* ملحوظة: هذه السلسلة هي من كتاب (الإجماع الإنساني) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
ب- نموذج بول فيرابند:
إذا كان توماس كون قد أقرّ بأن علو مرتبة العلم عن الأنشطة البشرية الأخرى مجرد فرضية بعد عجزه عن إثبات معيار للتقدم؛ فإن فايرابند كان شجاعًا ولم يجنح إلى فرضية دوجمائية، وهو من أشد فلاسفة القرن العشرين تأثيرًا وإثارة للجدل، وله فضل كبير على توماس كون وإمري لاكاتوش في فلسفتهما، بما قدمه من أبحاث عن فكرة استحالة المقارنة.
قدم فايرابند في كتابه "ضد المنهج" عام 1975 خطة فوضوية عن العلم، وقد تم ترجمة هذا الكتاب إلى سبع عشرة لغة حتى عام 1994 فقط، فهذا الكتاب قد أثار حفيظة الكثير من المشتغلين بالعلم والفلاسفة معًا، إلا أن المتفق عليه أن فايرابند كان مدققًا وصاحب حجة، وإن كان يغلفها بعبارات تستفز أغلب معاصريه.
يتكون كتاب فايرابند من جزأين أساسيين: الجزء الأول يعالج قضايا أبستمولوجية ومنطقية أما الثاني فيتعلق ببعض النتائج السياسية والاجتماعية المترتبة على الجزء الأول، وهو شيء نادر بالنسبة لفلاسفة العلم، فلن تجد في كتاباتهم ارتباطًا وثيقًا بين فلسفتهم والمجالات الأخرى مثلما فعل فايرابند.[1]
يستهل فايرابند هجومه على المناهج البحث التقليدية في كافة صورها التي ما انفك فلاسفة العلم يروجون لها ويحاولون إقناعنا بأنها الفيصل بين العلم واللاعلم، إذ يتقدم العلم في فلسفة هؤلاء من خلال جمع الوقائع ثم استدلال النظريات منها، غير أن هذه الإجابة التقليدية لماهية المنهج لا تبدو مقنعة لأحد، لأن النظريات لا تلزم عن الوقائع بالمعنى المنطقي الدقيق، ولا يصلح مفهوم التأييد أو التعزيز للدفاع عن منهج العلم.[2]
إذا كان الأمر كذلك فما هو المنهج الأمثل للعلم في نظر فايرابند؟ ما هي القواعد الصحيحة عنده؟ يصدمنا فايرابند بالقول أن العلم ليس له منهج خاص به يميزه عن أي نشاط آخر، أو يجعله يستحق درجة أكبر من الاحترام باعتباره يقدم معرفة حقيقية صادقة، يقول فيرابند: تواجه فكرة وجود منهج علمي يتضمن مبادئ صارمة لا تتغير وملزمة إلزامًا مطلقًا صعوبات جمة عند مقارنتها بنتائج البحث تاريخيًّا... إذ لا توجد علاقة واحدة مهما بدت ممكنة أو مستندة إلى أسس أبستمولوجية راسخة إلا وتم تجاوزها في وقت من الأوقات.[3]
ولا يرى فايرابند أن تجاوز أو مخالفة قواعد المنهج العلمي أمرًا عرضيًّا، أو يحدث في حالات نادرة، ولا هو نتيجة لنقص في معارفنا أو لأمر يمكن تداركه أو التغلب عليه، بل يرى العكس، فهذا التجاوز ضروري لتقدم العلم.
ويؤكد ذلك بقوله: مهما بدت لنا قواعد المنهج التي يتشدق بها فلاسفة العلم ضرورية وأساسية فهناك دائمًا ظروف تستدعي ليس فقط تجاهل هذه القواعد وإنما تبني عكسها[4]، ثم يضرب عدة أمثلة من تاريخ العلم ليبرهن ذلك، ويقول في موضع آخر: إن الفكرة القائلة بأن العلم يمكن له وينبغي له أن ينتظم وفقًا لقواعد ثابتة وشمولية هي في آن واحد فكرة طوباوية وذات بريق خادع.
هي طوباوية لأنها تتضمن تصورًا مفرط البساطة حلول استعدادات الإنسان أو قدراته، وحول الظروف التي تشجعها على النمو أو تسببه، وهي براقة خادعة من حيث إن محاولة فرض تلك القواعد لا تخلو من جعل الزيادة في كفاءاتنا المهنية لا يكون إلا على حساب إنسانيتنا، وعلاوة على ذلك ففكرة كتلك مضرة للعلم، لأنهما تهمل الشروط الفيزيائية والتاريخية المعقدة التي تؤثر تأثيرًا حقيقيًّا في التغير العلمي، إنها تجعل علمنا أقل قابلية للتكيف وأكثر دوغمائية.[5]
ويتفق معه تلميذه آلان شالمرز فيقول: إذا قصدنا بمناهج العلم قواعد لتوجيه اختيارات وقرارات المشتغلين بالعلم فلا يسعنا إلا أن نتفق مع فايرابند، فكل وضعية علمية واقعية وضعية معقدة، تنمو بطريقة غير قابلة للتوقع، ولذلك فإن من العبث أن نتمنى العثور على منهج يمكنه أن يدل العالم العقلاني في سياق معين فيما إذا كان عليه أن يتبنى النظرية س برفضه للنظرية ص أو العكس... لا ينبغي للعلماء أن يدعوا أنفسهم يسجنون داخل قواعد يفرضها عليهم أحد واضعي المناهج العلمية.[6]
إن فايرابند يبطل فكرة معيار الجماعة العلمية أصلًا، ما على العلماء إلا اتباع خيالاتهم أو ما يبدو لهم هامًّا ومثيرًا، والسبب في بطلان أي معيار في نظره أن النشاط العلمي ليس نشاطًا موضوعيًّا أو عقلانيًّا خالصًا، فإذا كان التقدم العلمي هو إزاحة نظريات لتحل محلها نظريات جديدة فغالبًا ما تتضمن هذه العملية عناصر "غير عقلانية" أي غير مبررة أو مسوغة، وهذا يتضح من خلال النقطة التالية:
كي تتغلب الوضعية المنطقية على ذاتية العلم، قدم رايشنباخ تمييزًا أوليًّا تابعه عليه الكثير ومنهم كارل بوبر بين سياق الكشف وسياق التبرير، أما سياق الكشف فيتعلق بمحاولة اكتشاف قواعد أو تقنيات أو وسائل للكشف عن النظريات، أما سياق التبرير فيختص بالمبادئ الموضوعية لتبرير وتقييم النظريات المتنافسة في ضوء الأدلة المتاحة، وقد تم إهمال سياق الكشف من أغلب فلاسفة العلم، لتعلقه بالذاتيات، فلا يمكن دراسة عملية الإلهام أو الحدس أو التخمين تحت قوانين أو منهجية.
ويعتبر هذا التمييز أحد المبادئ الأساسية في دائرة فيينا، يقول هربرت فيجل: ثمة فرق بين أن نتتبع الأصول التاريخية والنشأة السيكولوجية والظروف الاجتماعية والسياسية لقبول أو رفض نظريات علمية، وبين أن نقدم إعادة بناء منطقي للبناء التصوري ولاختبار النظريات العلمية.[7]
أما فايرابند فيرى أن التمييز بين سياق الكشف وسياق التبرير تمييز وهمي، فقبول نتائج أي تجربة عملية تختلط بعناصر ذاتية ونزعات شخصية لجماعة العلماء المختلفة، ومن هنا فالتمييز بين هذين السياقين غير حقيقي ومصطنع، إذ لا يمكن الكشف أن يكون مجرد خبط عشوائي، كما أن التبرير يتضمن العديد من العناصر الذاتية، وبعبارة فيرابند: إن التمييز بين سياق الكشف وسياق التبرير غير حقيقي، فالكشف لا يكون أبدًا قفزة في الظلام، أو حلمًا... كما أن التبرير لا يكون أبدًا إجراءً موضوعيًّا تامًّا.[8]
ويلزم على ما قرره فايرابند عدم الفصل بين العلوم الفيزيائية والعلوم الإنسانية واستعلاء الأولى على الثانية، فالموضوعية التامة وهم، وهي السبب الرئيسي في جعل المجتمع ينظر للتقدم الفيزيائي ولا يشعر بالتقدم في العلوم الإنسانية.
وإذا كان توماس كون قد جعل المعيار العلمي للتقدم هو القفزات بين النماذج الإرشادية من خلال أنها انتقال من دين لدين داخل إطار سيكولوجي للجماعة العلمية لكنه محكوم إلى حد كبير بالقواعد المتفق عليها كمنهج: فإن فايرابند لا يرى ذلك، بل لا يعبأ بقواعد أصلًا، فالواقع العلمي معقد لأنه ممارسة إنسانية، يدخل فيها الإنسان بفوضويته وتداخل أنماط سلوكه وقرارته، وعلى هذا لا يمكن أن تفهم عن الجماعة العلمية أي قواعد متضمنة في ممارستهم العلمية.
وحيث إن العلم ممارسة إنسانية، فلا مجال لتفضيله على أي ممارسة أخرى، ويشتكي فايرابند من أن العلماء يحكمون غالبًا بتفوق العلم على أشكال المعرفة الأخرى دون محاولة معرفة هذه الأشكال الأخيرة بكيفية دقيقة، لكن الملاحظ أن فايرابند وتوماس كون تأثرًا كثيرًا بفكرة ألعاب اللغة وصور الحياة التي قدمها فتجنشتين، لكن لم يقدم أي منهما -وفتجنشتاين أيضًا- وسيلة لتقييم الألعاب الشاذة كالتنجيم وغيرها، فالسماح بصور الحياة كلها يجب أن يكون بمعيار معين ديني أو أخلاقي، وكنت أتمنى أن يهتم فتجنشتاين تحديدًا بهذه النقطة في فلسفته المتأخرة لكن لم أظفر بشيء كتبه عنها.
أما النقطة الأخرى التي ينتهي بها فايرابند إلى ذاتية تامة فهي عدم القابلية للمقارنة، وهي أحد النقاط الرئيسية في تحليله للعلم، "فإذا كانت الملاحظة لا يمكن أن تكون سابقة على النظرية، وأن الملاحظة يجب أن تتم داخل سياق معين تتم فيه عملية تأويل الملاحظة ففي بعض الحالات قد تكون المبادئ الأساسية لنظريتين متنافستين من التباعد بحيث تظهر استحالة حتى مجرد صياغة مبادئ إحدى النظريتين بحدود ألفاظ النظرية أخرى.
وينتج عن ذلك أن النظريتين المتنافستين لا تشتركان في أي من الملاحظات الخاصة بكل منهما، كما لا يكون من الممكن بسبب ذلك التباعد بين مبادئ النظريتين القيام بالاستنتاج المنطقي لبعض نتائج إحدى النظريتين انطلاقًا من مبادئ النظرية المنافسة لها، وذلك ضمن منظور المقارنة بينهما، وبالتالي تكون النظريتين لا يمكن المقارنة بينهما.[9]
لنأخذ مثالًا قدمه فايرابند ليبين به فكرته، وهو العلاقة بين الميكانيكا الكلاسيكية والنظرية النسبية، فالموضوعات الفيزيائية حسب الميكانيكا الكلاسيكية لها شكل وكتلة وحجم، وهي خواص ملازمة وملاصقة للموضوعات الفيزيائية وداخلة فيها، ويمكن تعديلها نتيجة لتفاعل فيزيائي، أما في النظرية النسبية فلم تعد تلك الموضوعات كذلك، بل هذه الخواص -الشكل والكتلة والحجم- أصبحت تأخذ معنى العلاقات بين موضوعات وبين منظومة مرجعية معينة، وبالإمكان تعديلها أو تغييرها دون أدنى حاجة لتفاعل فيزيائي، وذلك بالانتقال من منظومة مرجعية إلى أخرى، ونتيجة لذلك فكل منطوق ملاحظة يحيل إلى موضوعات فيزيائية داخل الميكانيكا الكلاسيكية ستكون له دلالة مختلفة عن دلالة منطوق ملاحظة ذي مظهر مشابه للأول داخل النظرية النسبية.
ويقول فايرابند عن ذلك: إن منظومة المفاهيم الجديدة التي تم إبداعها بواسطة النظرية النسبية لا تنكر فحسب وجود الحالات والوقائع الكلاسيكية، بل إنها تصل إلى حد أنها لا تسمح لنا حتى بصياغة منطوقات تعبر عن مثل تلك الحالات والوقائع؛ إن هذه المنظومة لا تشترك مع سابقتها ولو في منطوق واحد، ولا يمكنها ذلك، وذلك دائمًا اعتبارًا لأننا لا نستخدم النظريات بوصفها ترسيمات أو خطاطات تصنيفية لترتيب وقائع أو ظواهر محايدة، إن المشروع الوضعي بنظارته البوبرية لهو مشروع منهار.[10]
ثم يستنتج فايرابند من هذه الحجة استنتاجًا متطرفًا وبالغ الذاتية، وهو أن العلم بأكمله حكمًا ذاتيًّا على العالم، كالأحكام الجمالية، كالذوق، فبعد فشل تحديد معايير معينة يتم فيها المقارنة فما يتبقى في التقييم هو "رغباتنا الذاتية".[11]
أما الجزء الثاني من كتاب فايرابند فيتعلق بالمجتمع، وهو ما يشبه التحذير من سيطرة العلم التجريبي باعتباره أيدولوجيا، وكيف أن العلم أصبح دينًا، وكيف أن الحقائق العلمية يتم تلقينها بنفس طريقة حقائق الدين سابقًا في أوروبا، كما أن احترام رجل العلم هو نفس نوع الاحترام الذي كان يوجه إلى رجل الدين.
لكن فايرابند لم يقدم بديلًا لكيفية تقييم النظريات العلمية، وهذا إشكال رئيسي في فلسفته، حتى أن الحلول التي يقدمها تسببت في السخرية من فلسفته بكاملها، كحل صناديق الاقتراع، بأن يتم إجراء انتخابات للتصويت على النظريات العلمية!
[1] ثلاث محاورات في المعرفة، ص10.