تمهيد
أثناء سنوات دراستي كطالب جامعي في العلوم الفيزيائية، ومن بعدها كطالب دراسات عليا في العلوم البيولوجية في جامعة كاليفورنيا بيركلي، كنت تقريبا أصدق كل ما أقرأه في المراجع. كنت أعلم أن الكتب تحتوي بعض الأخطاء المطبعية والقليل من الأخطاء الحقيقية، وكنت متشككا في الادعاءات الفلسفية التي تتجاوز الدليل، ولكني ظننت أن معظم ما كنت أتعلمه حقيقة مطلقة.
ومع ذلك، وبينما كنت أنتهي من الدكتوراه في البيولوجيا النمائية والخلوية، لاحظت أن كل المراجع المتعلقة بالبيولوجيا التطورية تحتوي على تزوير فاضح؛ رسومات أجنة الفقاريات المنشورة، تُظهِر تشابهات يفترض أنها دليلا على الانحدار من سلف مشترك، ولكني كمختصٍ في علم الأجِنَّة كنت أعلم أن تلك الرسومات مزيفة. ليس فقط حرفوا الأجنة التي عرضوها، بل أيضا أغفلوا ذكر المراحل المتقدمة التي تبدوا الأجنة فيها مختلفة عن بعضها البعض.
تأكدت من تقييمي لرسومات الأجنة في 1997م، حينما نشر عالم الأجنة البريطاني (مايكل ريتشاردسون Michael Richardson) وزميله مقالا في مجلة (التشريح وعلم الأجنة Anatomy and Embryology) لمقارنة الرسومات المنشورة في الكتب الدراسية بالأجنة الحقيقية. اقتبس كلام ريتشاردسون وقتها بجدارة في أبرز مجلة علمية (العلوم Science): "يبدو أنه اتضح أنها من أكثر الأكاذيب شهرة في علم الأحياء".
ولكن إلى الآن، ما زال أكثر الناس يجهلوا تلك الحقيقة، وحتى الكتب الدراسية المنشورة بعد 1997م استمرت في نشر تلك الرسوم المزيفة. منذ وقتها، اكتشفت أن العديد من رسومات المراجع والكتب الدراسية تحرف الأدلة لصالح التطور أيضًا. في البداية، استعصى علي تصديق الأمر. كيف يمكن لكل تلك المراجع أن تحتوي على كل تلك التحريفات لكل هذا الوقت؟ لماذا لم تُلاحظ من قبل؟ ثم اكتشفت أن علماء أحياء آخرين لاحظوا الكثير من ذلك، وانتقدوه بالفعل في كتبهم. ولكن انتقاداتهم تم تجاهلها.
هذا النمط مستمر، ويشير إلى أكثر من مجرد خطأ عادي. فهو على أقل تقدير، يشير إلى أن الداروينية تشجع على تحريف الحقيقة. عدد التحريفات التي حدثت بدون قصد، وعدد التي حدثت عن عمد، يظل أمرًا يستحق النظر. ولكن النتيجة واضحة؛ الطلاب والعامة يتم إمدادهم –بشكل ممنهج– بالمعلومات الخاطئة حول أدلة التطور.
هذا الكتاب، هو عن تلك الأدلة. ولتوثيقها، أقتبس من الأعمال المراجعة من قبل الأقران لمئات العلماء، الذين يؤمن الكثير منهم بالتطور الدارويني. وحين أقتبس منهم، فهذا لا يعني أني أريد إظهارهم كرافضين لنظرية داروين، فأكثرهم بالفعل لا يرفضها. وإنما اقتباسي لهم سببه أنهم خبراء في تلك الأدلة.
تجنبت اللغة التقنية قدر ما استطعت، ولكن لهؤلاء الذي يودون الاطلاع على المزيد من التفاصيل، أدرجت في نهاية الكتاب ملحوظات موسعة للإحالة للمراجع العلمية. وبالطبع ليس المقصود من الملحوظات جعلها حصرية –باستثناء ذكر لائحة مصادر الاقتباسات–، ولكن الهدف مساعدة القراء الذين يرغبون التوسع في تعقب القضية.
أتبعت الأيقونات بملحقين؛ الأول يقيم منتقدا عشرة مراجع بيولوجية واسعة الاستخدام في الجامعات والمدارس الثانوية، والثاني يقترح عبارات تحذيرية –كتلك المستعملة على علب السجائر– ربما ترغب المدارس بوضعها على المواد التدريسية للتحذير من تلك التحريفات.
تفضل علي الكثير بالمراجعة والتعليق على مخطوطة الكتاب. من هؤلاء الذي ساعدوني في التفاصيل التقنية لأقسام أو فصول معينة: ليديا مجرو (المقدمة)، دين كينيون ورويال ترومان (تجربة يوري ميلر)، جون ويستر (الانفجار الكامبري في فصل شجرة الحياة لداروين)، وُ. فورد دوليتيل (علم تطور السلالات الجزيئي في فصل شجرة الحياة لداروين)، براين كِ. هال (التشابه في أطراف الفقاريات)، أشبي كامب وآلان فيدوتشا (أركيوبتركس)، ثيودير دِ. سارجنت (العث الإنجليزي المنقط)، توني جيلسما (عصافير داروين)، إدوارد بِ. لويس (علم وراثة الطفرات الثلاثية في فصل ذباب الفاكهة رباعي الأجنحة)، جيمس جراهام (أصل الإنسان في فصل الأيقونة العظمى).
ذكري لهؤلاء هنا لا يعني أنهم يتفقون مع آرائي. على العكس، الكثير منهم سوف يختلف مع الاستنتاجات والتوصيات التي قدمتها. ولكن بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الرائعين، العلم هو البحث عن الحق، وأنا مدين لهم لمساعدتي للحصول على الحقائق مباشرة. وبالطبع، أي خطأ ربما يكون قد بقي، فهو مني وليس منهم.
أما عن هؤلاء الذين صبروا على القراءة والتعليق على أجزاء كبيرة من محطوطة الكتاب، فمنهم (بالترتيب الأبجدي): توم بيثيل، روبرتا تي. بيدينر، بروس تشبمان، ويليم ديمبسكي، ديفيد كِ. ديوولف، مارك هارتويج، فيليب جونسون، بول نيلسون، مارتن باويني، جاي ويزلي ريتشاردز، إريكا روجرز، جودي إف. سيوجرن (التي قامت بمعظم الرسومات)، لوسي بِ. ويلز، وجون جِ. ويست. بعض هؤلاء ساعدوني في المحتوى العلمي، ولكن جميعهم ساعدني في جعل الكتاب قابل للقراءة. ولو ظلت هناك أخطاء أو نقط صعبة، فهذا لأني فشلت في تطبيق بعض نصائحهم الرائعة.
كذلك ممتن للمساعدة البحثية التي تلقيتها من العديد من الأشخاص، خاصة من (وينزلو جِ. جيريش Winslow G. Gerrish) و(ويليام كفازينكوف William Kvasnikoff) ومن فريق عمل مكتبات العلوم الطبيعية والطبية في جامعة واشنطن في سياتل. وللتمويل البحثي الذي قدم لي بسخاء من مركز تجديد الثقافة والعلوم (www.crsc.org)، بمعهد ديسكفري في سياتل.
مقدمة
"إن العلم هو البحث عن الحق"، قالها الكيميائي لينوس باولنج Linus Pauling (الحائز على جائزتي نوبل). ووافقه على ذلك بروس ألبرتس Bruce Alberts (الرئيس الحالي للأكاديمية الوطنية للعلوم NAS) في مايو ٢٠٠٠م حين قال –مقتبسًا من كلام شمعون بيريز–: "لا يمكن للعلم أن يتعايش مع الأكاذيب"، ويواصل ألبرتس قائلًا: "لا وجود للكذبة العلمية، كما لا يمكن الكذب بطريقة علمية، فالعلم أصلًا هو البحث عن الحق".
يرى معظم الناس أن الأسطورة نقيض العلم؛ فالأسطورة مروية قد تشبع حاجة ذاتية أو تكشف شيئًا عميقًا عن باطن النفس الإنسانية، إلا أنها، كما هو الحال في عرف الاستعمال، ليست تفسيرًا للحقيقة الموضوعية. يقول روجر لوين Roger Lewin المحرر العلمي السابق: "يجفل أكثر العلماء عندما تلصق كلمة "أسطورة" بما يرونه بحثًا عن الحق"، لكن العلم يشتمل بالطبع على عناصر أسطورية؛ لأن كل المشاريع التي يخوضها بنو الإنسان كذلك، وإنه ليحق للعلماء أن يجفلوا عندما توصف مقولاتهم بـأنها أساطير لأن هدفهم كعلماء هو تقليل العنصر الذاتي القصصي وتعظيم العنصر الموضوعي للحق قدر المستطاع.
ليس البحث عن الحق هدفًا نبيلًا فحسب، وإنما هو أمر نافع للغاية، فعندما يزودنا بأقرب شيء نملكه انتهاءً بفهم صحيح للعالم الطبيعي، فإن العلم يكون قد أتاح لنا حياة أكثر أمانًا وصحةً وإنتاجًا، ولو لم يكن العلم هو البحث عن الحق؛ فما كان لجسورنا تحمل الأوزان التي نضعها فوقها، وما كان لأعمارنا أن تطول، وما كان للحضارة التقنية الحديثة أن توجد.
وفي المقابل، نجد أن رواية القصص عمل إنساني لا يقل أهمية، فدون القصص لن نتحصل على أية ثقافة، لكننا لا نستدعي رواة القصص لبناء الجسور أو إجراء العمليات الجراحية، إذ نفضل لهذه المهام أشخاصًا قد تمرسوا في فهم حقائق المعادن والأبدان.
العلم الطبيعي كممارسة منضبطة
كيف يقوم العلماء بتدريب أنفسهم ليتمكنوا من فهم العالم الطبيعي؟ لقد أجاب فلاسفة العلم الطبيعي عن هذا السؤال بطرق مختلفة، إلا أن هناك أمرًا واحدًا في غاية الوضوح؛ ألا وهو أن أيَّة نظرية تدّعي أنها علمية يجب أن تخضع –بطريقة ما وفي مرحلة ما– للمقارنة بنتائج الملاحظات أو التجارب. وبحسب الكتيب الموجّه لتدريس العلوم، والذي أصدرته الأكاديمية الوطنية للعلوم عام ١٩٩٨م: "إن من شأن العلم أن يختبر ويعيد اختبار التفسيرات من خلال وضعها على محك العالم الطبيعي".
ربما تعتبر النظريات التي تنجح في الاختبارات المتكررة وصفًا صحيحًا لهذا العالم بشكل مؤقت، ولكنْ إن وجد تعارض مستمر بين النظرية والدليل فلا بد أن تخضع النظرية لما يمليه الدليل، كما قال فيلسوف العلم في القرن السابع عشر فرانسيس بيكون Francis Bacon: يجب أن نُطَيِّعَ الطبيعة لنتمكن من تسخيرها. وعليه فعندما يرفض العلم الإذعان لحقائق الطبيعة فإن الجسور تنهار، ويموت المرضى على طاولة العمليات.
إن تمحيص النظريات في ضوء الأدلة عَمَلِيَّةٌ لا تنتهي، وقد أصاب كتيب الأكاديمية الوطنية الأمريكية عندما نص على أن: "كل المعرفة المنتمية للعلم الطبيعي خاضعة للتغير كلما توفرت أدلة جديدة"، فلا أهمية لمدة تبني نظرية ما، ولا عدد العلماء الذين يؤمنون بها في الوقت الراهن؛ لأنه إذا نجم التناقض بين الأدلة فإنه يتعين علينا إعادة تقييم النظرية، أو هجرها بالكلية، وإلا فإنه لم يعُد علمًا وإنما خرافة، ولنتحقق من أن النظريات تخضع لاختبارات موضوعية وليست خرافات غير موضوعية فإن الاختبار يجب أن يكون في العلن لا في السر، وينص كتيب الأكاديمية على أن: "عملية التمحيص العلني هذه جزء أساسي من العلم، وتعمل على تخليصه من التحيزات الفردية والذاتية، ليتمكن الآخرون من اتخاذ قرار فيما إذا كان التفسير المفترض يتسق مع الدليل المتاح أم لا".
تُعرف هذه العملية داخل المجتمع العلمي بمراجعة الأقران Peer Review، وبعض الفرضيات العلمية موغلة في التخصص لدرجة أنه لا يمكن تقييمها بطريقة صحيحة إلا من قبل أفراد متخصصين في ذات المجال، وفي مثل هذه الحالات يكون الأقران المراجعون قلة من الخبراء. لكن في حالات غير قليلة قد يملك الإنسان العادي كفاءة تمكنه من الحكم على الأدلة تضارع كفاءة العالم المتمرس، ولنضرب مثلًا: لو أن نظرية للجاذبية تنبأت أن الأجسام الثقيلة سوف تنجذب إلى الأعلى فإن دحض هذا الأمر لا يحتاج لمتخصص في الفيزياء الفلكية ليتبين أن النظرية خطأ، وكذلك لو أن صورة لجنين لا تبدو كما هي عليه في الواقع، فإن هذا لا يحتاج لعالم أجنة ليثبت أن الصورة مزورة.
وبالتالي ينبغي أن يكون الإنسان العادي قادرًا على فهم وتقييم كثير من الادعاءات العلمية، متى توفّر على الأدلة المطلوبة. ولقد أقر دليل الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم هذا الأمر في عبارته الافتتاحية المقتبسة من دعوة توماس جفرسون Thomas Jefferson: "لإذاعة المعرفة بين الناس، لا يمكن الإتيان بأساس أمتن من هذا للحفاظ على حرية وسعادة الناس". ويواصل الكتيب قائلًا: "لقد رأى جفرسون بوضوح ما قد ازداد ثبوتًا يومًا بعد يوم: أن ثروة أي أمة تكمن في قدرة مواطنيها على فهم واستخدام المعلومات المتعلقة بالعالم من حولهم".
ويؤكد قاضي المقاطعة في الولايات المتحدة جيمس غراهام James Graham الحكمة التي ذكرها جفرسون عبر صحيفة أوهايو في مايو من عام ٢٠٠٠م بقوله: "إن العلم ليس أمرًا كهنوتيًا يتعذر سبر غوره؛ فأي شخص يمتلك ذكاءً معقولًا، يستطيع بشيء من المثابرة أن يفهم النظرية العلمية ويقيمها بشكل فاحص". لقد سُطِّر كتيب الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم والمقال الصحفي للقاضي جيمس في سياق الجدال الدائر حاليًا حول نظرية التطور، إلا أن الكتيب قد كُتب للدفاع عن نظرية التطور، في حين أن الآخر قد كُتب للدفاع عن بعض نقّاد النظرية؛ وبعبارة أخرى: إن المدافعين عنها ومنتقديها على حد سواء يناشدون حكمة وذكاء الشعب الأمريكي ليحُلاّ هذا الخلاف.
صُنّف هذا الكتاب بناءً على اقتناعٍ بأن النظريات العلمية عمومًا –ونظرية التطور الدارويني على وجه الخصوص– قابلة للتقييم من قبل أي شخص ذكي يستطيع التوفر على الأدلة. لكن قبل النظر في أدلة التطور، علينا أولًا أن نعرف ما معنى التطور.
ما هو التطور؟
التطور الحيوي؛ هو النظرية التي تدّعي أن كل الكائنات الحية قد انحدرت من سلف مشترك عاش في الماضي البعيد، وتدّعي أن كاتب وقارئ هذه السطور قد انحدر من أسلاف شبيهة بالقرود، وأن هذه الأسلاف بدورها انحدرت من حيوانات أكثر بدائية.
هذا هو المعنى الأساسي للتطور عند علماء الأحياء. يقول كتيب الأكاديمية العلمية الأمريكية: "التطور الحيوي يعني أن الكائنات الحية لها أسلاف مشتركة، ومع مرور الزمن تتسبب التغيرات التطورية في ظهور أنواع جديدة، وقد سمى داروين هذه العملية بـ (النشوء والارتقاء –أو الانحدار مع التغير Descent With Modification). وما يزال هذا التعريف صالحًا للتعبير عن مفهوم التطور الحيوي حتى اليوم".
وبالنسبة لتشارلز داروين فقد كانت قضية النشوء والارتقاء هي أصل كل الكائنات الحية الحالية بعد الكائنات الأولى. وكتب في أصل الأنواع: "أرى أن كل الكائنات لم توجد بخلق خاص لكل منها، بل هي ذرية تحدّرت خطيًّا من عدد قليل من الكائنات الأخرى" التي عاشت في الزمن السحيق. ويعتقد داروين أن سبب الفروق الكبيرة التي نراها حاليًا بين الكائنات الحية هو التغير عبر الانتقاء الطبيعي، أو قانون البقاء للأصلح. وكتب داروين: "أنا مقتنع بأن الانتقاء الطبيعي كان أهم طريقة لإحداث التغيير ولكنه لم يكن الأداة الوحيدة". وأحيانًا يرد أنصار نظرية داروين –عندما تواجههم الانتقادات– بادعاء أن التطور ببساطة هو مجرد حدوث التغير عبر الزمن، لكنّ هذه الإجابة تنطوي على تملّص واضح، إذ لن نجد إنسانًا عاقلًا ينكر حقيقة التغير في الطبيعة، ولا حاجة لنا بداروين ليقنعنا بوجودِ مطلق التغير عبر الزمن، ولو كان معنى نظرية التطور هو مجرد وجود التغير مع مرور الزمن فقط فلن نجد بين الناس من يجادل حول هذه النظرية مطلقًا، إذ لا يعتقد أحد بأن التطور الحيوي مجرد تغير بمرور الزمن فقط.
وتبقى عبارة أقل مراوغة من الأولى وهي القول بالانحدار مع التغير. وبكل تأكيد يحدث هذا، لأن كل الكائنات داخل النوع الواحد مرتبطة ببعضها عبر الانحدار مع التغير؛ ونحن نرى ذلك في عوائلنا، ويلاحظه المزارعون والقائمون على تربية النباتات والحيوانات، ولكن هذا يُجانِب محل النزاع الحقيقي.
لا يرتاب أحد في أن الانحدار مع التغير يحدث أثناء عملية التكاثر الحيوي الطبيعي. فمحل النزاع الحقيقي هو ما إذا كان الانحدار مع التغير يفسر ظهور أنواع جديدة، أو بالأحرى كل الأنواع. ومثل فكرة التغير مع الزمن، فإن فكرة الانحدار مع التغير ضمن أفراد النوع الواحد ليست محل خلاف مطلقًا؛ إلا أن نظرية التطور الدارويني تدّعي ما هو أكثر من هذا، إذ إنها تدّعي أن الانحدار مع التغير يفسر نشوء وتنوع كل الكائنات الحية.
الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها اختبار صحة هذا الادّعاء من عدمه هي تمحيصه في ضوء الملاحظات أو التجارب، وككل النظريات العلمية الأخرى، يجب أن تُعْرَضَ الداروينية باستمرار على الأدلة. فإن لم تتفق معها فإنه يعاد تقييمها أو تهجر؛ وإلا أضحى العلم خرافة.
الأدلة على التطور
عندما يُطلب تعداد الأدلة المثبتة للتطور الدارويني يجيبنا معظم الناس –بما فيهم علماء الأحياء– بالمجموعة نفسها من الأدلة؛ فكلهم أخذوها من ذات المراجع المنهجية المعدودة، وأشهر تلك الأمثلة:
1) دورق مختبر يحاكي جو الأرض البدائي ونتيجة تمرير شرارة كهربائية تنتج فيه الوحدات الكيميائية الضرورية لبناء الخلايا الحية.
2) مخطط شجرة تطور الحياة؛ الذي رسم بناءً على كم كبير ومتزايد من الأدلة الجزيئية والأحفورية.
3) تشابه بنية العظم بين جناح خفاش وزعنفة دولفين ورجل حصان ويد إنسان بما يدل على الأصل التطوري من سلف مشترك.
4) صور تبدي التشابه بين الأجنة في مراحل مبكرة، تثبت أن البرمائيات والزواحف والطيور والبشر منحدرون من حيوان شبيه بالسمك.
5) الأركيوبتركس Archaeopteryx؛ طائر أحفوري له أسنان في فكيه ومخالب في أجنحته، يمثل الحلقة المفقودة بين الزواحف القديمة والطيور الحديثة.
6) العث الإنجليزي المنقط Peppered Moth؛ تتخفى بلونها الجديد الموافق للون جذوع الأشجار وتتجنب الطيور المفترسة، بما يعتبر أشهر مثال على الانتقاء الطبيعي.
7) عصافير داروين في جزر غالاباغوس؛ وهي ١٣ نوعًا منفصلًا تنحدر من أصل واحد، أنتج الانتقاء الطبيعي تغيرات في مناقيرها، وهذا الدليل هو ما ألهم داروين نظريته.
8) ذباب الفاكهة بزوج إضافي من الأجنحة يثبت أن الطفرات الجينية يمكن أن تزودنا بالمادة الأولية للتطور.
9) نموذج الشجرة المتفرعة لأحفورات الحصان؛ والذي يدحض الأفكار القديمة بأن التطور موجه.
10) رسومات لمخلوقات شبيهة بالقرد تتطور إلى بشر، تثبت أننا مجرد حيوانات، وأن وجودنا مجرد منتج هامشي لأسباب طبيعية لا غاية وراءها.
يشيع استخدام هذه الأمثلة كأدلة لإثبات نظرية التطور، لدرجة أن معظمها سُمي أيقونات للتطور، إلا أن جميعها مجرد تشويه وتحريف للحقيقة بطريقة ما.
علم أم خرافة؟
تعرض بعض هذه الأيقونات تخمينات وفرضيات كما لو أنها حقائق معروفة؛ ففي كلمة ستِفن جي جولد Stephen Jay Gould يقول: "إنها تجسدات لمفاهيم تتنكر على أنها وصف محايد للطبيعة"، وبعضها يُخفي وراءه الجدل العلمي الواسع بين علماء الأحياء والذي يهدد بعمقٍ نظريةَ التطور، وأسوأ شيء أن بعضها متعارض تمامًا مع الدليل العلمي الثابت.
لا يدرك معظم علماء الأحياء هذه المشاكل، فمعظمهم يعمل في مجالات بعيدة جدًا عن التطور الحيوي، ومعظم معلوماتهم عن التطور مقتصر على ما تعلموه من ذات الكتب ومقالات المجلات ووثائقيات التلفاز التي تُعرض لعموم الناس. تعتمد هذه الكتب والعروض العمومية أساسًا على أيقونات التطور؛ ولذلك يرى معظم علماء الأحياء الأيقونات كأدلة حقيقة على التطور.
يدرك بعض علماء الأحياء الصعوبات التي تحيط بأيقونة معينة لأنها ترتبط بمجالهم البحثي، فهم يدركون تناقضها مع الأدلة العلمية من خلال اطلاعهم المتخصص، ويستطيع العالم منهم أن يرى بوضوح عند قراءة الأبحاث في اختصاصه أنها دليل مزور أو غير صحيح، لكنه ربما يظنها مجرد مشكلة بسيطة منعزلة، وخاصة عندما يتأكد له أن نظرية داروين مؤيدة بكم كبير من الأدلة في مجالات أخرى، فالعلماء الذين يعتقدون بالصواب الأكيد لنظرية داروين قد يهملون جانبًا ما يعرفونه مباشرة من فشل أيقونة معينة.
من ناحية أخرى؛ لو أن أصوات تلك الهواجس خرجت فلن يستمع إليها الآخرون، لأن نقد التطور الدارويني غير محبذ بين علماء الأحياء المتحدثين بالإنجليزية، ولعل هذا هو السبب في عدم انتشار معرفة مشاكل أيقونات التطور على نطاق واسع، ولذلك يدهش الكثير من علماء الأحياء كما يدهش العوام عند اطلاعهم على حقيقة مشاكل هذه الأيقونات (الأدلة).
سنعرض في الفصول القادمة أيقونات التطور على الأدلة العلمية المنشورة، وسنكشف الكم الكبير من الخطأ الذي نُعلمه لطلابنا حول التطور. وتطرح هذه الحقيقة سؤالًا خطيرًا حول وضع نظرية التطور: إن كانت هذه الأيقونات هي أفضل الأدلة التي نملكها لإثبات التطور الدارويني، وثبت لنا خطؤها كلها أو كونها مزورة، فما هو الوصف الصحيح للنظرية؟ أهي علم أم خرافة؟
د. جوناثان ويلز
دكتوراه في البيولوجيا الجزيئية والخلوية