لماذا هذا الكتاب؟!
"لم تنته مهمة داروين حين أنجز أهم وأشهر أعماله؛ كتاب (أصل الأنواع)". في هذه العبارة شيء من المفارقة، لكنه الواقع، إذ لطالما علق بذهن داروين تساؤل قضَّ مضجعه، وأشعل حيرته، لدرجة أنه أخلى كتابه السابق من أيّة محاولة للجواب عنه، إذ لن تخلو محاولته عندئذ من مجازفة تكلفه سمعته وتودي بنظريته، أو تعود في أحسن الأحوال على بعض أفكاره الرئيسية بالشك والإبطال.
يأتي كتاب ستيفن ماير الحالي ليؤدي وظيفتين حيال هذه المعضلة التاريخية في حياة داروين ونظريته: تتمثل الأولى في إحياء النقاش حول حقيقة تلك المعضلة ونسج خيوط أبعادها العلمية. أما الوظيفة الثانية فهي تكثيف الشعور بدلالة تلك المعضلة وأهمية تداعياتها على بنية نظرية التطور الدارويني ككل. كل ذلك بلغة نقدية أكاديمية موعبة، استندت في تقييمها العلمي لأدبيات النظرية التطورية إلى مئات المراجع المعتمدة والأبحاث المُحَكّمة، حتى قال (ڤولف إيكيارد لونيش Wolf-Ekkehard Lönnig) كبير علماء البيولوجيا بمعهد (ماكس بلانك) عن عمل (ماير) هذا: "إن كتاب (شك داروين) إلى هذه اللحظة أحدث وأدق وأشمل مراجعة للأدلة المبثوثة في كافة المجالات العلمية ذات العلاقة خلال الأربعين سنة التي أمضيتها في دراسة الانفجار الكامبري. إنه بحث آسر في أصل حياة الكائنات وحجة قاهرة لصالح التصميم الذكي".[1]
إلى الآن لم نعرّف القارئ بطبيعة المعضلة التي حيرت داروين وحقيقة الشكوك التي ألَمّت به حول مستقبل نظريته، الاقتباس التالي من كلام المؤلف نفسه ينص على الغاية من الكتاب، ويوجز طبيعة المعضلة التي يتصدى لمعالجتها. يقول ماير: "يوثق هذا الكتاب شكَّ داروين الأكبر، وماذا جرى له، ويختبر حدثًا مهما في فترة حاسمة من التاريخ الجيولوجي، ظهرت فيه أعداد هائلة من الأشكال الحيوانية فجأة، ودون أسلاف تطورية محفوظة في السجل الأحفوري؛ وهو الحدث الغامض الذي يرمز له عادة بـ(الانفجار الكامبري)".[2]
إن هذا الظهور المفاجئ لأشكال الحياة يُضاد ركنًا جوهريًّا من أركان نظرية التطور الدارويني، بل عموده الفقري، ألا وهو افتراض ترقي أشكال حياة من مراتب أدنى فأدنى، يمكن تقفي آثارها شيئًا فشيئا إلى أصلها الأول. لكن الانفجار الكامبري ينطق بخلاف ذلك تماما، فهو لحظة حاسمة فاصلة لا يمكن ردّها إلى رتبة أدنى في سُلَّم التطور المزعوم. ولقد لاحظ هذه الحقيقة البازغة رودريك موركيسون (1871 – 1792م) الذي أفاد منه داروين نفسه، ولقّبه التطوري المتأخر ستيفن جاي جولد بـ"الجيولوجي العظيم"[3]، في هذا يقول موركيسون: "إن الدلائل المبكّرة على أشكال الحياة ناطقةٌ بما فيها من تعقيد وتنظيم عاليين، لتستبعد بالكلية فرضية تحوّلها بالترقي من رتبة أدنى إلى رتبة أعلى في الوجود... إنّ أمر الخلق الأول حين انبرامه قد أمَّن من دون شك للحيوانات تكيُّفا مثاليًّا مع محيطها".[4]
قبل الختام، أرشد القارئ المهتم بنقد نظرية التطور الدارويني إلى اقتراح أحسبه نافعا؛ إن الإلمام الممتاز بالقضايا المركزية في الكتاب الحالي مضمومًا إلى كتاب (تصميم الحياة)[5] كفيلٌ بأن يَمُدَّ الدارس الحريص بذخيرة علمية نقدية جبارة. فليحرص المرء على الاستفادة منهما معا.
نحمد الله وحده على تيسيره، ونسأله أن يكون من عاجل بشرى توفيقه لنا ولكل من ساهم في إخراج هذا العمل بجهد أو مال أو نصح، والله وحده المستعان وعليه التكلان، تبارك رب العالمين، أحسن الخالقين.
د. عبدالله بن سعيد الشهري
رئيس مركز براهين سابقا
الهوامش:
[1] من التقريظات التي حظي بها الكتاب على الغلاف الخلفي للنسخة الإنجليزية، ط. 1، 2013م.
[2] انظر التمهيد لهذا الكتاب.
[3] في كتابه:
Stephen Jay Gould, Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History, p56
[4] Murchison, R. (1854) Siluria: The History Of The Oldest Known Rocks, London, p. 469.
[5] تصميم الحياة: اكتشاف علامات الذكاء في النظم البيولوجية، نشره مركز براهين مترجما 2015.