لماذا هذا الكتاب؟!
حينما تسمع عن صدور كتاب جديد لعالم الجينات الشهير د. مايكل دنتون، فلا ريب أن الخبر سيثير فضولك. وحين تسمع أن عنوان كتابه الجديد هو (التطور: ما تزال نظرية في أزمة)، بعد مرور 30 عاما على كتابه القديم، فلا شك أن الفضول سيزداد!
دكتور دنتون عالم متخصص بالطبع، ولكن مكانة وشهرة كتابه، كان لها عدة عوامل أخرى غير تخصصه، لعل منها أن كتابه القديم لم يطرح نقده للتطور من منطلق خلقوي Creationist –كما كان السائد في الساحة الفكرية وقت صدور الكتاب–، وإنما كان نقدا علميا صارما، ركز فيه طرحه على إثبات أن دعائم وأركان الداروينية الحديثة تفتقر للدليل.
بعد مرور ثلاثين سنة على صدور كتاب دنتون القديم، ما زالت المشاكل التي تحدث عنها مستمرة، بل إن التقدم العلمي جعلها أصعب من حالها سابقا، وبالتالي سقطت كل الردود التي اعتمدت في نقدها لكتابه على عامل الزمن والتقدم العلمي المستقبلي. يقول دنتون عن كتابه السابق أن هدفه الأساسي فيه كان "إثبات أنّ الطبيعة غير مستمرة في الأساس"، أي أن الحياة ليست نتيجة للتطور التدريجي البطيء.
ولا شك أن هذا يسقط الفكرة الداروينية تماما، فلكي تعمل الداروينية، لا بد من حذف أي نوع من أنواع التصميم أو التوجيه، وترك المسرح بالكامل للانتقاء الطبيعي، كي يقوم بتطوير الأصناف تطويرا تدريجيا بطيئا عبر ملايين السنين، لخدمة وظائف تكيفية في الأساس؛ تعمل على بقاء الكائن والنوع على قيد الحياة، وتضيف له ميزات تكيفية مع بيئته.
أسقط دنتون في كتابه السابق فكرة أن هناك احتمال لوجود سمكة لها أرجل أو زاحف مشعر أو جرابي له مشيمة، أما كتابه الجديد، فيأتي بعد تخليه عن مفهوم التكيفية الذي كان مقتنعا به وقت كتابته للكتاب القديم، وتبنيه للبنيوية –من منطلقات علمية– في عالم الأحياء، لأسباب كثيرة، يفيض في شرحها داخل هذا الكتاب.
تأثير ذلك على الصراع مع الداروينية خطير. فنحن إن تجاوزنا النقاش حول كافة الادعاءات التي تفترضها الداروينية، فلا شك أنه لا يمكن نزع فكرة أن كل خطوة تطورية يخطوها أي كائن، هدفها الأساسي هو التكيف، ولكن ماذا لو أثبتت الأدلة العلمية خطأ تلك الفكرة؟
لا شك أن دنتون لا يقول هنا بعدم وجود أي صفة تكيفية، ولكن طرحه هنا يثبت أنه ليس كل الصفات الحية تكيفية، وفي نفس الوقت يطرح مدى حاجة البيولوجيا لتبني مفهوم البنيوية؛ من أجل فهم أفضل للبيانات العلمية التجريبية. في إطار البنيوية، لم تظهر الحياة والتنوع الهائل فيها بعامل الصدف وطول الزمن، بل هي وجدت كما هي في الطبيعة لغرض ما، وهنا يتوقف العلم التجريبي وينتقل الحديث للمجال الفلسفي أو الديني، والذي لا شك أنه سيرى أطروحة دنتون كإثبات على افتقار الحياة لوجود الخالق.
يرى الكثير أن الهدف الرئيسي من الداروينية هو إثبات عدم حاجة الحياة لوجود من يخلقها، ولعل هنا يجدر الإشارة أن دنتون ما زال لاأدريا، لا يقر ولا يعارض وجود الخالق، وهذه قد تسبب ربكة لأنصار الداروينية. ولا نعني بذلك أن العلماء من المؤمنين متهمون بالتحيز المسبق، فالتحيزات المفترضة موجودة عند كلا الطرفين. كما أن التلازم ليس شرطا، فالمؤمن الدارويني (كينيث ميللر) موجود، والملحد المضاد للداروينية (توماس ناجل) موجود.
لم يتوقف دنتون عن مراجعة حججه التي أوردها سابقا وتجديدها، أو عند حتى تقديم البنيوية، بل انتقل في إطار رؤيته الشاملة للبنيوية، للحديث عن تلك المنطقة المثيرة؛ الإنسان. ذلك النوع المميز الذي له قدرات لا يمكن تفسيرها إطلاقا بالتكيف والوظيفة والتطور التدريجي البطيء... وغيرها من العبث الدارويني.
كل ما سبق، يؤكد على الفشل التام للبارادايم التطوري، وأنه آن الأوان للعلماء أن يعطوا نظرية (التصميم الذكي) الفرصة كإطار للبحث في علم الحياة، تماما كما فعل دنتون. الجدير بالذكر هنا، أن أحد أعمدة النظرية (مايكل بيهي) لم يبدأ في التفكير في معارضة الداروينية والبحث عن بديل لها، إلا بعد أن قرأ كتاب دنتون الأول.
نأمل أن يعمل هذا الكتاب على تحريك الساكن في عالمنا العربي، وأن يساعد في خلق بيئة حوارية معتمدة في الأساس على العلم والبحث، وأن يعين الباحث عن الحق في الوصول إلى بغيته. ونتوجه بالشكر إلى كل من ساهم في خروج هذا العمل باللغة العربية، بداية من إدارة معهد ديسكفري –وخاصة د. جون ويست–، ومرورا بطاقم الترجمة المميز –أساس العمل–، ونهاية بالجنود المجهولة التي تقضي أوقاتها في التدقيق والمراجعة والتنسيق، كي يخرج الكتاب في أجمل حلة، قبل أن يقع في يدي القارئ؛ الذي نأمل أن ينتفع به وينفع غيره.
إدارة مركز براهين