بيرلنر– من باحثة شابة في معاهد الصحة الوطنية. اتهمت الباحثة باحثي ييل بسرقة عشرات المقاطع من مخطوط غير منشور لها وضمها لورقة بحثية تخصهم. وشككت "بموثوقية" البيانات الخاصة بهم، ملمحة إلى أن دراسة ييل تبلورت من لاشيء، وأغلقت الخطاب بطلب لإجراء تحقيق... كان المؤلف الرئيسي (فيجاي آر سومان Vijay R. Soman)، أستاذ مساعد جاء الي الولايات المتحدة عام 1971 من بونا بالهند، وحتى وإن لم يكن مبدعًا، فهو يحظى باحترام كبير. كان لم يعتد بعد على الإنجليزية. علاوة على ذلك، فإنه من المرجح بأن الدراسة أجريت بالفعل. كان كبير العلماء الذي أشرف على سومان والذي شارك في اعداد الدراسة قيد التحقيق (فيليب فِليج Philip Felig)، باحث مرموق، نشر ما يزيد عن 200 ورقة، وتلقى 15 وساما وجائزة، وحصل على الدرجة الفخرية من معهد كارولينسكا في السويد المانح لجائزة نوبل. تقلد فليج منصب مميز، حيث كان نائب رئيس كلية الطب في ييل ورئيس وحدة أبحاث الغدد الصماء.
ولزيادة التأكيد فقط، طلب بيرلنر من الباحثين نسخ من أوراق البيانات، الأساس العلمي للدراسة. أخبرت الأوراق عن تجارب لست نساء مصابات بفقدان الشهية العصبي (النفور المرضي من الغذاء). ولما تجهز بالمعلومات الكافية، كتب بيرلنر لباحثة معاهد الصحة الوطنية الشابة بأنه لا يوجد أدنى شك في أن الدراسة قد تمت، علاوة على أن سومان قد تم توبيخه، وكتب لها "أتمنى أن يتم اعتبار المسألة منتهية".
لكنها لم تفعل. لمدة عام ونصف تالي، أخذت (هيلينا ووشسليكت رودبارد Helena Wachslicht-Rodbard) تبعث بخطابات وتجري مكالمات تلفونية مهددة بإدانة كل من سومان وفليج في الاجتماعات الوطنية ومهددة باستقالتها عن وظيفتها. كانت تعلم بأن الانتحال بينٌ تماما. أرادت إجراء تحقيق في صحة الدراسة ككل، معللة ذلك بأنها مليئة بالبيانات التي تبدو أجود من المطلوب. في نهاية المطاف، وصلت لمبتغاها. بينت التحقيقات أن الدراسة قيد التحقيق هي أقل المشاكل في ييل.
... تم السحب بعد عام ونصف من احتيال سومان. بنهاية مايو، تم بعث رسائل من ييل لسحب ما يقرب من 12 ورقة. وبعد مرور أكثر من شهرين بقليل، في بداية أغسطس، أجبرت لجنة أعضاء هيئة تدريس في كلية كولومبيا للأطباء والجراحين فليج على تقديم استقالته بسبب فشله جزئيًا في إخبارهم بالقصة الكاملة منذ البداية. فالمسؤولين هناك سمعوا عن أسراب سحب الورق من الشائعات وليس من فليج نفسه. ورغم أنه ليس أكبر التجاوزات الملحوظة، إلا أن أكثر ما أغضب اللجنة أن فليج لم يخبر العميد تابلي بإقرار سومان بانتحاله. تم ذكر "الانتحال" في كل استنتاج لتقرير الهيئة ذو السبع صفحات. ذكر أعضاء اللجنة مرارا أن "الانتحال هو الانتحال" رغم أنها لم تطأ أعينها على المخطوطات.
وفي أعقاب واحدة من أخطر الهزات في تاريخ البحوث الطبية الحيوية، واصل المدراء، ولو بأساليب غير معروفة أحيانًا. لم يكن أي شيء عن حياة سومان في الهند معلومًا في الأوساط العلمية. تم إعادة توظيف فليج بعد مراجعة قضيته من قبل كلية طب جامعة ييل لأكثر من ثلاثة أشهر. مع ذلك لم يعد لنفس منصبه. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد محرر معاون في المجلة الأمريكية للطب. وبما أنه لم يدان بأي مسؤولية شخصية لأي عمل احتيالي من قبل فريق من الباحثين من معاهد الصحة الوطنية، فقد تم تجديد منحة كبيرة له. حذت جهات تمويلية أخرى حذو سابقيها مثل رابطة السكري الامريكية. لم يتخلى عن فريق البحث، لكن ما زال، بعد أكثر من عشرات السنين، راسل الباحثون في معهد كارولنسكا في ستوكهولم بشأن مشروع قد يسفر عن ثلاث أو أربعة أوراق. بالإضافة إلى ذلك، كان ما زال يعمل على خمس مشاريع فرق في ييل، رغم أنه قال إنه قد أصبح أكثر حذرًا حيال التوقيع على ورقة طور فيها أحد مرؤوسيه أسلوب جديد.
ذكر فليج في استجواب الكونجرس "عندما يكون العالم الأقدم ليس على دراية تامة، يتوجب عليه أو عليها أن يتوخى الحذر بشكل أكبر في مراجعة البيانات الأصلية للعالم المبتدئ، وإلا فالأجدر ألا يدرج اسمه أو اسمها في الورقة. أرى من المستحسن أن يسعى أو تسعى للحصول على استشارة من خبراء من الخارج قبل السماح بنشر المواد مصحوبة باسم العالم الأقدم".
أنهت هيلينا رودبارد فترة تخصصها في الطب الباطني وبدأت الممارسة الخاصة. وكما أخبرت أصدقائها، لم يعد العمل البحثي يحتفظ بنفس المكانة التي كان يحتلها سابقًا.
أظهر الوضع المعقد في ييل الوجه الحقيقي للعلم بشكل أكثر واقعية من ذلك الذي تتحدث عنه الدراسات الإفرادية البطولية للكتب العلمية. لا شك أن بعض التجارب تستند إلى بيانات ملفقة: لكن احتيال سومان كان آلية سلطت الضوء على أنماط السلوك والاتجاهات الفعلية لقطاع من المجتمع العلمي. ولم يكن هذا أي قطاع، فجامعة ييل ومعاهد الصحة الوطنية يعتبران جزء من النخبة العلمية.
يلتزم الباحثون رسميًا بالبحث عن الحقيقة، لكن الإدارة اليومية لأنشطتهم ليست بهذه المثالية المجردة، فالتسابق مع المتنافسين والزملاء هي التي تحفز على العمل. عندما طلبت مجلة نيو إنجلاند للطب من فليج مراجعة مخطوطة رودبارد، استطاع رؤية البطاقات الموجودة في يد رودبارد دون أن يتثنى لها رؤية ما بيده. كانت أفضلية غير عادلة، لأنه من تلك اللحظة فصاعدًا، كان كلا من سومان وفليج على علم بأنهم في سباق، في حين لم تكن رودبارد لديها أي فكرة أنها ستقف ضد فريق ييل لاحقًا. وبتوصيته لرفض الورقة، حتى وإن كان فقط بناء على موضوعها، لن يجد فليج أي صعوبة في إدراك أن تصرفه سيؤخر رودبارد وسيتيح مزيد من الوقت لسومان.
تضمن النخبوية التي تتخلل عالم البحوث أن مفاخر مشاهير العلوم ووكلائهم سيكونوا ملحوظين على نطاق واسع أكثر من الأعمال المتكافئة للبحاثين الأقل شهرة. يؤكد فلاسفة وعلماء اجتماع العلوم أن التشكيك يحفظ العلوم نقية عن طريق استئصال أي بحث سيء أو مزور. إلا أن قدرة النخبة على أن تحفظ نفسها من الاستفسار التشكيكي هي علامة على أن هذه الآلية لا تطبق بشكل عام في مجال العلوم. رغم شكوى رودبارد الموثقة بشكل جيد، استغرق الأمر عام ونصف حتى يفتح التحقيق ويكتشف الغش.
المصادر:
1. William J. Broad, "Imbroglio at Yale (I): Emergence of a Fraud," Science, 210, 38-41, 1980; "Imbroglio at Yale (II): A Top Job Lost," Science, 210, 171173, CI 1980, American Association for the Advancement of Science.
2. Helena Wachslicht-Rodbard et al., "Increased Insulin Binding to Erythrocytes in Anorexia Nervosa," New England Journal of Medicine, 300, 882-887, 1979.
3. Helena Wachslicht-Rodbard, letter to Robert W. Berliner, Dean, Yale University School of Medicine, March 27, 1979, p. 2.
4. Fraud in Biomedical Research. Hearings before the Subcommittee on Investigations and Oversight of the Committee on Science and Technology, U.S. House of Representatives, Ninety-Seventh Congress, March 31—April 1, 1981 (U.S. Government Printing Office, No. 77-661, Washington, 1981), p. 103.
5. Philip Felig, handwritten memo to Robert W. Berliner, Dean, Yale University School of Medicine, April 9, 1979.
6. Vijay R. Soman and Philip Felig, "Insulin Binding to Monocytes and Insulin Sensitivity in Anorexia Nervosa," American Journal of Medicine, 68, 66-72, 1980.