مقدمة
الحمد لله الذي كلف رسله بهداية العالمين، وأنزل كتبه بالحق المبين، فكانت سراجًا ينير طريق المؤمنين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
تعتبر الأخلاق أساس البناء الحضاري والتقدم البشري، فهي قطب الرحى، والدعامة الأساسية التي تقوم عليها حياة الفرد والمجتمع، وما سلوك الإنسان القويم إلا تعبير عن تمثله للقيم السامية التي تميزه عن الحيوان، وتخرجه من دائرة البهيمية. وقد ميَّز الله تعالى الإنسان وخصه عن سائر المخلوقات بالعقل، الذي يُحَلِّقُ بواسطته في سماء المثالية مُتحليًا بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، محققًا بذلك التوازن النفسي الذي يجعله مستمرًّا في حياته كإنسان عاقل يدرك أفعاله، ويميز بين ما هو خير وشر لإنسانيته.
لذلك جاءت الرسالات السماوية داعيةً في جوهرها إلى الفضائل الأخلاقية، ومؤكدةً على ضرورة إقامة المجتمعات على قيمٍ ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، فكان هدفها في كل ذلك بثّ القيم والفضائل في نفس الإنسان، والسمو به إلى أعلى مراتب الفضيلة، والترفع به عن الرذائل المقيتة، فنادت كل واحدة منها بمبادئ وقيم يكمل بعضها بعضًا، إلى أن ختمها الله -جل وعلا- برسالة الإسلام على يد نبيه ﷺ، متممةً بذلك الصَّرح الأخلاقي الذي بنته الأديان الأخرى، وقد أشار النبي ﷺ لهذه الحقيقة بقوله: "إنَّما بُعثتُ؛ لأتمِّمَ مَكارمَ الأخلاقِ".[1]
وقد كان الرسل -صلوات الله عليهم جميعًا- يدعون أقوامهم إلى التحلي بفضائل الأعمال واجتناب المنكرات، لذلك لم تقتصر دعوتهم كما يظنُّ البعض على مجرد التوحيد وعبادة الله فقط، بل امتدت ظلالُها إلى تزكية النفس وإصلاحِها، بالنهي عن الرذائل ومحاربة الانحلال والفوضى الخُلقية، التي من شأنها أن تقضي على أخلاقية الإنسان، وما دعوة لوط (عليه السلام) لقومه وجميع الأنبياء الآخرين إلا خير برهان على اهتمام الأديان بإصلاح العيوب الأخلاقية، التي قد تُفسِدُ المجتمع وتمزِّق كيانَه الروحي.
وهكذا سارت الأديان السماوية موازنة بين العقيدة والعبادة والأخلاق، داعيةً إلى أخلاق ثابتة غير متقلبة بتقلب الإنسان في حياته المادية، مُستَنِدةً في ذلك على الوحي الإلهي، الذي تسير عليه في إقرار الأخلاق بين الناس، راسمةً المنهج الرباني الذي يحقق السعادة الإنسانية في الحال والمآل.
ولم تكن الأخلاق دعوة الأديان السماوية فقط، بل كانت محط اهتمام الفلاسفة الذين نحى بعضُهم بالأخلاق منحًا عقليًّا، فتضاربت آراؤهم واتجاهاتهم بين مَن أقرَّ ثبات الأخلاق، وبين من رأى فيها علمًا نسبيًّا يتغير بتغير الزمان والمكان، بل ويتبدل بحسب منافع الإنسان، وما تحققه له هذه الأخلاق من لذات وشهوات تُشبِع غريزَتَه.
وتظهر هذه الاتجاهات بجلاء في بعض المذاهب الأخلاقية في الفلسفة الغربية، التي تأثرت بالتقدم العلمي الذي وصلت إليه أوروبا بفضل العلوم التجريبية، ومِن ثَمَّ عملت على صياغة نظريات أخلاقية، تتمشى مع المادية التي أنتجت لنا إنسانًا مطبوعًا بطابع الأنانية والمنفعة والسعي وراء المادة، فبات الإنسانُ الغربيُّ -بناءً على هذه المذاهب- مضطربَ الأخلاقِ والسلوك.
من خلال هذا التباين بين الأخلاق الدينية المستندة على الوحي الإلهي، والأخلاق الفلسفية المبنية على العقل، حاولْتُ أن أصوغَ موضوعًا يتناولُ الجانبين الاثنين بالدراسة التي عنونتها بـ"الأخلاق بين الأديان السماوية والفلسفة الغربية"، راجيةً من الله -تعالى- أن ينفعني وينفعكم بها.
● أهمية الموضوع
إذا كانت الأخلاق هي الركيزةُ التي تقوم عليها الحضارات وتُبنى بها الأمم، فإن دراستها تكون ضروريةً لما قد نستشفُهُ منها من مكامن القصور والخلل في تلك الحضارات أحيانًا، والازدهار والرقي في بعضها أحيانًا أخرى، بل ستكون المرآة التي نكشف بها عن جوهر الإنسان باعتبار ما يؤمن به من عقائد، أو فلسفات تُأثِّرُ فيه وفي سلوكِه الأخلاقي باعتباره جزءًا من الإطار الذي تحكمه.
كما أنَّ الواقع المعاصر وما فيه من صراعات وحروب وتَفَكُّك، يجعل من هذه الدراسةِ أمرًا ملحًّا، نستوعب من خلاله أصل الأزمة الأخلاقية الحاصرة، والانهيار القيمي في التعامل بين الأفراد والجماعات الإنسانية.
فهذه الأسباب تُعتَبَر مُبررًا موضوعيًّا؛ للاهتمام بموضوع الأخلاق في الديانات السماوية والفلسفة الغربية، لاسيما وأنَّ كل واحدة منها، قد تناولت الأخلاق من زاوية تُعاكِس فيها الأخرى، فهي وإن كانت متحدة من حيث موضوع البحث، إلا أنها قد اختلفت في نتائجه التي ستكون لها آثارُها، سواءً على الفرد أو المجتمع.
● دوافع اختيار الموضوع
أولًا: الرغبةُ في أن تكون دراستي مرتبطةً بموضوع تتقاسمه كلٌّ من الأديان السماوية الثلاث والفلسفة الغربية، ولذلك كان اختيارُ موضوع الأخلاق باعتباره جزءًا من الدراسة الدينية والفلسفية على السواء.
ثانيًا: الرغبةُ في بيان الأخلاق التي جاءت بها الأديان السماوية، ومعرفة الفضائل التي أرستها في المجتمعات التي ظهرت فيها، بالإضافة إلى بيان ما ورد في الكتب المقدسة من نصوص أخلاقية تدعو إلى مكارم الأخلاق، وتنهى عن الرذائل التي من شأنها أن تهدم الحياة الإنسانية، لتحل محلها الحياة البهيمية التي لا هم لها سوى إرواء النزوات واللذات.
ثالثًا: الرغبةُ في الوقوف على ما أنتجته الفلسفة الغربية من مذاهب أخلاقية، والتي كان لها الأثر في تشكيل الفكر الغربي وبناء حضارته.
وأخيرًا: الإسهامُ بهذا الموضوع المتواضع في إتمام الدراسات السابقة، التي انصبت جهودُها على دراسة الأخلاق في الدين والفلسفة، مع محاولة بيان الصلة التي تربط الأخلاق بكل منهما.
● إشكالية البحث
إذا كانت الأخلاق -كما رأينا- موضوع الأديان السماوية والفلسفة الغربية، فإنَّ دراستها تطرح مجموعة من الإشكالات والتساؤلات، التي يُمكننا من خلالها فَهم المسار الأخلاقي في كل منها، ومن الأسئلة الملحة التي حاول الموضوع الإجابة عنها:
- كيف عالجت كل من الأديان السماوية والفلسفة الغربية القضايا الأخلاقية؟ أو بالأحرى: كيف نظرت الأديان السماوية والفلسفة الغربية إلى الأخلاق؟
- وهل كان للاختلاف في مرجعية الأخلاق دور في تغير معنى الفضيلة والقيم الإنسانية؟
ولا أزعم أنني أجبت على كل ما يطرحه الموضوع من إشكالات وتساؤلات، لكنني حاولت جاهدةً أن أعرض كل الأفكار التي استطعت الوصول إليها، راجيةً من الله تعالى الإخلاص لوجهه في هذه الدراسة، كما أسأله العون والسداد، واجتناب الزلل.
● خطة البحث
اقتضت طبيعة الموضوع أن أُقَسِّمَهُ إلى مقدمةٍ وثلاثة فصول وخاتمة:
- المقدمة، وقد تطرقت فيها إلى بيان أهمية الموضوع، ودوافع البحث، بالإضافة إلى الإشكالية التي تتمحور حولها هذه الدراسة، ثم أتبعتها بخطة العمل، والمنهج المتبع، والدراسات السابقة، وأخيرًا ذكرت أهم الصعوبات التي واجهتني في إعداد الموضوع.
- الفصل الأول: عنونته بـ"مقدمات في علم الأخلاق"، وقسمته إلى أربعة مباحث؛ تناولت في المبحث الأول تعريف علم الأخلاق، وتطرقت في المبحث الثاني إلى بيان موضوع وغاية هذا العلم، أمَّا المبحث الثالث فقد أبرزت فيه طبيعة هذا العلم، والمبحث الرابع أُبرز فيه العلاقة التي تربط الأخلاق بالدين والفلسفة.
- الفصل الثاني: عنونته بـ"الأخلاق في الأديان السماوية الثلاث"، وقسَّمتُهُ إلى ثلاثة مباحث؛ تطرقت في المبحث الأول إلى دراسة الأخلاق في الديانة اليهودية، وفي المبحث الثاني تناولت الأخلاق في الديانة المسيحية، أمّا المبحث الثالث فقد سلطت فيه الضوء على الأخلاق في الإسلام.
- الفصل الثالث: عنونته بـ"الأخلاق في الفلسفة الغربية"، وقسمته إلى ثلاثة مباحث؛ تناولت في المبحث الأول الأخلاق في الفلسفة اليونانية، وتطرقت في المبحث الثاني إلى الأخلاق في الفلسفة الهلنستية، أمّا المبحث الأخير فقد خصصته لدراسة الأخلاق في الفلسفة الحديثة.
- الخاتمة: تناولت فيها أهم الخلاصات والاستنتاجات التي خرجتُ بها من هذا البحث.
● منهجية البحث
لقد بذلت وسعي أن أتبع منهجًا علميًّا يتوخَّى الموضوعية، غير مشوبٍ بالتعصب والتحيز لرأي معين؛ فحرصت أن أدرس كل جزئية من جزئيات البحث دراسةً غير صادرةٍ عن رأي أنتصر له، أو فكرة أتحمس لها، وقد اقتضت طبيعة البحث أن أنهج منهجين:
المنهج الوصفي التحليلي: وذلك بعرض الأفكار وتحليل مضمون النصوص الفلسفية والدينية وفق خطة منهجية؛ قصد الوقوف على جزئيات الموضوع، والكشف عن حقائقه في كل من الأديان السماوية والفلسفة الغربية.
المنهج المقارن: وذلك بمقارنة قضايا أخلاقية تشترك أحيانًا بين الأديان السماوية، وأحيانًا أخرى بين آراء الفلاسفة.
● الدراسات السابقة
ليس موضوع الأخلاق في الأديان السماوية والفلسفة الغربية بالأمر الجديد، بل إن دراسة الأخلاق لقيت حظًّا وافرًا من عناية الباحثين والكتَّاب؛ فمنهم من تناول هذه القضية من الجانب الفلسفي، فأخذ يبحث في المذاهب الفلسفية الغربية مستعرضًا ما جاء فيها من نظريات أخلاقية؛ أمثال "أندريه كريسون"، الذي حاول من خلال كتابه "المشكلة الأخلاقية والفلاسفة" أن يعرض التطور التاريخي الذي مرَّت به الأخلاق منذ الفلسفة اليونانية إلى المذاهب الأخلاقية الحديثة، وكذلك مؤرخ علم الأخلاق "هـ.سدجويك"، الذي عرض من خلال كتابه "المجمل في تاريخ علم الأخلاق" جل المذاهب الأخلاقية التي عنت بالدرس الأخلاقي في أوروبا، وتجدر الإشارة أن الكاتبين لم يغفلا عن تناول الأخلاق التي طبعت كلا من الديانة اليهودية والمسيحية.
أما فيما يتعلق بالدراسات التي تناولت الأخلاق من الجانب الديني؛ فقد استفدت من دراسة "عبد الله دراز" للأخلاق، من خلال كتابيه: "دستور الأخلاق في القرآن"، و"مدخل إلى القرآن الكريم"؛ حيث قام في هذا الأخير بمقارنة بين الأخلاق الواردة في كل من الديانة الإسلامية والأخرى الواردة في اليهودية والمسيحية، ولا نَغفل عن الدراسات المعاصرة، التي تناولت الأخلاق من الجانبين؛ الديني والفلسفي، والمتمثلة في دراسات "طه عبد الرحمن" من خلال كتابه: "سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية"، وكذلك كتابه "بؤس الدهرانية: النقد الانتمائي لفصل الأخلاق عن الدين".
وقد حاولت من خلال هذه الدراسات أن أصوغ فكرة عامة حول الموضوع تساعدني على الإحاطة بجوانبه المتشعبة، محاولة التركيز على الديانات الثلاث، بالإضافة إلى دراسة الأخلاق عند بعض الفلاسفة الغربيين.
● صعوبات البحث
لا يخلو أي بحث من صعوبات قد يتعرض لها الباحث في دراسة موضوعه، سواء تعلَّق الأمر بجمع المادة العلمية التي يحتاجها الباحث في دراسته، أو أجزاء الموضوع التي يستعصي فهمها أحيانًا أخرى، ومن أبرز الصعوبات التي ظهرت في طريق البحث:
- تعقد الموضوع وتشعبه، بسبب توسع دائرة الأخلاق، وتتعدد مشكلاتها سواء في الأديان السماوية أو الفلسفة الغربية.
- صعوبة التعامل مع بعض النصوص الفلسفية التي تحتوي على مصطلحات تستعصي على أي باحث غير مُلِم بالفلسفة ومواضيعها المتشعِّبة، الأمر الذي يضطرني للرجوع إلى المعاجم الفلسفية؛ قصد الاطلاع على كنه تلك المصطلحات.
هذا وقد كان في إشراف الأستاذ الفاضل/ سيدي محمد زهير -حفظه الله تعالى- عونًا على الصبر وتجاوز الصعوبات، فله جميل الشكر على ذلك، ولله الحمد الذي بنعمته تتم الصالحات.
وبالله التوفيق
[1] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر القرطبي، تحقيق: أحمد أعراب، طبعة (1411هـ–1991م)، ج(24)، ص(333).