لماذا هذا الكتاب؟!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد...
فلا شك أن الإلحاد الحديث ظاهرة مخيفة، تحتاج ابتداء إلى خطة معرفية كبيرة لمواجهتها، ومن أبرز الموضوعات الرئيسية في هذه الخطة هو مبحث الأخلاق بتفريعاته، وقد شغل هذا البحثُ الفلاسفة والمفكرين على مرِّ العصور، بل يمكن اعتبار الجزء الأعظم من القرنين السابع عشر والثامن عشر كان مكرسا للتحقق من القيمة الخلقية[1]، وبالطبع تتجلى القيمة المعرفية للإنسان في سلوك يصلح من النفس والعالم، لا سيما أن الإنسان كائن أخلاقي بالطبع، سواء أخلاق جبلّيّة أو مكتسبة، بعد جهاد يرتكز على أساس معرفي أو إيماني. وكانت الأسئلة الأساسية هي: كيف يشتق الإنسان مما هو "كائن بالفعل" ما "ينبغي أن يكون"؟ وما قيمة الحكم الإنساني على الشيء بحسنه أو قبحه؟ وما مرجعه في ذلك؟ وما الغاية من هذا الالتزام الخلقي؟
يولد الإنسان وعنده استعداد سيكولوجي للالتزام بقواعد ما، فلكي يدخل في مجتمعه لابد أن يلتزم ضمنيا بقواعده، فالطفل يكتسب انطباعات ذاتية جدا عن العالم معرفيا وأخلاقيا، قبل أن يتبع القواعد المتضمنة في لغة وسلوك مجتمعه، إلى أن يندمج هذا الانطباع مع قواعد/أخلاق مجتمعه بدفع من هذا الاستعداد.[2] أما المجتمع نفسه فبحاجة إلى عُرف أو أخلاق باطنية أو دين أو فلسفة ما يتحرك على أساسها القانون، فالقانون بمفرده لا يمكن أن يسيطر على الإنسان ولا أن يجلب الخير له إلا بعد تعريف راسخ في وجدان المجتمع عن معنى الخير وجدوى الفعل الخيري.
وبناء على ذلك فالأخلاق حاجة ملحة للإنسان، تجعله يوفّق بين حاجاته وحاجات الجمع، بل تجعله يخاطر بنفسه لخير يعلو خيرات آنية، لذلك فلابد أن تكون الأخلاق نفسها بحاجة إلى مصدر وجداني دائم، فهو يختار بين دين -كما فعلت جماهير بني آدم- أو فلسفة يضعها رجل ثم يهدمها غيره، وإلا فحياة بهيمية لا محالة. ومن البيّن أن الإيمان باليوم الآخر وسماوية الأخلاق أعمق وأكثر اتساقا معرفيا ونفسيا، وقد أكد كبار علماء الاجتماع على الوظيفة المهمة للدين -كدوركايم وغيره- رغم تصورهم التطوري عن المجتمعات؛ ذلك التصور الذي يقول بأن المجتمعات تطورت من الخرافة والأديان إلى المادية![3]
أما في هذا العصر فقد نازع البيولوجيون وعلماء الأعصاب الفلاسفة واللاهوتيين في مفهومهم عن الأخلاق، وقد جلب ذلك أسئلة وحوارات طويلة عن المشكلات البشرية الكبرى؛ كحرية الإرادة، ومعنى الشر.. وغير ذلك. أما البيولوجيا فهي تهدم أي حس خلقي قطعا، وكل من يؤمن بالتطور لديه إشكال كبير للغاية مع أي نقطة أخلاقية في ضميره، فشتان بين دين يقول بأن الاهتمام بالضعفاء والإحسان إليهم سببا للنصر والرزق[4]، وبين من لا يمتلك أدنى حجة لإدانة قتل طفل لمجرد إعاقته.
وقد اعترف الإلحاد الحديث بهذا المأزق الأخلاقي، فاعترف دوكينز بالصعوبة الكبيرة أمام تأسيس قيم على أرضية غير دينية[5]، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج لتدليل، فالعلم الطبيعي يلعب في حقل مختلف تماما عن الضمير والوعي والمعنى.
رغم ذلك، تشهد الساحة الفكرية محاولات شرسة لبعض علماء الأعصاب والإدراك، لاختزال الأخلاق والمعارف التجريدية المعقدة في الدماغ، والحديث عن الأخلاق باعتبارها فقط استجابة عصبية سلوكية كالجوع والعطش، وهو باب شبه فارغ عربيّا، رغم المناقشات والأبحاث الكثيرة في هذا الباب.
لأجل كل ذلك، كان لابد من فتح باب البحث والتأليف في ملف الأخلاق على مصراعيه، وكان لابد في البداية أيضا من مدخل نظري لمعنى الأخلاق في الدين ومصدرها، وتأمين الدين لها بالمقارنة مع الفلسفة، كجزء تمهيدي لمعالجة هذا الفرع الهائل من زواياه المختلفة، وقد وفقت الباحثة في تقديم تلك المادة التي نسأل الله أن ينفع بها القراء، وأن يوفقنا وينفعنا وينفع بنا.
رضا زيدان
مدير قسم البحوث الفلسفية بمركز براهين
[1] محمود السيد أحمد، الأخلاق عند هيوم، ص16.
[2] انظر الكتاب القيم لجان بياجيه بعنوان: الحكم الخلقي عند الأطفال، ترجمة: محمد خيري حربي.
[3] انظر كتاب علم الاجتماع الديني لسابينو أكوافيفيا وإنزو باتشي، ترجمة عز الدين عناية.
[4] صحيح البخاري حديث رقم 2896، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
[5] دوكينز، وهم الإله، ص232.