لماذا هذا الكتاب؟!
لقد شغلت النفس الإنسانية الفلاسفة اليونانيين والمحدثين من بواعث شتى، ومن حيث الطبيعة رأى كثير من الفلاسفة أن للإنسان طبيعتين وجوديتين، هما النفس اللامادية والجسد المادي، سواء كان ذلك من أجل الامتياز المعرفي أو الأخلاقي الذي يتمتع به الإنسان أو للبناء الفلسفي الذي انطلق منه الفيلسوف الذي يتأثر بعوامل سياقية كثيرة. بينما جزم فلاسفة آخرون بأنه ليس هناك إلا المادة أو الجسد، وبناء على ذلك فسّروا المعرفة والإرادة الإنسانية تفسيرا متجسدا.
تحول النقاش في الفكر المعاصر عن علاقة العقل بالدماغ، وإمكان استبدال العقل (الجانب اللامادي) بالدماغ، أي أن النقاش متعلق بفيزيقية العقل، ونحن أمام نموذجان مختلفان للإنسان، الأول: الإنسان كشخص ابن طبيعة تاريخية وثقافية معينة موروثة قابلة للتعديل التدريجي لكن لا تقبل الانبثاق داروينيا من حيوان أدنى، وأن هذه الطبيعة تسوّغ له أن يسلك سلوكا معينا. الثاني: الإنسان كآلة أو كحاسوب، أي سلسة محددة من العمليات الفيزيائية أو الدماغية، بحيث أن سلوكه يفسَّر بسهولة كـ نتيجة لتلك العمليات. والفرق كبير للغاية بين النموذجين وسيأتي في محله. ونرى أن أكثر الإشكالات المعاصرة على حرية الإرادة والأخلاق بل والأديان يعود إلى تفضيل العقلية المعاصرة للنموذج الثاني. وهدف هذا الكتاب هو إثبات وصفي للنموذج الأول، ودحض النموذج الثاني.
ومن يدافع عن النموذج الأول بأبعاده الثرية ومقوماته أحرى به قبول تفسير روحاني للإنسان، وأيضا مقبول منطقيا ممن يرى الإنسان مكوّن من مادة فقط أن يرى في سلوكه أبعاد لا يمكن اختزالها وتفسيرها فيزيائيا، وللفيلسوف هيلاري بوتنام مقال مهم –بعد نبذه للمادية الاختزالية التي اعتنقها سابقا– بعنوان "الفلسفة وحياتنا العقلية Philosophy and Our Mental Life" عام 1975م من أهدافه إنكار التلازم بين كون الإنسان من مادة وكون سلوكه يمكن اختزاله ماديا، فالسلوك مرتبط بقيم وأعراف ورموز لا يمكن اختزالها طبيعانيا.
إذن، اعتبار أن الإنسان يتكون من جسد وروح، يختلف تماما عن القول بأن الإنسان ذو أبعاد ومقومات اجتماعية وتاريخية وثقافية لا يمكن تفسيرها تفسيرا علميا اختزاليا، وهذا الأخير هو ما نؤسس له، ونقر بأن لعلم الاجتماع ولعلم النفس قوانينهما الخاصة بهما التي لا يمكن اختزالها في قوانين بيولوجية أو عصبية.
فنحن في هذا البحث لن نسعى إلى إثبات أن للإنسان طبيعتين مختلفتين وجوديا، فلن نذكر مثلا الأبحاث التي تؤيد المنحى الثنائي لبعض علماء الأعصاب، علماء الجيل الأول تحديدا، مثل أبحاث عالم الأعصاب البريطاني الشهير تشارلز شرنجتون التي جعلته يرى أن العقل يتجاوز القوانين الفيزيائية والكيميائية، أو دراسات جون إيكلز الذي يذهب إلى أن التفسير الفيزيائي للسلوك الإنساني تفسيرا قاصرا، وأمثال هذه الدراسات. إنما هناك سؤال يتوسط القفزة من النموذج الاختزالي إلى النموذج الثنائي، وهو "السؤال الحقيقي المقلق": "هل من الممكن أن يسلم المرء ببعد إنساني يكون مستقلا وغير قابل للاختزال إلى الجسدي؟".[1]
هذا هو فعليا السؤال السابق لأي فرع آخر كإمكان الثنائية أو غيرها، وهو كما يقول جون سيرل "السؤال المركزي في الفلسفة في بداية القرن الواحد والعشرين"، وبصياغته: "كيف نفسر وجود الإنسان البارز كشخص واع ومسؤول وحر وعاقل وناطق واجتماعي وسياسي في عالم مكوّن تماما وفق قول العلم من جسيمات مادية لا عقلية ولا معنى لها؟".[2]
إن هدف هذا البحث هو بيان أن بديل النظرة الثنائية للإنسان ليس هو المادية والاختزال، بل هناك بديل وصفي آخر سنقدمه يسمح لنا بالنظر إلى أنفسنا كذوات لها إرادتها الحرة ونظرتها الأخلاقية للعالَم، بصرف النظر عن طبيعة الإنسان، سواء كان ثنائيا أو أحاديا. وخلال البحث سنتجنب الخوض في تشريح الدماغ وما شابه، إذ أن البحث يقوم على نقد الأساس الفلسفي لعلم الأعصاب المعاصر وإمكان إمداده بتفسير للسلوك الإنساني، وعلى رأس ذلك السلوك الأخلاقي.
[1] سرجيو مورافيا، 1995، لغز العقل: مشكلة العقل والجسد في الفكر المعاصر، منشورات وزاة الثقافة دمشق، ترجمة عدنان حسن، ص15.
[2] جون سيرل، 2004، العقل: مدخل موجز، عالم المعرفة، ترجمة: ميشيل حنا متياس، ص16.