البشر هم العدو!
صرح مذيع العلوم الكندي (ديـﭭيد سوزوكي David Suzuki) لمجموعة من الطلاب الضاحكين "أحد الأشياء التي توصلت إليها مؤخرا... هي أن جميعنا في الأساس ذباب فاكهة". ولكن ذلك كان مجرد البداية، فبعدها بدأ سوزوكي بتشبيهنا بـ"الديدان" التي "تولد كبيضة" ثم "في نهاية المطاف تفقس وتبدأ بالزحف متنقلة هنا وهناك" تأكل و"تتغوط في جميع الأنحاء".(1)
تحقير البشر بتشبيههم بالديدان كان مهيجا للمشاعر في تلك الأيام (وبدا سوزوكي ممثلًا لفترة السبعينات بشعره الطويل المنسدل ونظارة چون لينن المستديرة)، ولكن القلة أخذوا هذه التصريحات على محمل الجد. كان الغاية من تلك التصريحات هي الصدمة، أو جذب الانتباه، أكثر من كونها حضا على كراهية حقيقية للبشر. في ذلك الوقت، لم تقم حركات حماية البيئة بالتقليل من شأن البشر عموما، لكن نادت بمنع وتقليل مصادر التلوث، كما نادت بحماية الأنواع المهددة بالانقراض بإقامة المحميات باعتبارها مسألة واجب إنساني. تلك هي الأهداف النبيلة، وتلك التي أؤيدها.
للأسف، اندثرت القيم الأساسية لحركات حماية البيئة الأولى تماما، مثلما حدث مع السراويل الواسعة الأرجل. وفي السنوات الأخيرة، مثلما ينخر النمل الأبيض أساسات المباني (لنستعر تشبيه يشبه حديث سوزوكي)، انحدرت معاداة الإنسانية بفكر مناصري حماية البيئة. أصبح ناشطي حماية البيئة اليوم يحطون بشكل روتيني من قدر البشر بتشبيههم بالطفيليات، والفيروسات، والسرطانات، والبكتيريا؛ فهم القتلة على الأرض.
لم تتغير بالتأكيد وجهات نظر سوزوكي المعادية للبشرية، وهو يتمتع الآن بشهرة عالمية، كما أنه ناشط في مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري في العالم. وعندما وجه إليه السؤال من قبل إحدى محاوري الهيئة الكندية للإذاعة عام 2009 عن مدى تغيير تصوره "غير المتفائل تمامًا" للإنسانية منذ وصفه للبشر بالديدان، تهرب سوزوكي من السؤال وانحرف بالإجابة مشيرًا بأن العنصرية قد قلت، لكن تأسف قائلًا "البشر هم البشر... أنا أتمني فقط أن يتوقفوا عن كونهم بشريين لهذا الحد!".(2)
تبنت الثقافة الشعبية بالطبع فكر سوزوكي المعادي للإنسانية. يقدم إعادة إنتاج فيلم الصف الأول (يوم صمدت الأرض The Day the Earth Stood Still) في 2008، ببطولة النجم الكبير (كيانو ريـﭭز Keanu Reeves)، أفضل مثال حي على ذلك. في نسخته الأولى في 1951، قدم الممثل اللطيف (مايكل رايني Michael Rennie) شخصية الكائن الفضائي (كلاتو)، والذي أتى بواسطة مكوك فضائي لأجل مهمة حسنة النوايا مفادها إنقاذ البشرية من نفسها.(3) حيث يُعلِم قادة دول العالم أن المجتمع الفضائي يدرك تماما التفوق التكنولوجي المتنامي لدينا، ويرحب ترحيبا حارًا بنا، متشرفًا بانضمامنا للنادي النجمي. ولكن بسبب تخوفاتهم من توجهاتنا شبه الحربية، قاموا بتعيينه لتحذيرنا أننا يجب أن نكون مسالمين، وإلا إذا هددنا بنشر العنف في الفضاء، فإننا سنواجه دمار محقق من الروبوت القاتل (جورت Gort).
وككل أفلام الخيال العلمي الجيدة، استعان الفيلم بفرضية خيالية للتنبيه للهواجس الثقافية المعاصرة. وجاء الفيلم في الوقت الذي كانت الحرب الباردة فيه تزداد لهيبا. اندفعت كوريا بالفعل تجاه الحرب. وكان كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية يعملان على تطوير أسلحة نووية أكثر تدميرًا. أصيب الناس بفزع من أن البشرية قد تمحي نفسها في مشهد نهاية عالم نووي. عكّس الفيلم وجهة النظر الدامغة بأن البشرية تستحق، ليست فقط الحماية، بل وتستطيع أيضًا أن ننقذ نفسها، لو اتبعنا أفضل ما في طبيعتنا كبشر.
كان ذلك في الخمسينات. لكن رسالة الفيلم الجديد، لم تكن أكثر قتامة فحسب، بل كانت تصرخ بشعارات الكراهية ضد الجنس البشري. لم يكترث المجتمع الفضائي في هذه النسخة كثيرًا بالحفاظ على النوع الإنساني، ذلك لاعتقادهم بعدم جدوانا وعدم استحقاقنا للجهد المبذول منهم تجاهنا.[iii] بل على العكس من ذلك، فقد تبدل (كلاتو) من صديق جيد للبشر، إلى عدو مهيب خطير. ولم يعد (جورت) الروبوت القاتل تهديدًا محتملًا لمستقبلنا، لكن كان سلاحا موجها مباشرة صوبنا، في مسعي لهولوكوست كامل للبشر. لماذا كل ذلك؟ ليس لأن الحضارة الفضائية متخوفة من الحروب التي قد ننشئها نحن في الفضاء، لكن لأن السبيل الأوحد لإنقاذ الأرض هو الإبادة الجماعية.
يبرر (كلاتو) السعي نحو انقراض البشر بعبارات فظة تماما، وبنتيجة واضحة، وهي أن الأرض كيان حي في حد ذاته.
كلاتو: هذا الكوكب يموت، البشر يقتلونه.
هيلين بِنسون: إذن، أنت أتيت هنا لتساعدنا؟
كلاتو: لا، لم أفعل.
هيلين بِنسون: قلت إنك قدمت لإنقاذنا!
كلاتو: بل قلت، قدمت لأنقذ الأرض.
الجدير بالذكر أيضا أن الصحن الطائر الخاص بكلاتو، قد استبدل بمجال أزرق يشبه كوكب صغير بغيوم تغلفه. سرعان ما تتلاحق كرات شبيهة بالأرض في الوصول، ويتضح فيما بعد أنها تقوم مقام سفينة نوح، لكن فضائية، في جمع كل الأنواع من على الأرض، بحيث يمكن إرجاعها لتنمو من جديد بدون أي تدخل أو مضايقة، بعد الإفناء الكامل للبشر.
وكما في النص الأصلي، يتم إطلاق النار على (كلاتو) ويعتقل ويستجوب، ثم يستطيع أن يهرب. يصبح صديقا لولد وأمه[iv]، دون علم الفتى (في البداية) بأن صديقهم الجديد هو ذلك الفضائي الهارب. ثم يرتبوا هم وعالم حاصل على جائزة نوبل في الإيثار البيولوجي –أدي الدور أحد أبطال المسلسل الكوميدي (مونتي بايثون Monty Python) الممثل (چون كليز John Cleese)– لإقناع (كلاتو) بأن الإنسانية تستحق البقاء. فرغم كل شيء، لدينا موسيقي كلاسيكية![vi] ولكن قبيل أن يلغي الإبادة الجماعية، يتحول (جورت) إلى سرب نانوي ضخم وينتشر بسرعة رهيبة، مبيدًا كل ما في طريقه.
وفي آخر لحظة ممكنة، يلغى (كلاتو) مهمة انقراضنا، لكنه يحذرنا أن خلاصنا سيستلزم تكلفة كبيرة؛ فبينما كان مجاله الفضائي يغادر الغلاف الجوي للأرض، انبعث منه نبضة أدت إلى تعطيل كل التكنولوجيا الموجودة على الأرض. والرسالة واضحة؛ لكي تتعايش بسلام مع الكوكب، يجب أن نعود إلى مرحلة ما قبل التكنولوجيا. ولم يُذَكَّر في هذه "النهاية السعيدة" الحقيقة المرة بأن مثل هذا الانهيار المفاجئ للتكنولوجيا، سيتسبب حتما في مقتل المليارات بالجوع والمرض.
وللأسف، لا يعتبر فيلم (يوم صمدت الأرض) الوحيد في قائمة الأفلام الهوليوودية الشهيرة التي تنشر تلك الفكرة المسممة؛ أن البشر يستحقون أن يمحوا من على وجه الأرض بسبب ما يفترض أنه ضرر غير معقول في حق المجال الحيوي. فيلم (الحدث The Happening) في 2008، من بطولة (مارك ولبيرج Mark Wahlberg) ومن كتابة وإخراج صانع الأفلام البارز (إم نايت شيامالان M. Night Shyamalan)، يقدم حكاية مروعة لنهاية العالم بسبب ثورة على الهيمنة القمعية للإنسان؛ على يد النباتات!(4)
يبدأ الفيلم بمشهد لأشخاص على الساحل الشرقي يقومون فجأة بانتحار جماعي، ونرى مشاهد مروعة تنهار فيها الحضارة بشكل سريع. لنكتشف في النهاية بأن النباتات شنت تمردًا عنيفًا من خلال إفراز "فيرومونات انتحار"، كلما تجمع البشر في مجموعات كبيرة وتعرضوا لتلك الفيرومونات يجبروا على قتل أنفسهم بشكل فوري وبأي وسيلة ممكنة؛ كالاستلقاء أمام آلة جز العشب، أو صدم السيارة بالجدران، أو القفز من المبنى، أي شيء.
يسرد شيامالان –كما فعل في فيلم الغزو الفضائي (الإشارات Signs)(5)– قصته المروعة من المنظور الصغير لعائلة وأصدقاء ولبيرج حينما يتعاملون مع الفوضى العارمة. وكلما انتشرت حالات الانتحار الجماعية في جميع أنحاء شمال شرق البلاد، تُدفع دائرة ولبيرج الصغيرة بصورة مطردة إلى زوايا أضيق وأضيق. تلجأ المجموعة الصغيرة إلى منزل نموذجي في تنمية قطاع الإسكان. وحينما أدركوا أن النباتات تطلق فيرومونات الانتحار كلما وجدت عددًا معينًا من البشر، وأن العدد اللازم لتحفيز إطلاق هذه الفيرومونات يتقلص، هرب ولبريج والمجموعة المصاحبة له من التجمع الأكبر للاجئين. وبمجرد أن بدأ أفراد المجموعة الأكبر في قتل أنفسهم بشكل جماعي، مر ولبيرج ومن معه بجانب لافتة دعائية ضخمة لأحد الشركات العقارية، حيث تحمل رسالة الفيلم الصريحة "لأنك تستحق ذلك".
في نهاية المطاف تنتهي الهجمات. لكن لكيلا يظن أحد أنها كانت مجرد مصادفة، يخبرنا خبير بيئي على شاشات التلفاز بأن ما حدث كان تحذيرا أرسل من النباتات لنغير من أساليب حياتنا[vii]، وإلا! يظهر مشهد آخر في باريس، حيث يبدأ الناس من جديد في قتل أنفسهم في الشانزيليزيه.
من المريح نسبيا أنه لم يحقق أيا من هذه الأفلام المعادية للبشرية نجاحًا كبيرًا في الإيرادات.[viii] إلا ان الحقيقة تظل أن منظومة استوديوهات هوليوود –دائمة الجشع– تؤمن بأن هناك سوقا ترفيهية للأفكار المناهضة للإنسانية يجب أن تستغل ويصرف فيها مئات الملايين من الدولارات، وعدد لا يحصى من ساعات العمل لأكثر المواهب براعة في هذه الصناعة، لنشر أحلك اتجاهات البيئوية تطرفا في العالم كله. (يعد الفيلم الذي حقق نجاحا ساحقا "Avatar"ـ[x] مثالا آخر.(6)) في الواقع ظهور الرسائل المعادية للبشرية في أفلام الصف الأول في هوليوود، يبرهن على أن العدمية البيئية قد تجاوزت الحد –كما الفيرومونات في فيلم الحدث– وبدأت في إفساد الثقافة العامة.
استراتيجية الدعوة لكراهية الجنس البشري كانت تثير الاستغراب ذات مرة، ولكن الآن مع الأسف –كما سنرى لاحقًا– نجد تلك الفكرة متوقعة تماما من البيئوية.
لم تقتصر هذه الاتجاهات المناوئة للبشرية واستخدام التكنولوجيا على الخيال فقط. كما لم تقتصر أيضا على السيكوباتيين مثل الشهير (تيد كازينسكي Ted Kaczynski) أو مفجر الجامعات والطائرات.(7)
تأمل مثلا هذه الدعوة التي تبدو جيدة؛ ساعة الأرض Earth Hour، والتي تدشن كل عام في جميع أنحاء العالم لحث الناس لغلق الأضواء والأجهزة الكهربائية لمدة 60 دقيقة. لطالما كنت أفكر في دعوة ساعة الأرض بنفس الطريقة التي أفكر بها في تلك الحملات واسعة الانتشار والتي يكون لها شريط مميز يعلق على الصدر؛ فهي تعطي الناس شعورا بالرضا عن أنفسهم للاهتمام، بدون إلزامهم بالقيام بتضحيات شخصية.
لكن بعد ذلك قرأت عمود الصحفي (روس ماكيتريك Ross McKitrick) في جريدة (ﭬانكوﭬر سّن Vancouver Sun) وأدركت أن الرسالة التي تقبع وراء ساعة الأرض –إن لم تكن نيتها الواضحة– مدمرة جدًا:
الفكرة الأساسية التي تقبع وراء الدعوة إلى ساعة الأرض هي تشويه استخدام الكهرباء... ساعة الأرض تحتفي بالجهل والفقر والتخلف. ومن خلال إنكار أكبر محرك لتحررنا، أصبحت ساعة مكرسة لخدمة الفكر المعادي للبشرية. فهي تشجع على تلك اللفتة المتظاهرة بالصدق في غلق أجهزة كهربائية تافهة ولمدة تافهة –لتعظيم تلك الفكرة المجردة المبهمة المسماة بالأرض–، في حين يتم الاحتفاظ بكل نفاق على المنافع الحقيقية لوجود كهرباء مستمرة ويعتمد عليها.
أولئك الذين يرون الأفضلية في الاستغناء عن الكهرباء، يجب عليهم أن يغلقوا الثلاجة والفرن والميكروويف والكمبيوتر وسخان المياه والأضواء والتلفاز وكل الأجهزة المنزلية الأخرى لمدة شهر مثلا، وليس ساعة واحدة! ثم لننتقل بعدها إلى وحدة القلب في المستشفى ونغلق الكهرباء هناك أيضا!(8)
قد يقول البعض؛ ويزلي! ساعة الأرض ما هي إلا نشر لفكرة ضرورة ترشيد استهلاك الطاقة. ربما... لكني أظن أن ماكيتريك لديه الكثير ليخبرنا به.
بالنظر إلى النطاق الأوسع للبيئوية نجد أنها قد أصبحت على نحو متزايد عدمية ومضادة للتجديد ومعادية للبشرية، لدرجة أن مفهوم المحافظة على موارد الطبيعة أصبح مفهوما باليًا لأنه ينطوي على صلاحية استغلال الموارد لخلق الثروة والازدهار. وكما سنتناول في الصفحات التالية، للجانب المعادي للبشرية لدى الحركة البيئوية الحالية مظاهر عديدة:
- حركة الإيكولوجيا العميقة التي ستدمر البشر ليصل عددهم لأقل من مليار؛
- الاتجاهات الجائرة والمضادة للنمو لدى المهولين من ظاهرة الاحتباس الحراري؛
- المفهوم المثير للسخرية؛ منح حقوق قانونية واجبة النفاذ للطبيعة؛
- والحملة الدولية المصاحبة لها لتجريم استغلال الموارد ومشاريع تنمية الأراضي على نطاق واسع، بسبب كونها "مدمرة للبيئة".
الآن، تأمل مرة أخري الرسالة الجوهرية لـساعة الأرض، ستجد أن رسالتها غير خفية: التكنولوجيا هي عدوة للأرض ويجب كبحها لكي "تنقذ الأرض"، تماما مثلما أوقف كلاتو التكنولوجيا للحفاظ على الأرض في الفيلم.
يتساءل المرء كم عدد مناصري ساعة الأرض الذين تفكروا بجدية في الشقاء الذي يلاقيه البشر في الأماكن التي لا توجد بها شبكات كهرباء، حيث الحياة المحفوفة بالمخاطر، والتي غالبا ما تكون مغمورة بالمعاناة الشديدة من الجوع والمرض. في الحقيقة، من أجل أولئك البشر الذين يعانون، نحن بحاجة إلى المزيد من الكهرباء وليس القليل. ربما يحتاج هؤلاء المناصرين لفكرة غلق الأضواء أن يسألوا أولئك الذين يعانون في كوريا الشمالية في العام المقبل، كيف تحلو لهم الحياة في مجتمع غير تكنولوجي.(9)
لا تعد معاداة الإنسانية سوى جزء من المشكلة التي نواجهها من كارهي البشر الخُضر Green Misanthropes. وسيستعرض هذا الكتاب المدى الواسع الذي أفسدته البيئوية الراديكالية في العقلانية العلمية؛ والذي ربما كان عن سبق إصرار. في الواقع، من الواضح جدا بالنسبة لي أن تلك الأيديولوجيا تسعى لاستبدال المنهج العلمي المحايد في الحصول على الحقائق والمعلومات وتطبيقها، بالحماس العاطفي الذي يذكرنا بالحركات شبه العقائدية التي تسعى لفرض تزمتها الفكري على السياسة والقانون؛ وبغض النظر عن النتائج.
والناس بالفعل تلحظ هذا الإفساد الذي أضعف ثقة العامة في القطاع العلمي. فعلى سبيل المثال، قامت مجلة (ساينتفك أمريكان Scientific American) عام 2011 بنشر مقال مثير للقلق، يسعي لتفسير لماذا "يقول الناس بأنهم يثقوا في العلماء بشكل عام، ولكن يختلفون معهم في قضايا معينة؟".(10)
ودعوني أساعد: العامة على قدر كاف من الذكاء يسمح لهم بالتمييز بين من يسمون أحيانا بممارسي العلم، وبين مؤيدي العلم المسيس، فالنوع الثاني هذا يسعى في كثير من الأحيان إلى الدمج بين تأييدنا الساحق للعلم –من حيث هو علم–، وبين الموافقة على أجنداتهم السياسية والأيديلوجية. بالإضافة إلى ذلك، فهم العامة أن الدراسات العلمية مثلها مثل الكتب المقدسة: يمكنك الخروج منها بكل شيء تريده تقريبا[xi]، وفي كثير من الأحيان تكون النتائج التي يريدها العلماء سابقة على دراستهم الفعلية للأدلة.
ثم هناك محاولة لإفساد المنهج العلمي، من قبل بعض من نصبوا أنفسهم مناصرين للعلم، عن طريق تبرير الفلسفة المضللة المعروفة بـ(العلموية Scientism). تؤكد العلموية على أن العلم ليس قادرًا فقط على أن يخبرنا كيف تبدو الأمور وكيف تسري الأمور، ولكن قادر أيضًا على أن يحدد لنا الصواب والخطأ. وفي كثير من الأحيان في المجال البيئي، انتقل العلماء من الكشف عما هو موضوعي، للدعاية لما هو ذاتي. وكما سيوضح هذا الكتاب، هذا ما يجعل الأمور تخرج عن مسارها تماما.
سنفحص أيضا كيف أصبحت الحركة الخضراء الآن بنية، ما الذي أعنيه بذلك؟
كثيرًا ما تمتص الأجندات التقدمية (الحمراء) الدعاوى الشرعية للبيئويين (الخضر). وعندما يختلط الأحمر بالأخضر[xii]، يصبح لدينا (البُنِّي). فمن خلال السماح لنفسها لتصبح بشكل صريح مناهضة للرأسمالية والسوق الحر –في إدراكاتها ورسائلها–، تحولت الحركة الخضراء لحركة بنية، وهذا –بجانب الحماس الأيديولوجي– ما يفسر لنا الميل المتزايد من دعاة البيئوية لتبني الحلول السلطوية.
ودعوني أذكر مثالا، كتب المؤلف البيئوي الشهير (ديـﭭيد شيرمن David Shearman) في عام 2008 مقالة هستيرية حث فيها على تبني السلطوية[xiv] عالميا لفرض تنفيذ "الإجماع العلمي" في قضية الاحتباس الحراري وغيرها من الطوارئ البيئية العالمية الأخرى. ومثاله الرائع على الإدارة البيئية التقدمية هو؟ جمهورية الصين الشعبية؛ تعرف طبعا تلك البلد التي تفرض الإجهاض القسري، وساحة تيانانمين[xv]، وبيع أعضاء المساجين الذين أعدموا... وما إلى ذلك. كل ذلك لا يهم، فشيرمن يؤكد على أن الصين يجب أن تُبَجَل لأنها حظرت استخدام الأكياس البلاستيكية! وفقا لشيرمن:
"نعم الديموقراطية الليبرالية جذابة وتسبب الإدمان، وهي في أقصى الحالات تطرفًا، كالولايات المتحدة الامريكية، تكتسح فيها الحرية الشخصية غير المقيدة العديد من الاحتياجات المشتركة بين المواطنين. هذا الموضوع مقدس ولا يمكن لأحد الاقتراب منه، ومن ينخرط في النقد دائما ما يوصم بالماركسي أو الاشتراكي أو الأصولي، أو أسوا من ذلك بكثير. تستعمل هذه المسميات لأن أي بدائل عن الديموقراطية لا يمكن أن يتم استيعابها! ...
القرار الصيني على أكياس التسوق هو سلطوي بامتياز، وهو مضاد للحلول الطواعية غير الفعالة المطروحة في أغلب الديموقراطيات الغربية. سيكون علينا أن نرى كيف يمكن تنفيذ القرارات السلطوية القائمة على الإجماع العلمي لاحتواء انبعاثات غازات الاحتباس الحراري...وإن لم نتصرف بشكل عاجل قد نجد أنفسنا اخترنا الحرية المطلقة كبديل عن الحياة".(11)
أها، كما في المناورة القديمة "دعونا نحكم العالم، وإلا سنموت جميعًا".
وحتى صديقنا القديم ديـﭭيد سوزوكي –الذي يعتقد بأن الناس ديدان– انضم مؤخرًا للفرقة السلطوية الخضراء، حيث صرح برأيه بوجوب سجن السياسيين لانتهاكهم الإجماع العلمي بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري. وقال سوزوكي لجمهور جامعة ماكجيل: "ما أود أن أطالبكم به هو أن تبذلوا الكثير من الجهد لمعرفة إن كان هناك ثمة وسيلة قانونية للزج بمن يسموا بقاداتنا في السجون، لأن ما يفعلونه هو عمل جنائي. إنها جريمة عابرة للأجيال في مواجهة كل المعارف والعلوم منذ أكثر من عشرين عامًا".(12)
لا يهم أن الحكومات الماركسية طالما كانت أسوء المدمرين للبيئة في التاريخ. ولا يهم أن المجتمعات الديموقراطية نظفت الشوارع الملوثة، لأن ذلك كان ما يريده الناس. ولا يهم أن السلطوية لا تحقق بصفة دائمة غايات معتدلة أبدًا.
الحرية ليست ترفا، وازدهار الإنسان يتطلب الحرية والرخاء حيث يمكن أن يتنامى. ويكون الثاني جيدًا عندما يعتمد على استعمال الأراضي وتنمية الموارد. هذه الأنشطة الآن تحت تهديد بارز؛ بسبب التطور الذي يمكن إرجاعه إلى نشاط حركة الإيكولوجيا العميقة في سبعينيات القرن الماضي. ومن هنا سنبدأ.
[iii] الأدهى من ذلك أن (كلاتو) في حواره مع وزيرة الدفاع الأمريكية ينكر أن تكون (الأرض) كوكبنا أصلا!
[iv] أمه هي التي كانت تحاور كلاتو في الحوار السابق، وهي (هيلين بِنسون) عالمة الأحياء الفلكية.
[vi] حين سمع كلاتو مقطع من موسيقى باخ أثناء مقابلته للبروفيسور وصفها بأنها جميلة، فرد البروفيسور بأننا لسنا مختلفين تماما عن بعضنا البعض، وبدأ الحوار الذي من شأنه أن يغير من قرار كلاتو.
[vii] يقول الخبير البيئي في هذا المشهد بالنص: "لقد أصبحنا نشكل تهديدا لهذا الكوكب، لا أظن أن أحدًا سيجادل في هذا"، وهي نفس الفكرة التي في الفيلم السابق.
[viii] في عام 2008، حقق فيلم (The Dark Knight) المركز الأول بإجمالي إيرادات حوالي مليار دولار، والجزء الرابع من سلسلة (Indiana Jones) المركز الثاني بإيرادات بلغت 786 مليون؛ بينما يأتي فيلم (The Day the Earth Stood Still) في المركز الـ25 بإيرادات 233 مليون دولار، وفيلم (The Happening) في المركز الـ40 بإيرادات 163 مليون دولار. والشاهد، هو أنه بالرغم من أن تلك الأفلام لم تصل إلى المراكز الأولى في صندوق الإيرادات، ولكنها حققت انتشارًا نوعيًا لأفكارها.
[x] لا شك أن قصة فيلم أﭬاتار لا تعتبر بشكل عام ترسيخا للأفكار البيئوية، فالصراع الأساسي في القصة هو صراع ضد المستعمر الجشع، لكن هناك عبارات –بعيدا عن أي تحليلات أو مراجعات للفيلم– لا يمكن فهمها إلا في إطار البيئوية، لعل من أهمها حديث سولي (بطل الفيلم) عن البشر مع إيوا (إلهة السكان الأصليين) قبيل أحداث النهاية: "انظري إلى العالم الذي أتينا منه، لا يوجد شيء أخضر هناك، لقد قتلوا أمهم؛ وسيفعلون الشيء نفسه هنا". والأسوأ من ذلك بمراحل، هو الجملة العابرة التي قالها سولي بعد هزيمة الشركة وجنودها (رمز المستعمر) على يد السكان الأصليين (رمز المقاومة): "أعيدوا الغرباء مجددا لكوكبهم الميت". فإذن الفيلم لا ينحاز فقط إلى السكان الأصليين ضد ظلم وجشع بعض البشر، ولكنه –على لسان بطله– غير عابئ بحياة البشر ككل!
[xi] يريد الإشارة إلى تعدد التفسيرات للشيء الواحد، فكما تجد داخل الدين الواحد أكثر من تفسير للنص المقدس الواحد، فنفس الأمر يتواجد الآن في مجال الدراسات العلمية.
[xii] الأحمر عادة ما يشير إلى التوجه الشيوعي في السياسة والاقتصاد.
[xiv] السلطوية هي حكومة تتميز بدرجة عالية من قوة الدولة، والغياب الغالب للإجراءات المتعلقة بالموافقة الشعبية أو حماية حقوق الأفراد.
[xv] مظاهرات ساحة تيانانمن كانت مجموعة من الاحتجاجات من قبل طلاب جامعيين صينيين طالبوا بالديمقراطية والإصلاح، وتم قمعها بفتح النار على المتظاهرين من قبل الجيش.
(1) “Flashback 1972—David Suzuki: Humans are just ‘maggots’ that ‘defecate all over the environment,’” Hauntingthelibrary, May 12, 2012, http://hauntingthelibrary.wordpress.com/2012/05/12/flashback-1972-david-suzuki-humans-are-maggots-that-defecate-all-over-the-environment/.
(2) David Suzuki, Interview by Jian Ghomeshi, Q with Jian Ghomeshi, CBC Radio, November 25, 2009, http://www.cbc.ca/radio_template_2012/blog/2009/11/25/what-do-you-think-about-what-david-suzuki-and-al-gore-have-to-say-1/.
(3) “Trailer—The Day the Earth Stood Still (1951),” http://youtu.be/51JoEE_znyI.
(4) See the description at “The Happening” (2008), http://www.imdb.com/title/tt0949731/. You can view the trailer at http://youtu.be/TIQ21m1Ks08.
(5) “Signs” (2002), http://www.imdb.com/title/tt0286106/.
(6) “AVATAR: Get Rid of Human Beings Now!” Movie Guide, http://www.movieguide.org/reviews/avatar.html.
(7) “Ted Kaczynski,” Wikipedia, http://en.wikipedia.org/wiki/Ted_Kaczynski.
(8) Article is still available on McKitrick’s website under the title of “Earth Hour: A Dissent,” http://www.rossmckitrick.com/uploads/4/8/0/8/4808045/earthhour.pdf.
(9) Viv Forbes, “Earth Hour or Blackout Night?” Carbon Sense Coalition, press release, March 27, 2010, Scoop, http://www.scoop.co.nz/stories/WO1003/S00544.htm.
(10) Daniel T. Willingham, “Trust Me, I’m a Scientist,” Scientific American, May 5, 2011, https://www.scientificamerican.com/article/trust-me-im-a-scientist/.
(11) David Shearman, “Climate change, is democracy enough?” On Line Opinion, January 17, 2008, http://www.onlineopinion.com.au/view.asp?article=6878.
(12) Craig Offman, “Jail politicians who ignore climate science: Suzuki,” National Post, February 7, 2008, http://www.nationalpost.com/news/story.html?id=290513.