ملاحظة للقارئ
"أراد الإنسان منذ زمن بعيد أن يستخدم أسلوب (السبب النهائي)؛ وهو المفهوم الغائي للنهاية –الهدف أو التصميم في أحد أشكاله الكثيرة–، ليفسر بشكل أساسي ظاهرة العالم الحي. ستبقى هذه الإرادة ما بقي للبشر عيون يرون بها، أو أذان يسمعون بها. كانت طريقة غاليلو فيزيائية كما كانت طريقة أرسطو، وكانت طريقة جون ري John Ray في علم الطبيعة كما كانت طريقة أرسطو، وكانت طريقة (كانت) في علم الفلسفة كما كانت طريقة أرسطو. إنها طريقة عامة وطريقة عظيمة؛ لأنها تلمح إلى رؤية عميقة متجذرة في القلوب، كما يتجذر حب الطبيعة في قلوب البشر".
دارْسي وينتورث تومبسون، عن النمو والشكل، 1942.
الغرض من هذا الكتاب:
أولاً: تقديم الدليل العلمي للاعتقاد بأنَّ الكون ملائم وبشكلٍ فريد للحياة كما هي موجودة على الأرض، وملائم لكائنات ذات تصميم وبيولوجيا مشابهة جدًا لنوعنا؛ الإنسان العاقل Homo Sapiens.
ثانيًا: البرهنة على أن هذه (الملاءمة الفريدة) التي تبديها قوانين الطبيعة متسقة تمامًا مع المفهوم الديني القديم لوجود العلة الغائية في الكون، باعتباره مصمَّمًا بكليته –خصوصًا– لغاية وهدف أساسي؛ هو الحياة والبشر.
رغم أن هذا الكتاب –كما هو واضح– يحوي متضمنات غائية كثيرة، إلا أن قصدي بداية لم يكن البرهنة على وجود النظام (التصميم) بالذات، لكن مع تعمقي بالبحث في الموضوع وخلال مراجعة المسودات المتتالية لمخطوط الكتاب، اتضح بجلاء أن قوانين الطبيعة مضبوطة بدقة متناهية لتناسب الحياة على الأرض، وقَدمت الصورة التي نشأت عن البحث دعمًا قويًّا لا يحتاج لبرهان إضافي يؤيد النظرة التقليدية إلى الكون والمتصفة بالنظرة الغائية، والمؤمنة بمركزية الإنسان. هكذا بعد الانتهاء من المسودة الأخيرة تحول الكتاب عمليًّا إلى بحث في اللاهوت الطبيعي، بما يتفق مع روح وتراث كتاب اللاهوت الطبيعي Natural theology لوليم بيلي William Paley، أو أطروحات Bridgewater.
إن أطروحة الكتاب الأساسية –أن هذا الكون مناسب بشكلٍ فريد للوجود الإنساني– ليست مبتكرة بالطبع، فقد كانت هذه الأطروحة قبل ولادة العلم الحديث بقرون تشكل المحاور الأصولية لمسيحية القرون الوسطى، وقد عاد هذا الطرح مؤخرًا للظهور في حقول علمية مختلفة، أكثرها لفتًا للنظر حقلي الفيزياء والكونيات. ولا ريب أن القراء الذين ألفوا آراء الفيزيائيين أمثال فريمان دايسون Freeman Dyson وفريد هويل Fred Hoyle وبول ديفيز Paul Davies يدركون أن كثيرًا من الفيزيائيين في العقود القليلة الماضية قد أشاروا إلى أن وجود الحياة في الكون معتمد بدقة على محافظة "قوانين وثوابت الفيزياء" على قيمها الحالية بالضبط، وأن هذه القيم حرجة لدرجة جعلت عددًا من المؤلفين المشهورين يقولون بأنَّ الكون يبدو من كل وجه مضبوطًا بدقة متناهية أو أنَّه مصنوع ليناسب وجودنا.1 وكما يشير بول ديفيز في كتابه الكون بالصدفة Accidental Universe: "لو مالت الطبيعة لاختيار مجموعة مختلفة قليلًا من الأرقام فسيغدو العالم مكانًا مختلفًا جدًا، وربما ما كنا هنا لنراه"، وحسب تعبيره: "فإن بصمات التصميم في كل مكان".2 وقد لاقت آراء ديفيز والعلماء الآخرين شعبيةً واسعة نظرًا لدعمها الملحوظ للرؤية التقليدية الغائية للعالم والموجودة في التقاليد الدينية الكبرى.
تعترضنا مشكلة جوهرية عند أي محاولة للبرهنة على مركزية الحياة أو الإنسان في الطبيعية اعتمادًا على دليل مأخوذ من الفيزياء فقط، فحتى إن كان هذا الدليل كافيًا للبرهنة على قَدَرِ الكون بأن يلائم الكيمياء المعقدة، أو الأنظمة الشمسية، أو حتى الذكاء، لكنه غير كافٍ بالضرورة للبرهنة بطريقة ما على أن الكون يناسب بشكل فريد هذا النمط الخاص من الحياة البيولوجية بشكلها الموجود الآن على الأرض، أي أنه وُجد ليلائم كائنات مبنية من مركبات كربونية تعتمد الماء وتستعمل الـDNA والبروتينات لنسخ ذاتها، وهنا يعجز الدليل الفيزيائي تمامًا عن تقديم أي دعم لفكرة أن نوعنا، الإنسان العاقل، له أي مكانة خاصة في هذا الكون.
حاول ديفيز بعناية إبعاد نفسه عن أي ادِّعاء لمركزية الإنسان في النظام الكوني: "أين تقع الكائنات البشرية في هذه الخطة الكونية العظيمة؟ هل بإمكاننا التأمل بعيدًا في الكون كما فعل أسلافنا ثم نعلن بأن الله خلقه كله لنا؟ لا أعتقد ذلك".3 وفي آخر كتاب صدر له أعلن بشكل صريح بقوله: "لا أقول إننا (الإنسان العاقل) مكتوبون في قوانين الفيزياء بشكل جوهري"4، ويتابع قائلًا: "يجب ألا نتوقع تشابه الأساس الكيميائي بين حياتنا والحياة الفضائية... فليس من الضروري مثلًا المطالبة بوجود الماء السائل أو حتى الكربون. فلنا أن نتوقع أشكالًا غريبة من الحياة ككائنات تطوف في الجو الكثيف لكوكب المشتري، أو تسبح في بحار النتروجين السائل في تيتان[1]".5
خلافًا لديفيز والآخرين أعتقد أن الدليل يشير بقوة إلى أن الكون يلائم وبشكل فريد نمطًا واحدًا فقط من البيولوجيا –تلك الموجودة على الأرض– وأن ظاهرة الحياة لا يمكن أن تنشأ من أي كيمياء غريبة أو بصنف غريب من أشكال المادة. بل أمضي أبعد من ذلك لأعتقد بوجود قدر كافٍ من الأدلة يفرض علينا الإيمان بأن الكون ملائم وبتفردٍ لنمطٍ واحدٍ فقط من الحياة الذكية المتقدمة –أي لها تصميم وبيولوجيا مشابهة جدًا لنوعنا (الإنسان العاقل)–، وأخالف ديفيز بادِّعائه: "ربما لا يكون للأنواع الجسدية المسماة بالإنسان العاقل أي معنى".6
والدفاع عن فرضية مناسبةِ الكون خصوصًا للحياة البيولوجية التي توجد على الأرض، يستلزم النظر في عدد واسع من القوانين والظواهر والعمليات الطبيعية، التي تخرج تمامًا عن مجالات الفيزياء والكونيات، وتتعلق حصرًا بالحقل البيولوجي، فظواهر كالخصائص الحرارية للماء، ومواصفات ذرة الكربون، وانحلالية ثنائي أكسيد الكربون، وخصائص التجميع الذاتي للبروتينات، وطبيعة الخلية، وغيرها. ورغم إمكانية الاستدلال بملاءمة الكون المتفردة للكيمياء والكواكب والنجوم، بل وحتى الكائنات الذكية، بالاعتماد على الدليل الفيزيائي، إلا أن من غير الممكن الاعتماد عليه لنستدل بأنه ملائم نوعيًا للثدييات الأرضية الكبيرة التي تتنفس الهواء. لكننا نستطيع في البيولوجيا فقط أن نجد دعوى مركزية نمط حياتنا الفريد المعتمد على الكربون (وبالأخص الأشكال المتطورة منها كحالتنا) في الخطة الكونية.
هذا الكتاب مقسوم إلى جزأين رئيسيين: يعرض أولهما الدليل على أن قوانين الطبيعة تناسب وبشكلٍ فريد صيرورة أو وجود نمط الحياة المعتمدة على الكربون الموجود على الأرض، وتناولَت فصول هذا الجزء أدلةً من مختلف مجالات العلوم البيولوجيّة، من البيولوجيا الجزيئية إلى فيزيولوجيا الثدييات. وجرت مراجعة الخصائص الكيميائية والفيزيائية للمكونات الأساسية للخلية منهجيا كالماء وثنائي أكسيد الكربون ودارئة البيكربونات والأوكسجين والـDNA والبروتينات والمعادن الانتقالية وغشاء الخلية... إلخ، ذلك لنبرهن على أن وجود الحياة الخلوية المؤسسة على الماء والكربون يعتمد وبشكل حاسم على عددٍ من التكيفات الجديرة بالملاحظة في خصائص كثير من المكونات الأساسية للحياة، والذي يثير الدهشة بالأخص أن كل مكوّن يبدو –وفي كل حالة تقريبًا– المرشح المتاح الأوحد لهذا الدور البيولوجي المحدد، بل نجده أكثر من ذلك يبدي كل مظاهر ملاءمته المثالية، إذ لا ينحصر ذلك بصفة أو صفتين، بل يشمل كل صفاته الفيزيائية والكيميائية. كما خضع للمراجعة أيضًا الدليلُ المستقى من المجالات العلمية الأخرى والتي تشهد بملاءمة الغلاف المائي للأرض، وملاءمة الإشعاع الكهرومغناطيسي للشمس، وملاءمة جدول العناصر الدوري لنمط الحياة المعتمدة على الكربون كالتي على الأرض. ويُظهر الكتاب أيضًا أن وجود بعض الأشكال الراقية من الحياة –كالفقاريات البرية الهوائية الكبيرة ذات الدم الحار– يعتمد بشكل حاسم على خصائص بعض المكونات الرئيسية للحياة كالماء، وثنائي أكسيد الكربون، والأكسجين. بعبارة أخرى، لا تلائم قوانين الطبيعةِ الخليةَ والحياةَ الميكروبية البسيطة فقط، بل تلائم الكائنات المتطورة المعقدة مثلنا أيضًا.
إن البرهان الذي جئنا به في الجزء الأول للاستدلال على ملاءمة الكون الفريدة لصيرورة الحياة، سيقودنا بشكلٍ طبيعي إلى البرهان التالي الذي بيّنّاه في الجزء الثاني؛ وهو أنَّ الكونَ ملائمٌ أيضًا لبدء الحياة وتطورها صُعُدًا، أي لنشأة الحياة. من الصعب الهرب من منطقية هذا الارتباط، لأننا إنْ قبلنا البرهان الأول على وجود أشكال الحياة على الأرض –الصغروية والكبروية– بناءً على المجموعة الرائعة من التكيفات الفيزيائية والكيمائية التبادلية في طبيعة الأشياء، فمن الصعب أن نرفض البرهان الثاني على أن الترقي التطوري لهذه المجموعة نفسها من أشكال الحياة مكتوب أيضًا في السجل الكوني، وموجِّهٌ منذ البداية.
أو لنعبر عن هذا بطريقة أخرى، إن كانت قوانين الطبيعة مضبوطة بدقةٍ متناهية –لتسهل صيرورة الحياة على شكل مجموعة فريدة من الكائنات الحية المعتمدة على الكربون، البسيطة منها والمركبة على حد سواء– على سطح كوكب الأرض البرمائي، فمن المقبول منطقيًّا أن تكون نشأة هذه الكائنات عبر عملية التطور قد حددت عبر قانون طبيعي أيضا.[2]
من المؤكد أن دليل ملاءمة الكون الفريدة لصيرورة الحياة مقنعٌ حاليًا أكثر من دليل ملاءمة الكون لنشأة الحياة. على كلٍ، ورغم غياب الدليل المباشر اللازم للاعتقاد بأن نشوء الحياة مقدَّر سلفا في بنية الكون، إلا أن الكثير من ملامح الكون تبدو مبرَّرة منطقيًّا إن كان نشوء الحياة مبرمَجًا مسبقًا بطريقة ما ضمن قوانين الطبيعة. إنَّ وقائعَ تحدث في الكون –مثل تصنيع الكربون وغيره من الذرات الأساسية للحياة، والأعقد منها في نجوم الكون بعمليات معقدة–، والفراغ ما بين النجوم يحوي كميات هائلة من مركبات الكربون العضوية7، وإنّ نيازك كنيزك مورشيسون Murchison الذي يحوي كميات معتبرة من الحموض الأمينية8 –وهي لبنات الحياة–، وإنّ كواكب كالأرض ربما تدعم حياة معتمدة على الكربون –إن لم تكن في كل مكان من الكون9–، كل هذه الحقائق تفرض منطقًا قويًّا في حال كانت الحياة ظاهرة طبيعية مبرمجة منذ البداية في الطبيعة، وقُدّر لها حتمًا أن تظهر وتتطور على أي بيئة كوكبية ملائمة.
لا يمكننا أن ندافع ونقنع بدعوى أن مكونات الحياة مصممة بشكلٍ فريد لتلائم أدوارها التي تقوم بها، إلا بمناقشةٍ مفصلةٍ للحقائق العلمية ذات الصلة، وهذا يصحُّ في أي عمل مشابه للبرهنة على العلة الغائية.
فمثلًا، لن يكون البرهان مقنعًا بأن مكونات ساعة اليد مصممة كلها نوعيًّا لتعمل معًا وتعطي الوقت إلا إن استوعبنا قليلًا بنية وعمل تلك الساعة، يجب علينا أن نفتح ساعة اليد ونراقب الآليات داخلها، وبالأخص الملاءمة التبادلية لأسنان التروس المختلفة مع بعضها البعض، وعلينا أن ندرك شيئًا ما عن طريقة عمل التقنية بشكلٍ عام. نحتاج إلى أن نفهم بشكل واضح ما أكده ويليام بيلي في مقولته المشهورة (discourse) بخصوص ساعة اليد: "إن رتبت أجزاء الساعة بشكل مختلف عما هي عليه"، فلن تعمل مطلقًا.10 ويصح هذا الاستدلال أيضًا في مناقشة أن أجزاء الكون تلائم الحياة بشكل فريد، إذ لا يتم هذا الاستدلال إلا إذا كنا نملك شيئًا من المعرفة عن الآليات الخلوية، وبعض الإدراك للتكيفات الكثيرة المتبادلة reciprocal adaptations في طبيعية أجزاء الكون ومكوناته التي تتيح للحياة الوجود. لهذا السبب فإن عرض الدلائل في كتاب من هذا النوع ليس أمرًا هينًا، يعود ذلك لتعذر التقدير الدقيق لطبيعة هذه التكيفات المتبادلة إلا بعرض مفصل وعميق نسبيًّا للحقائق العلمية المتصلة بها.
رغم الطبيعة التخصصية لكثير من أقسام الكتاب، لكنني أعتقد بقدرة الذين يملكون معلومات بيولوجية وكيماوية من مستوى الدراسة الثانوية على فهم معظم المواضيع المذكورة، بل يمكن للقارئ الملتزم الذي لم يحصل على أي تدريب علمي أن يفهم معنى الدليل في معظم فصول الكتاب، وإنِ اضطره هذا بالمحصلة أن يتجاوز بعض الأقسام الأكثر تعقيدًا من الناحية الفنية، لأن بعض الفصول تحتاج لقليل من الثقافة العلمية. وقد قدَّمت في معظم الفصول استهلالًا يمكن فهمه باليسير من المعرفة المتخصصة، وحاولت في مقدمات الفصول تقديم شرحٍ للسمة الرئيسية لكل منها.
وحاولت أيضًا ترتيب عرض الأدلة، لتشكل عدة فصول وحدة مستقلة نوعًا ما، فيمكن للقارئ بالتالي أن يفهمها دون إحالته إلى بقية الفصول من الأقسام الأخرى أو للاستدلالات التي فيها، وأرجو أن يقرب هذا الأمر الكتابَ للقارئ غير المختص. أخيرًا، وكما نبهت مسبقًا، يبتدئ كل فصل بملخص مكتوب بخط مختلف، مما قد يتيح للقارئ غير المختص تجاوزه.
إضافة لهذا الأمر، وكما في البراهين المماثلة، ونظرًا لتأصل الطبيعة التراكمية في البرهان الذي يأخذ قوته من تزايد عدد التكيفات المشاهدة، نشأتْ ضرورة عرض أكبر عدد ممكن من هذه التكيفات ومناقشتها، والبرهان كفيل بالإقناع بعرضه عددًا كبيرًا من الاستدلالات المستقلة التي استقيت كل واحد منها من عدد كبير من المجالات العلمية المختلفة، بحيث تشير جميعها إلى الوجهة نفسها، هذا الأمر يقحمنا في شيء من التكرار، مما يسبب مشكلة لبعض القراء، لكن التكرار نفسه هو روح خطة الهجوم الشامل.
ونظرًا لارتكاز صلاحية الاستدلال على كثرة الطرق المستقلة كمصدر للدليل، فإن الاستنتاج المتحصل ثابت، ولا يُهدد وجوده ردٌّ من قبيل أن الصورة الكلية غير مكتملة بعدُ، أو أن هذه الظاهرة أو تلك بما يخص "نشوء الحياة أو آلية التطور" لمَّا تُفهم بعدُ. يشبه هذا الأمر اتضاح الصورة الكلية لأحجية صورة مقطعة قبل اكتمال وتمام أجزاء الصورة المركبة بفترة طويلة، لذلك فلا يلزم للبرهان الذي أذكره في هذا الكتاب أن يفسر كل شيء.
رغم هذا، فلا ريب أن أمام النقاد طريقًا متسعة للهجوم المضاد، فلهم أن يجادلوا بأني كنت انتقائيًّا في اختيار المواضيع التي ناقشتها، وهم محقّون، لكنّ مسؤولية نقد الدليل هنا تقع على كاهلهم، إذ عليهم أن يبينوا لنا مجالًا قد أهملته يسمح بطريقة ما لإمكانية ظهور حياة مغايرة للحياة الأرضية في الكون، أو عليهم أن يطرحوا بديلًا أفضل لأحد عناصر الحياة كالماء مثلًا أو ثنائي أوكسيد الكربون... إلخ. وربما يجادلون أيضًا بأن موقفي يعكس نقصًا في المخيلة لا غير، لهذا لم أناقش وجود بدائل محتملة بالعمق الكافي، وهنا أعود لأقول إن عبء الإثبات يقع عليهم أيضًا ليقدموا لنا هذه البدائل المحددة، إذ إنني لا أرى وجهًا لاتهامي بإهمال مناقشة احتمال وجود أشكال بديلة للحياة تعتمد على السيليكون أو النشادر السائل، أو من مجال التقانة النانوية، لأن أحدًا لم يطور أية نماذج أولية تفصيلية لمثل هذه الأشكال النظرية.
من النادر أن نرى الاهتمام والنقاش يدور حول قضية ملاءمة الكون للحياة ضمن الخط العام للبيولوجيا منذ أيام الثورة الداروينية، بل إن الفكرة لم تلقَ رواجًا في الواقع في الكثير من تجمعات العالم الناطق بالإنكليزية. لكن الاهتمام بهذه القضية لم يختفِ بالكلية، فخلال القرن العشرين بقي هذا التقليد حيًا عند عدد من أساطين علماء البيولوجيا، مثل لورنس هندرسن أستاذ الكيمياء البيولوجية في جامعة هارفرد خلال الربع الأول من القرن العشرين، الذي ألف الكتاب الكلاسيكي العظيم (ملاءمة البيئة The Fitness Of Environment، 1913)ـ11، والعالم دارسي وينتورث تومسون مؤلف الكتاب الكلاسيكي العظيم الآخر (عن النمو والشكل On Growth and Form، 1942)ـ12، ومنهم جورج والْد George Wald أستاذ البيولوجيا في هارفرد في عقدي الخمسينات والستينات، ومكتشف دور فيتامين أ في الرؤية، وهو الذي يعد أيضًا مرجعًا رئيسيًّا في كيمياء الاستقبال الضوئي13، منهم كذلك أ. إي. نيدهام A. E. Needham عالم الحيوان ومؤلف الكتاب الممتاز والمراجعة الشاملة (تفرد المواد البيولوجية The Uniqueness of Biological Materials، 1965)14، ومنهم أيضًا كارل بانتين Carl Pantin أستاذ علم الحيوان في كمبردج ومؤلف الكتاب واسع الانتشار (الصلات بين العلومThe Relations Between The Sciences)، الذي صدر عام 1968.ـ15
تستند الفصول التي ذكرت فيها خصائص الماء والكربون والأوكسجين وثنائي أوكسيد الكربون في كتابي هذا بشكلٍ كبير على كتاب (ملاءمة البيئة) لهندرسن، بل يمكن اعتبارها ولدرجة كبيرة النسخة المحدثة لهذا العمل الكلاسيكي العظيم، وذلك وفق المعلومات المعاصرة، والمصدر الذي يليه أهمية، والذي أشرت له في عدد من الفصول، هو كتاب نيدهام (تفرد المواد البيولوجية).
وهنالك كتاب حديث أدعو لمقارنته بكتابي، وهو كتاب المؤلف ستوارت كوفمان Stuart Kauffman (في منزلنا من الكون at home in The Universe) وقد حاول فيه إثبات كون الجزء الأكبر من مسيرة التطور قد حددتها وقادت سيرها خصائص التنظيم الذاتي الناشئة في النظم المعقدة.16 ولا ريب أن نتائج كوفمان فيها أكثر من مجرد تلميح بالعلة الغائية، واستنتاجه العام متسق مع ما وصلتُ إليه، عند ادِّعائه قائلًا على سبيل المثال: "علينا أن نرى أننا بأجمعنا تجلياتٌ طبيعية لنظام أعمق، وسنكتشف ختامًا في قصة خلقنا أن المشهد ينتظرنا على كل الأحوال".17 وأيضًا في قوله: " قد نكون في الكون كأننا في بيتنا بطرق بالكاد بدأنا بفهمها".18
هنالك كتاب آخر يستدعي المقارنة، وهو (الغبار الحيوي Vital Dust) لمؤلفه –الحائز على جائزة نوبل– البيولوجي كريستيان دي دوف Christian de Dove، واختار الكاتب أيضًا موقفَ المحبّذ لكون ذي معنى meaningful universe، وجادل عن قضية ملاءمة الكون لنشأة وتطور الحياة، وناصر حتمية تقدم عملية التطور من أشكال الحياة البسيطة إلى المعقدة بالمجمل، لكن موقفه بعيد جدًا عن موقف مناصري النظرة التقليدية لمركزية الإنسان في الكون، إذ لم يناقش –ولو مرورًا– ملاءمة قوانين الطبيعة بشكلٍ فريد لبيولوجيا أشكال الحياة العليا التي تتنفس الهواء كالبشر، كما أنَّه لم يناقش البتة مسألة توجه النموذج التطوري خصوصًا نحو الجنس البشري، أما فيما يخص مكانة الإنسان في الكون فقد اختتم دي دوف الفصل الأخير بقوله: "قد يكون العقل البشري مجرد فرع جانبي في ملحمة تطور لم تنته بعد".20
ولأن كتابنا هذا يقدِّم تأويلًا غائيًّا للكون له تبعاته الفكرية الواضحة، فمن المهم بداية أن نؤكد أن الاستدلال المقدَّم هنا متسق بكليته مع اعتبار طبيعية العلم الحديث؛ أي أن الكون وحدة متصلة يمكن أن تفهم محصلتها بالكلية عبر المنطق الإنساني، وأن كل الظواهر، بما فيها الحياة والتطور ومنشأ الإنسان، يمكن تفسيرها بالنهاية بالمصطلحات العلمية الطبيعية.
هذا الافتراض يعاكس تمامًا ما يسمى مدرسة الخلق الخاص special creationist school، لأن الكائنات الحية لا تعد وفق نظرية الخلق الخاص أشكالًا طبيعية ذات منشأ وتصميم بُنيا على قوانين الطبيعة بدايةً، لكن يُنظر لها بأنها أشكال طارئة، تشبه بالمفهوم مصنوعات الإنسان، وهي محصلة سلسة من الأفعال غير الطبيعية التي تشمل التدخل الإلهي المباشر في سير الطبيعة، وكل منها يشمل تعطيل قانون الطبيعة. خلافاً لموقف المنادين بنظرية الخلق فإن كل الاستدلال المقدم هنا يعتمد بدقة على الافتراض المسبق باستمرارية غير منقطعة للعالم العضوي –أي على حقيقة التطور العضوي–، وعلى الافتراض المسبق بأن كل المتعضيات الحية على الأرض هي أشكال طبيعية بأعمق مفهوم للكلمة، ولا تقل طبيعيةً عن بلورات الملح أو الذرات أو شلالات المياه أو المجرات.[3]
بالتالي، وعلى نطاق أوسع، يتنافى الاستدلال الغائي المقدم هنا مع وجهة النظر الكونية القائمة على الخلق الخاص، ونجد في التحليل النهائي أن الدليل المثبِت لإحداهما هو الدليل المعاكس للأخرى، وكلما ازداد الدليلُ قوةً لنؤمن بأن العالم مصمم مسبقًا لغاية محددة هي الحياة، وأنَّ التصميم مؤسس على قوانين الطبيعة، قَلَّتْ مصداقيةُ النظرة الكونية المستندة إلى نموذج الخلق الخاص.
من المفارقات أنَّ كلاهما –أعني النظرة الكونية الداروينية والنظرة الكونية القائمة على الخلق الخاص– يعملان على محور أساسي واحد، هو أن الحياة ظاهرة عرضية طارئة، غير ضرورية ولا أساسية، في حين يرى المنادي بفكرة الخلق الخاص الكائناتِ الحية مصنوعات للإله المهندس –لصانع الساعات الإلهي– يرى المؤمن بالداروينية الكائنات منتجات للصدفة والانتقاء، وكلا النظرتين تريان الحياة طارئة. من غير المستغرب أن نلاحظ أن كلا المذهبين تطورًا في بداية القرن التاسع عشر في أوج عصر الآلة، حيث اعتُبرت الكائنات الحية مشابهة للآلات بطريقة ما. إذن، إذا كان تصميم الحياة مدرجًا في قوانين الطبيعة، وكانت سبل التطور الرئيسية مقدّرة غالبًا منذ البداية، فمن الواضح أن نظرة الخلق الخاص والنظرة الداروينية لا ترسمان نموذجًا صالحًا للطبيعة. وقد لا يلقى البرهان الذي عرضته إعجاب بعض علماء اللاهوت المتحررين لأسباب مختلفة تمامًا، فالتفكير الديني الأكاديمي في القرن العشرين هجر تمامًا اللاهوت الطبيعي التقليدي، وكثير من هؤلاء الأكاديميين يرى أن "الافتراضات الدينية والافتراضات العلمية تقعان في مساحات معرفية (إبستمولوجية) مختلفة. وهكذا بنى التقليديون الجدد neo–orthodox الجدار بين الدين والعلم".21 وقد استكشف مؤخرًا بعض علماء اللاهوت المتحررين علاقة العلم باللاهوت22، ووِفق كلمات آرثر بيكه Arthur Peacke: "خلق الله العالم بما نسميه (الصدفة) التي تعمل وفق النظام المقدر من الخالق".23 مع هذا فلم أجد أيّة محاولة جادة منهم لتقديم فكر لاهوتي طبيعي بجانب الخطوط التقليدية، بل إنهم ليعترضون حتى على المصطلح نفسه. وكانت غاية جهودهم إظهار كيفية الإيمان بالله وقبول نتائج العلم في نفس الوقت، ولم يكن عملهم للاستدلال على أن حقائق العلم تثبت أن قوانين الطبيعة مقدرة مسبقًا وبشكل فريد لتمهد لإيجاد الحياة على الأرض بما فيها الأشكال المعقدة كنوعنا.
هناك نقطة أخيرة لابد لي من توضيحها في بداية الكتاب، هي أنني أستعمل مصطلح مركزية البشر Anthropocentric في نص الكتاب بمعناه العام المجرد. كما أن الغايات الكونية التي تصورتها هي أشكال حياتية متطورة تعتمد على الكربون من أشباه البشر، وليس بالضرورة نوعنا الفريد العاقل بالأخص، ولا يوجد حاليًا دليل يفي بالبرهنة على أن قوانين الطبيعية ملائمة بشكل فريد ودقيق لكل تفاصيل البيولوجيا الإنسانية كما نراها في نوعنا اليوم، لكنني أعتقد بأن الدليل المعاصر يشير إلى هذا الاتجاه بقوة، وأعتقد أن التطورات العلمية المستقبلية سوف تؤكد المركزية المطلقة للجنس البشري ضمن الخطة الكونية.
وكتحليل أخير نقول: إن الرؤية الغائية التي أقدِّمها وأدافع عنها في هذا الكتاب نافعة علميًّا؛ لأنها تقدم معرفة علمية مرتبطة بالوجود البشري، يُوحَّدُ العلمُ الحديث بها الكون والإنسان وفق المذهب الغائي، وتجعل متابعة المعلومات العلمية لها أكثر من قيمة عملية مجردة، فهي حيوية ومركزية لحياة الإنسان الروحية والثقافية.
مايكل دنتون
دانيدن، نوفمبر 1996
الهوامش:
[1] قمر يتبع كوكب بلوتو. (المترجم)
[2] يقسم الصراع الحالي في مسألة نشأة الحياة وتطورها الغربيين إلى فرعين رئيسين: الأول مادي دهري يقول بالصدفة العشوائية التي أدَّت إلى النظام الفائق (الحياة). والثاني يقول بوجود نظام للكون له غاية، وتكمن وراءه قوة حكيمة عالمة. هذا الموقف الثاني يتفرع إلى فروع شتى، منها ما يقول بحرفية سفر التكوين من التوراة، ومنها ما يعتقد بالخلق دون النظر إلى حرفية النصوص، ويختلف القائلين بالخلق على درجات؛ منهم من يقول بالتطور كآلية من آليات الخلق، وأقلهم تعرضًا للنصوص الدينية هم دعاة التصميم الذكي، أو النظام الحكيم في الكون، ويعدُّ هذا الكتاب نموذجًا لتيار التصميم الذكي الذي ينتشر في الطبقة المثقفة في العالم الغربي. (المترجم)
[3] إن نظرية الخلقوية توجه غربي ذو أصول مسيحية، وله ملامح محددة، منها على الأغلب حرفية الالتزام بالنص التوراتي، وفي لقاء تلفزيوني مع دنتون صرَّح بأنه يدفع التأويل والتفسير العلمي لأقصى غاية ممكنة، ولا ينكر إمكانية وجود أمور نعجز عن تفسيرها. ومن الجدير بالذكر وجود تناقض بين النظرية الغائية المحترِمة لقانون الطبيعة والنظرية الدينية الخاصة التي ترى في خرق القانون الطبيعي ضرورة لإثبات وجودها، وهذا أكثر ظهورًا في الفكر الغربي، في حين أن النظرة الإسلامية ترى من النظام الطبيعي في الكون والعلة الغائية فيه أحد الأسس الفكرية الدينية لدرجة تسميته بالدليل العقلي أو دليل النظام على أن الكون مخلوق وله خالق أبدعه. (المترجم)
المصادر:
1. P. C. W. Davies (1982) The Accidental Universe (Cambridge: Cambridge University Press). See also J. D. Barrow and F. J. Tipler (1986) The Anthropic Cosmological Principle (Oxford: Oxford University Press).
2. Davies (1982); see Preface.
3. P. C. W. Davies (1995) "Physics and the Mind of God," the Templeton Prize Address, First Things, August-September, pp. 31-35.
4. P. C. W. Davies (1995) Are we Alone? (London: Penguin Books), pp. 70. 85.
5. Ibid.; see p. 25.
6. P. C. W. Davies (1992) The Mind of God (London: Penguin), p. 232.
7. F. Hoyle and C. Wickramasinghe (1996) (London: Orino Books); see chap. 4.
8. S. L. Miller and L. E. Orgel (1996) The Origins of Lift on the Earth (Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall); see chap. 15.
9. S. v. W. Beckwith and A. 1. Sargent (1996) "Circumstellar Discs and the Search for Neighboring Planetary Systems," Nature 383: 139-144.
10. W. Paley (1807) Natural Theology (London: Faulder & Son).
11. L. Henderson (1958) The Fitness of the Environment (Boston: Beacon Press).
12. D'Arcy W. Thompson (1952) On Growth and Form, 2nd ed. (Cambridge: Cambridge University Press).
13. G. Wald (1964) "The Origins of Life," Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America (hereafter Proc. Natl. Acad. Sci. USA), 52:594-611, see pp.600-601.
14. A. E. Needham (1965) The Uniqueness of Biological Materials (Oxford: Pergamon Press), pp.9-10.
15. C. F. A. Panrin (1968) The Relations Between the Sciences, eds. A. M. Pantin and W. H.
16. Thorpe (Cambridge: Cambridge University Press); see Appendix 1 entitled "Life and the Conditions of Existence," pp. 129-154, and see pp. 14S-152. See also C. F. A. Panrin (1951) "Organic Design," Advancement of Science 8(29): 138-150.
17. S. Kauffman (1995) At Home in the Universe (New York: Oxford University Press).
18. Ibid., p. 112. IS. Ibid., p. 92.
19. C. de Duve (1995) Vital Dust (New York: Basic Books).
20. Ibid., p. 301.
21. K. E. Yandell (1986) "Protestant Theology and Natural Science in the Twentieth Cen- tury," in God and Nature, ed. D. C. Lindberg and R. L. Numbers (Berkeley: University of California Press), pp. 448-471; see pp. 468-469.
22. A. Peacocke (1979) Creation and the World of Science (Oxford: Oxford University Press). See also A. Peacocke (1993) Theology for a Scientific Age (London: SCM Press); and D. J. Bartholomew (1984) God of Chance (London: SCM Press).
23. Peacocke (1993), p. 119.