لماذا هذا الكتاب؟!
صدمت مارڤيل في فيلمها الأخير (Avengers: Infinity War)ـ[1] الجميع، حينما سمحت للشرير الرئيسي في عالمها السينمائي الممتد (ثانوس Thanos) بتحقيق فكرته المالتوسية بالقضاء على 50% من السكان (سكان الأرض وبقية الكواكب والمجرات)، بما فيهم من أبطالها الخارقين الذين أنفقت سنوات على تسويقهم للجمهور. الكثيرون ظلوا في مكانهم بعد نهاية الفيلم من هول الصدمة. ولا نبالغ إن قلنا أنه منذ عرض الفيلم في إبريل الماضي، وحتى صدور هذا الكتاب في أغسطس 2018، شغلت هذه المذبحة الجماعية المفاجئة جمهور مارڤيل، ومتابعي السينما بشكل عام.
بالطبع هذا الكتاب ليس لمناقشة الحرب على الإنسان في السينما ولا في أي عوالم خيالية، ولكن الأغرب من ذلك أن الواقع قد يكون أغرب بكثير من الخيال. المبدأ الذي ينطلق منه ثانوس في الفيلم هو المالتوسية القديمة؛ قلة الموارد في مقابل كثرة السكان. والحل الذي يقدمه داخل الإطار السينمائي الخيالي هو الإبادة العادلة –غير المتحيزة– لنصف السكان، لكي يستمر البقية منهم على الحياة، ولكي ينعموا بحياة أفضل. أما الواقع المرير الذي نلقاه من الاتجاه البيئوي الراديكالي المعاصر، فهو المطالبة والترويج والسعي لتقنين الخفض الجذري لعدد البشر على الأرض، لا لصالح بقية البشر، وإنما لصالح كوكب الأرض!
نعم، ما قرأته صحيح، ونعم، شعارهم الذي لا يسبب لهم أي نوع من الإحراج: "لإنقاذ الكوكب، اقتل نفسك!".
لكن دعنا نعود قليلا إلى الوراء، كيف بدأت هذه الفكرة في التكون؟ الإجابة عند داروين بالطبع، ويوضح ذلك بيتر سينجر (أستاذ الأخلاق الحيوية بجامعة برينستون): "كل ما نفعله هو محاولة اللحاق بركب داروين. أظهر لنا منذ القرن الـ 19 أننا مجرد حيوانات... كان البشر يتخيلون أننا جزء منفصل عن بقية المخلوقات، وأن هناك فاصل سحري بيننا وبينهم. لكن نظرية داروين قوضت أسس ذلك التفكير الغربي عن مكانة النوع الإنساني في الكون".[2] ولعل الأمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح، فببساطة، بما أن البشر مثلهم مثل غيرهم من الكائنات الحية على سطح الأرض، فما هو المسوغ لاستغلالهم لأنماط الحياة الأخرى المساوية لهم في القيمة؟
سارت الفكرة في هذا الطريق، فنشأت حركات حقوق الحيوان، وحينما نتحدث عن حق الحيوان في الحياة، فنحن نتحدث عن توقف كامل لأي غذاء بشري معتمد على مصدر حيواني، ولأي تجارب علاجية معتمدة على التجريب على الحيوانات.
إذن، هل سنصبح كلنا نباتيين؟ بالطبع لا، لأن النبات أيضا له كرامة.
غير مسموح لك باستعمال الحيوانات ولا النباتات، وبالطبع من غير المسموح استعمال الوقود لأن الاحتباس الحراري قضية لا تقبل النقاش، ولا يسمح أصلا باستغلال الموارد الطبيعية، لأن الطبيعة بكل ما فيها مساوية للإنسان في القيمة.
هذه ليست مزحة، فهذا قانون دستوري في دولة أوروبية كسويسرا يجرم إهانة النباتات، لأن النباتات لها كرامة بالطبع، وهذا قانون آخر يعطي للطبيعة حقوق مماثلة للبشر في ولاية سانتا مونيكا الأمريكية، والقائمة تتسع مع الوقت، فلك أن تتخيل قدر الكارثة التي نتحدث عنها. لا نتحدث عن شطحات فكرية لبعض الفلاسفة، ولا نتحدث عن مجموعات حقوقية صغيرة، نحن نتحدث عن جهود نجحت في تشريع قوانين بالفعل، وعن مشاريع قوانين تناقش في الأمم المتحدة والقمم الحكومية الدولية، ويتبناها أشخاص على قدر رفيع من المسؤولية.
وهكذا، انطلقنا مع داروين وهدم فكرة استثنائية الإنسان، ومررنا بحقوق الحيوانات، ثم النباتات، ثم كل مكونات الطبيعة، ثم الأرض. فإن كانت المقارنة بين استمرار النوع البشري (نوع واحد ضمن ملايين الأنواع) وبين استمرار كوكب الأرض، فمن الطبيعي أن ترجح كفة كوكب الأرض.
بالرغم من أن هذا الكتاب يركز على دعاوى معاداة البشر من التيار البيئوي الراديكالي، لكنه يعطينا نافذة على تصور عملي واقعي لحياة البشر في ظل الإلحاد. فمن يتحرك في إطار فكري لا يوجد فيه إله ولا قيمة جوهرية للإنسان ولا مرجعية أخلاقية حاكمة ولا حياة غير هذه؛ فلا نستغرب منه أن يقع في مستنقع معاداة الجنس البشري ككل، ولا استهجان له إن رغب في القضاء على الغالبية العظمى من البشر لكي يحافظ على الكوكب، خاصة إن كان مقتنعا أن البشر هم الوباء الأكبر على هذا الكوكب. ولكن بالطبع ليس معنى هذا أننا نقول بالتلازم بين الإلحاد وبين البيئوية المعادية للبشر، فالإلحاد شرط ضروري للإيمان بالبيئوية المعادية للبشر، ولكن العكس غير صحيح.
فبالرغم من أن مؤلف هذا الكتاب لاأدري، بمعنى أنه لم يحسم موقفه بعد من وجود الإله، لكنه يتفق مع المنظور الديني تماما في قضية تميز النوع البشري واستثنائية الإنسان. كذلك الحال بالنسبة لتيار الهيومانية أو الإنسانوية، وهي فلسفة تؤكد على استثنائية الإنسان، بالرغم من كونها علمانية أو إلحادية. فلا شك أنها أفضل بكثير من الدعوات الفاسدة لمساواة الإنسان بغيره أو لمعاداته والتعامل معه كمرض ينبغي الخلاص منه. ولكن مشكلتنا مع الهيومانية العلمانية هي أنها تدعي إمكانية التأسيس للأخلاق والقيم بدون الدين، فمن الناحية العملية لا شك أنها تقف في خندق واحد مع الأديان للدفاع عن الإنسان، ولكن من الناحية النظرية هي نفعية غير مبررة، ولا تجد ما يسوغها. وعسى أن يعذر القارئ الاختصار المخل في العرض، فسؤال التأسيس للقيمة والأخلاق خارج الإطار الديني أكبر من أن نتمكن من الإلمام به في سطور قليلة كهذه.
النماذج الإلحادية المجتمعية أفرزت لنا أسوء الأنظمة الحاكمة على الإطلاق، وإن أردنا ألا تتكرر نماذج هتلر وستالين من جديد، فعلى الجميع الانتباه للحركة البيئوية الراديكالية، فالمقدمات لا تبشر بخير، والجنون الذي تتبناه تلك الحركة ونشطائها ينبئ عن كوارث قد تتساقط أمام عظمتها النازية والماوية الصينية والستالينية السوفيتية.
[1] حقق الفيلم إيرادات تجاوزت 2 مليار دولار، وما زال عرضه مستمرا.
[2] في مقابلة أجراها معه جوهان هاري في عام 2004 على صحيفة الإندبندنت البريطانية: