تنويه: هذا الكتيب هو في الأساس أحد فصول كتاب (تصميم الحياة: اكتشاف علامات الذكاء في النظم البيولوجية) لديمبسكي وويلز. والغرض من إخراجه بهذا الشكل، هو توفير ملخص لحجة التعقيد المحدد لمن يفضل الاطلاع على الملخصات. لكن ليس الغرض إطلاقا العرض الكامل المفصل لنظرية التصميم الذكي ولا حتى لفكرة التعقيد المحدد، فلذلك من يود الصورة الكاملة، نرشح له قراءة الأبحاث الكاملة (مثل صندوق داروين الأسود لبيهي واستنتاج التصميم لديمبسكي وشك داروين وتوقيع في الخلية لماير).
هل التصميم الذكي علم؟
يقول عالم الأحياء التطورية (فرانشيسكو أيالا Francisco Ayala) في معرض حديثه عن أهمية نظرية داروين: "قد يوحي التصميمُ الوظيفي في الكائنات الحية وميزاتُ هذه الكائنات بوجود مصمم لها. لكن أعظم ما حققه داروين هو إثبات إمكانية تفسير النظام الموجه في الكائنات الحية كنتيجة لعملية طبيعية (الانتقاء الطبيعي) دون الحاجة لافتراض خالق أو أي عامل خارجي". وأضاف: "أصبح أصل الكائنات الحية وتكيفها بكل تنوعاتها الوفيرة والمذهلة في متناول العلم".
بهذا التعليق الأخير يقترح أيالا بوضوح أن علم الأحياء قبل داروين لم يكن من العلم كما ينبغي، ونظرًا للأهمية التي أولتها دراسات أصل الأحياء قبل ظهور داروين لفكرة التصميم الذكي؛ يكون أيالا قد رفض إمكانية اعتبار تفسير التعقيد والتنوع الحيوي بالتصميم علما. ويشرح هذه النقطة بروفيسور الأحياء (ديفيد هال David Hull) قائلا: "ألقى داروين فكرة التصميم جانبًا؛ ليس لكونها تفسيرًا علميًا غير صحيح، بل لكونها ليست تفسيرًا علميًا على الإطلاق".
لا يمكن لهذا أن يكون صحيحًا؛ فالعديد من العلوم توظف مبدأ التصميم، بل لا يمكن تصور بعضها دون هذا المبدأ، مثلا: يفترض علم الآثار أن البشر في العصور القديمة قد تركوا دلائل على حياتهم وثقافاتهم، ويمكن تمييز هذه الدلائل عن تأثيرات القوى الطبيعية العمياء، وتفترض العلوم الجنائية أن البشر يحاولون بعد ارتكابهم للجريمة أن يخفوا الآثار التي تدل عليهم، ولكنهم غالبًا يفشلون في ذلك، ولا يمكن عزو الأدلة التي تشير إليهم لفعل قوى الطبيعة. كذلك تحتاج الكثير من العلوم الأخرى لمبدأ التصميم، بما فيها: الذكاء الصناعي وعلم الشفرات وتوليد الأرقام العشوائية.
كذلك لا يجب أن يشير التصميم دومًا إلى صنعة إنسان. يدرس بعض علماء النفس التعلم والسلوك لدى الحيوانات. تُظهر الحيوانات ذكاء كما أن لها القدرة على تصميم الأشياء. فمثلًا السدود التي تبنيها القنادس مصممة. لا يشترط في التصميم أيضًا أن يكون أرضيًا. فمشروع البحث عن ذكاء خارج الأرض (مشروع SETI) يحاول الكشف عن علامات على الذكاء في الإشارات الراديوية في الفضاء الخارجي. إذًا يُضمر مشروع SETI افتراضًا بأنه يُمكن تمييز الإشارات الراديوية المحدثة طبيعيًا عن تلك المصممة.
ويرى أيضا عالما الأحياء فرانسيس كريك وليزلي أورجيل أن الحياة أعقد بكثير من أن تظهر مباشرة على كوكب ككوكبنا، وأنه لا بد أنها زرعت هنا من قبل كائنات فضائية ذكية سافرت إلى نظامنا الشمسي عبر سفينة فضائية. ومع كون الفكرة بعيدة عن تصديق الكثيرين، إلا أن نظريتهما هذه والمعروفة بــ(التَبَزُّر الشَّامِل Panspermia) نظرية معتبرة في الوسط العلمي، كونها تقع في حدود العلم. تفترض هذه النظرية وجهة نظر قائمة على أن الحياة على الأرض مصممة.
إن كان رصد التصميم في عدة علوم متخصصة متاحًا، وإن كانت قابلتيه لأن يُرصد إحدى العوامل المفتاحية في الحفاظ على مصداقية العلماء؛ فلماذا يجب استبعاد التصميم من علم الأحياء سلفًا؟ ماذا لو أظهرت الأنظمة الأحيائية أنماطًا تشير بوضوح إلى التصميم؟ تكمن الفكرة من هذا الكتاب في إظهار وجود هذه الأنماط في الأنظمة الأحيائية وأنه لا يوجد سبب مقنع لإلغاء التصميم من علم الأحياء.
تعريف التعقيد المحدد
بلغَ عمرُ مصطلح التعقيد المحدّد الآن ثلاثين عاما. وقد استخدمَهُ الباحثُ عن الذكاء خارجَ الأرض ليزلي أورجل Leslie Orgel لأوَّل مرَّةٍ عام 1973م في كتابه (أصول الحياة) حيث كتب :"تتميَّزُ الكائناتُ الحيَّةُ بتعقيدِها المحدد. فالبلورات –كالغرانيت مثلًا– لا تستحقُّ اسمَ الحي لأنَّها تفتقرُ إلى التَّعقيد، ومزيجٌ عشوائيٌّ من البوليميرات لا يستحق اسم الحي لأنَّه يفتقر إلى التحديد".(3) استخدم أورجيل لفظةَ التعقيد المحدد بشكلٍ مطَّاطٍ، دون تقديم تصوُّرٍ تحليليٍّ دقيقٍ لها. أصبحَ هذا التَّصوُّرُ في متناولِ أيدينا اليوم ويعود الفضلُ للعلماء الـمُختصِّين بنظريَّة التصميم الذكي. يضم مصطلحُ التعقيد المحدد ثلاث عناصرَ رئيسية –كمعاييرَ إحصائيَّةٍ لتحديد تأثيرات الذكاء–:
– العُنصُرُ الاحتماليُّ للتعقيد ويُطبَّقُ على الأحداث.
– العنصر الوصفيُّ للتعقيد ويطبق على النماذج.
– المقياسُ الاحتماليُّ للفرص المتاحة لإنتاج الحدث بالصدفة.
التَّعقيدُ الاحتماليّ: يُمَكِّنُ عرض الاحتمالية في صورة التعقيد. لنفهمَ ذلك سنأخذُ القُفلَ التوافقيَّ كمثال.[1] فكلما زادَ عددُ التوافقات في القُفلِ زاد تعقيدُ مهمة الفتح وضعُفت بالتالي احتماليَّةُ فتح القفل بالصدفة. فإن كانَ للقفل مثلًا لوحةٌ دائريَّةٌ مُرَقَّمَةٌ من 0 وحتى 39 ولا بُدَّ من توجيه السَّهم ثلاثَ مرَّاتٍ على الأرقام الصحيحة لفتح القفل عندها سيكون لدينا (40×40×40=64000) احتمالٍ ممكن. وهذا الرقمُ يُعطينا فكرةً عن مدى تعقيد هذا القفل، وهو يتفق مع احتمال 1\64000 لأن يُفتحَ القفلُ بطريق الصدفة –أي دون معرفةِ الرَّمز الخاص بالفتح–. القفلُ الذي يحوي لوحةً مرقَّمَةً من 0 وحتى 99 مع ضرورة توجيه السَّهم للرَّقم الصحيح خمسَ مراتٍ أعقَدَ بكثيرٍ إذ سيكون لدينا احتمالٌ ممكن (=100×100× 100× 100×100)، عندها سيكون احتمال فتح القفل بالصدفة هو 1\10,000,000,000. هذا يعني أنَّ التعقيدَ والاحتماليةَ يتغيران بشكلٍ متعاكس –كلما زاد التعقيد نقص الاحتمال– لذا يُمكِنُ القولُ بأنَّ التعقيدَ في مصطلح (التعقيد المحدد) يدلُّ على اللا احتمالية.
التعقيد الوصفي كنموذج: تُظهرُ التحديداتُ درجاتٍ مختلفةٍ من التَّعقيد تتمثَّلُ بمدى سهولة أو صعوبة وصف هذا النموذج. لنعرف المدى الذي يتراوح فيه التعقيد الوصفي لهذه النماذج. نأخذُ مثالًا من نتائجَ تجربتي رمي قطعة النُّقود 10 مرات:
التجربة الأولى:ص ص ص ص ص ص ص ص ص ص.[2]
التجربة الثانية: ص ص ش ص ش ش ش ص ش ص.
أيُّ النتيجتين أقربُ لأن تكونَ بالصدفة؟ كلا النتيجتين لهما نفسُ الاحتمال –واحد بالألف تقريبا 1\2^10–؛ لكنَّ النموذجَ الذي يحدِّدُ النتيجةَ الأولى أسهلُ وصفًا بكثير من النموذج الذي يحدِّدُ النتيجةَ الثانيةَ إذ يمكنُ تحديدُ نموذج النتيجة الأولى بعبارةٍ بسيطة 10"صور متتالية"، في حين لا يمكن تحديدُ نموذج النتيجة الثانية إلَّا بعبارةٍ طويلة "صورتان فشعارٌ فصورةٌ فثلاثةُ شعاراتً فصورةٌ فشعارٌ فصورة". لذا يمكن التعبيرُ عن التعقيد الوصفيّ بطول العبارة التي تصفُ الطرازَ وهناك الكثير من الأدبيات العلمية حول هذا الموضوع.(4)
إذا أردنا أن نحكمَ على شيءٍ أنَّهُ ذو تعقيدٍ محدَّدٍ فلا بُدَّ أن يكونَ التعقيدُ الوصفيُّ فيه ضعيفًا –يمكن وصفه بسهولة كتسلسل الصور المتتالية الناتج من التجربة الأولى– والتعقيد الاحتمالي كبيرًا –احتماليته ضئيلة–. إنَّ الدمجَ بين ضآلة التعقيد الوصفي –نموذج أو بنية سهلة الوصف بعبارة قصيرة– مع ضخامة التعقيد الاحتمالي –يصعب جدًّا حدوثُ هذا الشيء بالصدفة– يجعَلُ من التعقيد المحدد مفهومًا فعَّالًا في التعبير عن الذكاء. ونظرًا لضآلة التعقيد الوصفي فيُمكِنُ إعادةُ بناء النموذج –أو البنية– بشكلٍ مستَقِلٍّ عن أيِّ حَدَثٍ ماديٍّ مسببٍ له. ولهذا السبب يمكنُ اعتبار التحديدات نماذجَ مستقلة.
المعطياتُ الاحتماليةُ تشيرُ لعددِ فرص حصولِ الحدَثِ وكونه محددا. قد يغدو الحدثُ الذي يبدو بعيدَ الاحتمال محتملًا جدًّا بتوفر المعطيات الاحتمالية الكافية أو قد يبقى بعيدَ الاحتمال حتى بعد توافر كل المعطيات الاحتمالية له. فللمعطيات الاحتمالية شكلان، تكراريٌّ وتحديدي؛
– المعطياتُ التكراريَّةُ تشيرُ إلى عدد فرص حصول الحدث.
– المعطيات التحديديةُ تشيرُ إلى عددِ فُرَصِ كونِ الحدثِ محددا.
ولنعرفَ مدى أهمية هذين النوعين من المعطيات الاحتمالية نتخيَّلُ أنَّنا نقفُ في تقاطعٍ مزدَحِمٍ فتمُرُّ من جانبنا 10 سيارات بونتياك حمراء لها أربعةُ أبوابٍ بشكلٍ متتالٍ. هل يحدثُ هذا بالصدفة؟(5) أنت محظوظٌ بالطَّبع لمشهادتك مثل هذا الحدث؛ لكن ما نريدُ تحديدَهُ إن كان هذا الحدثُ نادرًا لدرجة أنَّ أحدًا لم يتوقع حدوثَهُ بالصدفة. ليس الـمُهِمُّ أن تكونَ محظوظا بل أن لا يحصل هذا الشيءُ مع أحدٍ غيرك. ولنحدد فيما إن كنتَ محظوظًا أم لا يجبُ أن نحددَ أولًا عددَ الفرص لحصول هذا الحدث ورؤيتك له. وهذا يتطلَّبُ معرفةَ عدد السيارات في الطريق ومعرفة أنواعها –إن كانت كلُّ السيارات في العالم بونتياك براند جديدة وكلُّها حمراء بأربعة أبواب فمرورها متتالية أمرٌ طبيعيٌّ ولا وجودَ لصدفة تحتاج التفسير لعدم وجود غيرها– كما تتطلَّبُ أيضًا معرفةَ عددِ الأشخاصِ الذين يقفون في زوايا كلِّ الشوارع في العالم في السنة والذين يتوقع أن يروا المرورَ المتتالي لهذه السيارات. يشكِّلُ عددُ فرصِ مشاهدةِ مثل هذا الحدث ما يُعرَفُ بالمعطيات التكرارية. تحدد المعطيات التكرارية احتماليةَ رؤية أي شخص –ليس أنت فقط– لهذا الرتل من السيارات الذي شاهدته.
ولكنَّنا نحتاجُ لمزيد من المحددات لنعرفَ احتماليةَ حصول هذا الحدث بالصدفة. لا شَكَّ أنَّ رؤيةَ 10 سيارات بونتياك جديدة حمراء ذات أربعة أبواب متتالية أمرٌ مفاجئٌ. لكن ماذا لو كانت ببابين؟ وماذا لو كان لونها أزرق؟ ولماذا تكون من نوع بونتياك فقط؟ ماذا لو كانت كلُّها سيارات (هوندا أكورد) أو (فولكسفاكن جيتا). تشيرُ هذه الأسئلةُ إلى محدداتٍ أخرى للحدث تتمثَّلُ في نوع السيارات المتتالية المتماثلة. إنَّ مرورَ هذه السيارات متعاقبةً في الشارع أمرٌ يشدُّ الانتباهَ ويجبُ أخذُ هذا العدد من التحديداتِ في الحسبان لنعرفَ إن كانت هذه المشاهدةُ حصلت بالصدفة. ويشكِّلُ هذا العدد من التحديدات المعطيات التحديدية. تحددُ المعطياتُ التحديديَّةُ احتماليةَ مشاهدةِ أيّ تتالٍ لسيارات من نوع واحد وليس فقط من نوع بونتياك. (6)
إنَّ سردَ التفاصيل الكاملة للتعقيد المحدد أمرٌ شاق ونتركُها لمكان آخر.(7) إلَّا أنَّ الفكرةَ الأساسيَّةَ التي يتضمنها هذا المفهومُ قد أصبحت واضحةً من خلال شرح العناصر الرئيسيَّة الثلاثة التي يتكوَّنُ منها. سنتناول شرحَ هذه العناصر الثلاثة لاحقا.
[1] قفل بكلمة سر للفتح مثل رقم سري أو كلمة سرية. لا بد من توافق الحروف المدخلة مع التسلسل الصحيح ليفتح القفل. وهو دائري كقفل الخزنة أو رقمي صغير كقفل الحقائب أو أشكال أخرى.
[2] في تجربة رمي قطعة النقود تكون النتيجة إما صورة (ص) أو شعار (ش).