لماذا هذا الكتاب؟!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
ففي بداية القرن العشرين ولدت نظرية فيزياء الكوانتم لحل إشكاليات لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تقديم إجابات لها، ومازال هذا التقدم الفريد في مسيرة الفيزياء غامضًا، لصعوبته من جهة، ولأنه ما زال في طور البناء من جهة أخرى. في تقديمه لكتاب (ست قطع سهلة) لـ (ريتشارد فاينمان)، يقول الفيزيائي (بول ديفيز): "ليس من المبالغة القول بأن ميكانيكا الكوانتم قد هيمنت على فيزياء القرن الحادي والعشرين، وأنها إلى حد بعيد أنجح نظرية علمية في الوجود".[1]
هذه العبارة وحدها كافية لتأكيد أهمية نقل هذا الكتاب إلى العربية. غير أن تشابك العلوم وتداخل المعارف يضطرنا لذكر أهمية أخرى، ألا وهي توظيفات مخرجات العلم الطبيعي في السجال الفلسفي أو اللاهوتي، مما يحتم على المشارك في هذه السجالات الإلمام بطبيعة الأفكار المستعملة في تلك السجالات، وكذلك بطبيعة اللغة التي تحكم مضامينها وإطاراتها.
إن فيزياء الكوانتم، كغيرها من النظريات التي كتب لها الاستقرار والانتشار، لها لُبٌ صلب يحوطه إطارٌ مرن؛ أما اللب الصلب فهو الجزء الثابت تجريبيّا، ذلك الجزء الذي لا يختلف عليه اثنان علميّا، مثل وقوع الطفرات (التغيرات) الجينية، فلا ينكر وجودها إلا جاهل أو مكابر. أما الإطار المرن فهو المستوى التأويلي الفلسفي أو (القراءة الميتافيزيقية) لما يزيد عن اللب الصلب أو يتجاوزه. وهو معترك للخلافات ومحل لنزاعات شتى، بما في ذلك صور النزاع الديني الإلحادي حول ما يمكن أن تدل عليه معطيات العلم في ذلك المستوى تحديدا. ونظرًا لافتقار المكتبة العربية الإسلامية لما يعين في ترسُّم سمات هذا النزاع الثلاثي الأطراف (العلم الطبيعي، الدين، الإلحاد)، ونظرًا لمركزية الجدل حول فيزياء الكوانتم في نزاع كهذا، وقع اختيار (مركز براهين) على هذا الكتاب المميز، مساهمة منه في سد تلك الحاجة، وإيمانًا بأن الحكم السديد على الأمور لابد أن يستند إلى تصور صحيح لواقع ما يجري.
يجدر بنا التأكيد على أن فيزياء الكوانتم لم تسلم من الاختطاف والاعتساف، لتتحول في كثير من الأحيان إلى ضرب من العبث بالعلم الصحيح نفسه، وفي أحايين أخرى إلى نوع من المجون الفكري الفارغ. ولو لم يكن من مثال يذكر على ذلك إلا دعوى انتحار قانون أو مفهوم (السببية) على أعتاب فيزياء (الكوانتم) لكفى به دليلًا على مستوى الانحطاط الفلسفي الذي وصل إليه العقل الإلحادي.
على أننا لا نعفي أو نبرّئ الخطاب الديني أيضًا من المشاركة في ليِّ أعناق النصوص الشرعية، تارة لتوافق المشكوك فيه من هذا العلم، أو تسليط المشكوك فيه من هذا العلم على النصوص الشرعية، مناوئةً للمخالف، أو ربما تأليفًا لقلبه واستدرارًا لودّه. وفي كل هذا إضرار بالمحكم الصحيح من الدين والعلم معا. لقد أحسن فيلسوف الوعي (كِن والبر) حين قال ذات مرة: "يوجد علم زائف مثلما يوجد دين زائف، والمعركة ذات الشأن فعلاً هي التي تنشب بين ما هو حق وزائف منهما، لا بين جنس العلم والدين". [2]
ختامًا، نحمد الله تعالى أن يسّر إنجاز هذا العمل، وأدعو الله لإخوتي في (مركز براهين) أن يثيبهم على سعيهم وصبرهم، خاصة أخي مترجم هذا الكتاب، الأستاذ الفاضل/ أسامة عباس، فقد اجتهد فأحسن في الترجمة وأجاد في التعليقات، والكمال لله وحده، والحمد لله رب العالمين.
د. عبد الله بن سعيد الشهري
رئيس مركز براهين السابق
[1] Feynman, R. (2011) Six Easy Pieces, Basic Books, p. 15.
[2] Wilber, K. (2001) Of Shadows and Symbols. In Wilber, K. (Ed.) Quantum Questions: Mystical Writings of the World's Greatest Physicists, p.20.