تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...
في ربيع عام 2013 تلقيت دعوة كريمة لحضور الصالون الثقافي الذي كان يعقده الأستاذ الدكتور عمرو شريف أستاذ جراحة الأورام بجامعة عين شمس في منزله بمصر الجديدة، وكان يدور في معظمه حول قضايا الإلحاد، خاصةً أن د. عمرو كان ينوي في هذه الفترة تأليف كتاب شامل عن الإلحاد وأطروحاته بعد كتبه السابقة التي تناولت قضايا جزئية في نفس الموضوع[1]، وقد كان هذا الصالون الثقافي فرصة عظيمة للتعرف على د. عمرو شريف عن قرب والانتفاع بعلمه الغزير، مع خلافي الفكري معه، والذي دارت بسببه مناوشات خفيفة خصوصًا حول نظرية التطور -والتي هي موضوع هذا الكتاب-، إلا أن د. عمرو بأدبه البالغ وتهذيبه الشديد وشخصيته الرائعة كان لا يعطي الفرصة لهذا الخلاف بأن يتحول إلى عداوة وصراع صفري كما هي عادة الخلافات في وقتنا هذا. وقد تشرفت في هذا الصالون بالتعرف على د. عمرو شريف عن قرب والاستفادة من علمه واطلاعه الواسع، وكذلك تشرفت بمعرفة ثلة من العقول المتميزة مثل د. أحمد جلال ود. أحمد الغريب ود. محمد أبو الوفا ومصطفى إبراهيم ود. أحمد عمرو شريف وعُمر خالد وآخرين غيرهم.
ورغم أن هذا الكتاب الذي بين أيديكم يحوي الكثير من النقد لأفكار وأطروحات د. عمرو شريف إلا أني حرصت أن لا يتجاوز هذا النقد حدود الأدب والاحترام الواجبين مع أهل الفضل والنبل والأخلاق السامية، وسعيت أن لا تفلت مني كلمة في أي موضع تتجاوز ما ينبغي للتلميذ أن يخاطب به أستاذه، وكنت أعيد صياغة بعض الفقرات إن لمست فيها ما قد يؤذي د. عمرو لما أعلمه عنه من أدبه ونبله ورقة طبعه مع إخلاصه الشديد لهذا الدين وحرصه البالغ على حفظه وصيانته. وكذلك فعلت مع جميع الفضلاء الذين وافقوا الداروينية في بعض أطروحاتها أو جلها، أسأل الله عز وجل أن يرشدنا جميعًا إلى الحق والصواب وأن يصلح قلوبنا ويجمعنا دومًا على الخير.
أما هذا الكتاب الذي بين يدي عزيزي القارئ فالغرض منه تناول نظرية داروين في النشوء والارتقاء المعروفة باسم نظرية التطور في صورتها الأخيرة المعروفة باسم النظرية الداروينية الحديثة Neo−Darwinism وعلاقتها بما ورد في نصوص الوحي في الكتاب والسنة. فالحقيقة أن القاعدة الأساسية المنهجية الذي دفعت بعض الناس لمخالفة ما ورد في نصوص الوحي بخصوص الخلق هو وجود نظرية علمية حديثة سلموا بها قبل النظر في النصوص الشرعية ودلالاتها، ثم عندما نظروا في هذه النصوص فسروها بما يتفق مع هذه النظرية، فكانت صورة الأمر أنهم تركوا دلالات النصوص الأصلية وتأولوها اعتمادًا على نظرية علمية قالوا إنه لا يمكن الجمع بينها وبين هذه الدلالات، فجعلوا النظرية العلمية هي المحكم والنص الشرعي هو الشبهة وتأولوا النصوص بما لا يتعارض معها!
فكان الهدف من هذا الكتاب هو بيان ضعف وتهافت هذه النظرية العلمية وأنها لا تنهض لمعارضة نصوص الوحي، فضلاً عن أن تفوقها في الدلالة بما يلجئ لتأويلها، وأن الأولى هو تأويل النظرية العلمية لتوافق كلام الوحي لا تأويل كلام الوحي ليوافق النظرية العلمية. وليس في هذا انتقاصٌ للعلم الحديث ومعطياته وإنجازاته ولا إعلانٌ للحرب على العلوم والثقافة والمعرفة ولا طلبٌ للجهل والتخلف والبلادة ولا دعوةٌ للتخندق والانغلاق والسماجة، بل هي رؤية نقدية علمية عقلية شرعية منهجية للنظرية الداروينية الحديثة راعيت فيها الحق والإنصاف. وقد قسمت الأطروحة إلى قسمين:
- القسم الأول: وفيه النقد العلمي للداروينية لبيان ضعفها وتهافتها في باب العلم الحديث، وأن الدعم المؤسسي والأكاديمي المقدم لها يتجاوز مجرد التأييد العلمي الطبيعي لنظرية تخطئ وتصيب، بل هو غارق حتى الآذان في الأدلجة والتحيز، فضلاً عن التضليل والتدليس المتعمد.
- القسم الثاني: هو النقد الشرعي للداروينية وبيان تعارضها مع الإيمان بالله وبما أنزله على رسله، وأن الخلاف الحاصل بين الإسلام والداروينية ليس أمرًا سطحيًا هامشيًا، بل هو يعود إلى الأصول الفلسفية المنهجية التي قامت عليها هذه النظرية. ولم يكن المقصود في هذا القسم تناول ما ذكره مؤيدو التطور من تأويلات للنصوص الشرعية، وإن كان لابد من ذلك صيانةً للنصوص وبيان وجه الحق فيها، فلهذا مقامٌ آخرٌ، لكن كان غرضي هو التناول العلمي والعقلي للنظرية ولحقيقة تعارضها مع الوحي، والكشف عن أصول نظرية داروين التي أدت إلى وقوع هذه التأويلات للنصوص، فإذا عرفت تلك الأصول ظهرت أسباب الانحراف التي ترتب عليه تأويل نصوص الوحي. وعندها يكون الأولى أن نخوض في نقد هذه الأصول وبيان أنها لا توافق الإيمان والوحي، والرد عليها وبيان زيفها وبطلانها في ذاتها، وعدم الاكتفاء بالرد على تأويلاتهم للنصوص الشرعية، وإن كان يجب الرد عليهم في ذلك أيضًا.
وإن كان لي بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وعلماء المسلمين قديمًا وحديثًا أجمعين أن أشكر أحدًا من الخلق، فإني أتوجه بالشكر لأكابر محاوري منتدى التوحيد المتخصصين في دراسة الداروينية الذين انتفعت أيما نفع واستفدت أيما فائدة من كتاباتهم وأطروحاتهم: الشيخ أبي الفداء ابن مسعود ود. حسام الدين حامد والأستاذ أحمد يحيى ود. هيثم طلعت ود. أحمد إبراهيم والمهندس أحمد محمد حسن، سائلاً الله عز وجل أن يبارك لهم ويجعلهم منارات للحق والهدى.
وأتوجه بالشكر الخاص للدكتور عبدالله بن سعيد الشهري المشرف على مركز براهين لكل ما قدمه لي من الدعم والمساندة حتى خروج هذا الكتاب إلى النور. وكذلك لجميع العاملين في مركز براهين الذين لم يبخلوا في توفير المراجع والمصادر المطلوبة للكتاب في أسرع وقت، أسأل الله أن يجعل إصدار هذا الكتاب في موازين حسناتهم.
وقد وضعت الكتاب في صورة مقالات طويلة تفصيلية محررة، واجتهدت في إخلاص النية أثناء كتابتها، وكنت أصلي صلاة الاستخارة قبل وضع أي مقال في الكتاب داعيًا الله إن كان في إضافة هذا المقال خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله أن يكتبه لي ويبارك لي فيه وإن كان في إضافته شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله أن يصرفه عني ويصرفني عنه وأن يقدر لي الخير حيثما كان ويرضيني به، ثم راجيًا الله أن يسددني لإصابة الحق وهداية الخلق وأن يجعل لي لسان صدق بين الناس وأن يكتب لهذا الكتاب القبول في الأرض وأن يبارك لي فيه، اللهم آمين!
[1] وهو الكتاب الذي صدر بالفعل بعنوان (خرافة الإلحاد) من إصدار مكتبة الشروق الدولية.