مقدمة
مما لا شك فيه أن "أفكار وأفعال الناس تميل إلى أن يحكمها مجموعة من الأفكار العامة عن طبيعة العالم ومكان الإنسان فيه، ويمكن أن نطلق على هذه الأفكار العامة "صورة العالم" أو وجهة نظر الإنسان عن العالم".[1]
لكن منذ بداية القرن الثامن عشر بعد الثورة الجذرية التي شهدت ميلاد العلم التجريبي بصورته الحديثة تغير مسار التاريخ، وأصبحت الخبرات الإجماعية أو الأفكار العامة محل شك بالغ، فبالتدريج أدت نتائج العلم التجريبي المبهرة إلى استخدام وسائله لخلق صورة عالم جديدة، حتى أصبح العلم -علوم الإدراك والأعصاب هنا- هو المصلح المنتظر الذي سيقدم معيارًا أخلاقيًّا صحيحًا، نعم لم يكن ميلاد هذا العلم بلا سلف ولم يكن هذا الشك في الخبرات بلا تمهيد؛ فقد كان هناك فلاسفة شكاك ومساعٍ تجريبية قبل تلك الحقبة، إلا أن ما طرأ على العقل الحديث بعد هذه الثورة قد أثر تأثيرًا عظيمًا، وصل إلى محاكمة تصورات العصور الماضية كلها بهذه الصورة الحديثة، أو بشكل أكثر صراحة؛ حاكم العلم الخبرات الاجتماعية الثابتة على مر العصور كالدين.
أقدم في هذا البحث تقييدًا أو ضبطًا لهذه الخبرات الاجتماعية، أو المشتركات الإنسانية، وسأناقش مدى حجية هذه الخبرات، وهل لها دور في البناء العلمي؟ أو هل يقوم العلم على ميتافيزيقا اجتماعية؟
وبإجابة هذه الأسئلة سيعلم القارئ القيمة الحقيقية لهذه الخبرات، والعلم بطبيعة الحال، وسندعم الأخيرة -أي القيمة الحقيقية للعلم- بعرض سريع جدًّا لأشهر فلسفات العلم المعاصرة، كل هذا من أجل المقارنة بين القيمة المعرفية للخبرات الإنسانية الإجماعية والقيمة المعرفية أو المضمون التصوري الذي يقدمه العلم التجريبي أو الجماعة العلمية.
ليس الأمر مقارنةً بين عقل قديم وآخر حديث، بل بحث في طبيعة العقل الإنساني السليم، وكيف نجعل فكرة معينة من بنية العقل السليم؟ وكيف نحاكم خبراتنا ونقيمها؟ وهل يمكننا تبرير كل أفكارنا؟ وهل هناك أفكار مركزية تدعى أفكارًا فطرية؟ وما الفرق بين النقاش الكلاسيكي على مر التاريخ بين العقلانيين والتجريبيين وهذه المقارنة السابقة؟
سأقدم في البداية عرضًا وظيفيًّا للمدارس الشهيرة التي تكلمت عن المشتركات الإنسانية أو الخبرات العامة، أو -بمعنى أدق- التي وضعت معايير لهذه المشتركات، وهي معايير ضعيفة في نظري؛ لذا سأقوم بنقد هذه المعايير ثم وضع معيارًا جديدًا يسمح لنا بالاحتجاج بمثل هذه المشتركات.
لكن بطبيعة الحال لابد أولًا من تأسيس فلسفي لهذا الاحتجاج أصلًا، وتبرير صحيح لكون هذه المشتركات حجة، وعرض للاعتراضات المركزية على هذه المشتركات من حقول مختلفة، ثم نقدها.
إن صحت الحجة، وصح نقد هذه الاعتراضات، فلابد من التسليم بمعيارية هذه المشتركات "بالضوابط الجديدة"، واعتمادها كصورة صحيحة للعالم، من بنية البشر الأصلية، وأن مخالفة هذه البنى شذوذ أو اضطراب فكري/أخلاقي.
وسنقدم بعض الأمثلة على هذه المشتركات كالاستقراء والاعتقاد في مقدس، داخل إطار استدلالي يتبين منه أن الاعتماد على أحد هذه المشتركات دون آخر مغالطة، آمل أن يكون هذا البحث مدخلًا جديدًا لنقد الإلحاد الفلسفي الحديث.
[1] ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، مكتبة مدبولي، ترجمة وتعليق وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام، ص23.