شكر وتقدير
أنا وحدي المسؤول عن محتويات هذا الكتاب، لكن أود أن أشكر لازلو بينسه Laszlo Bencze لاقتراحه عنوان الكتاب. أقدر بامتنان سنوات الدعم والتشجيع التي تلقيتها من زوجتي لوسي Lucy وأولادي، ومن كاثي وفيليب ﭼﻌنسون Phillip and Kathie Johnson، ومن زملائي في معهد ديسكفري؛ من بينهم بروس تشبمان Bruce Chapman وﺠﺎﻐﭫ ماير Steve Meyer وﭼﻌن ويست John West وﺠﺎﻐﭫ بوري Steve Buri ودوج أكس Doug Axe وآن ﺔﻐﭽر Ann Gauger بالإضافة لكثيرون. أنا أيضا ممتن بشكل خاص للتعليقات التي وصلتني على المخطوطة من بول نيلسون Paul Nelson وريتشارد ستيرنبرج Rick Sternberg ودﻏﭭﻐﺛ بيرلنسكي David Berlinski وأماندا وﭼﻌناثان ويت Jonathan and Amanda Witt.
لقيامهم بتصريحات صريحة حد الإحراج أو مضحكة بدون قصد، أود أن أشكر (حسب الترتيب الأبجدي) دﻏﭭﻐﺛ براش David Barash، وﭼﻐري كوين Jerry Coyne، وريتشارد دوكينز Richard Dawkins، ودانيال دينيت Daniel Dennett، ودبليو فورد دوليتل W. Ford Doolittle، ونيلز إلدريدﭺ Niles Eldredge، ودوجلاس فيتوما Douglas Futuyma، وكارل جيبرسون Karl Giberson، ودان جراور Dan Graur، وريتشارد لوينتن Richard Lewontin، وﭼﻐﺶري ميلر Geoffrey Miller، وكينيث ميلر Kenneth R. Miller، وراندي أولسن Randy Olson، وﺾﻐﭭﻐن باديان Kevin Padian، وماسيمو بيليوتشي Massimo Pigliucci، ودونالد بروزو Donald Prothero، ويوﭼﻐن سكوت Eugenie Scott، ومايكل شيرمر Michael Shermer.
أنا أيضا أقدر بامتنان المساعدة من العديد من الطلاب الذين يجب أن تبقى أسمائهم مجهولة خشية أن يدمر حراس الإجماع العلمي مساراتهم المهنية الواعدة جدا.
جوناثان ويلز
سياتل 2017
من سمح للزومبي بالخروج؟
الزومبي هو الميت الذي يتحرك، وفي الإطار العلمي، النظريات أو التصورات تصبح ميتة حينما لا تتوافق مع الأدلة. في عام 2000م، كتبت عن عشرة صور –عشرة "أيقونات للتطور"– لا تتوافق مع الأدلة، فهي بالتالي ميتة تجريبيا. لكن، بدلا من دفنها، ما زالت معنا، تطاردنا في فصولنا العلمية وتلاحق أبنائنا. هم جزء مما أسميه العلم الزومبي.
البيض في وجوههم
أنا أحب تناول البيض في الإفطار. في الحقيقة، أتناول البيض منذ سنوات، وأعلم أنني ليس من المفترض أن أفعل، لأن بعض العلماء في الحكومة الأمريكية قالوا إنها مضرة لي. فوفقا لجمعية القلب الأمريكية (AHA) ووزارة الزراعة في الولايات المتحدة (USDA) أثبت العلم أن البيض –خاصة صفار البيض– يحتوي على الكثير من الكوليسترول وبالتالي فهي مضرة لقلبي. ولكني أحبهم، وقلبي يعمل جيدًا، لذلك فأنا أتناولهم على أية حال.
بدأ الأمر في الخمسينات، حينما توصل العالم (چون جوفمان John Gofman) وزملاؤه إلى أنه يمكن تخفيض خطورة أمراض القلب عن طريق التقليل من تناول الدهون الغذائية.(1) وتوصل أيضا عالم آخر، وهو (أنسيل كيس Ancel Keys)، إلى نفس النتيجة. لكن في 1957 أوضح علماء آخرين أن كيس كان يتلاعب فعلا بالأدلة عن طريق "التدليس الانتقائي" (الاعتماد على البيانات التي تتوافق مع فرضيته وتجاهل أي شيء آخر).(3)(4)
على أية حال، في عام 1961 اقترحت لجنة من جمعية القلب الأمريكية –والتي كان أنسيل كيس أحد أعضائها– أن علينا التقليل من استهلاك اللحوم والبيض ومنتجات الألبان للتقليل من خطر الإصابة بأمراض القلب.(5) وفي 1977، أقرت لجنة من مجلس الشيوخ على توصيات لجنة الجمعية(6)، وفي عام 1992 نشرت وزارة الزراعة هرمها الغذائي الشهير، والذي تم رسم الكربوهيدرات في قاعدته؛ للإشارة إلى أنها ينبغي أن تكون المكون الأكبر في غذائنا، والبيض في النقطة التي أسفل رأسه؛ للإشارة إلى أنه ينبغي التقليل من استعمالها.(7)(8)
أنا أتناول البيض على أية حال.
لكن تخيل مدى ارتياحي في فبراير 2015 حين أعلنت الحكومة الأمريكية إيقاف حربها الطويلة ضد البيض، حيث أعلنت أن "التناول المفرط للكولسترول لا يعتبر أمرًا مقلقا".(9)(10) بالرغم من أن هناك ارتباطا بين أمراض القلب وبين مستويات أنواعا مختلفة من الكولسترول في أجسامنا، إلا أنه لا يوجد ارتباطا واضحا بين مستويات الكولسترول وبين ما نأكله. البيض لم يكن أبدًا ضارا لنا. بل على العكس، فالبيض أقرب لأن يعتبر غذاءً كاملًا.
"ولكن العلم يقول..."
نعم، والآن "العلم يقول" شيئًا آخر. ما الذي يمكن أن نستنتجه من ذلك؟
من الواضح أننا لا نستطيع الوثوق فيما "يقوله العلم"، وثناء الحكومة على شيء ليس من المفترض أن يزيدنا ثقة في شيء ما.
في الحقيقة، أخبرونا بالكثير من الأشياء غير الحقيقية بلسان "العلم". الحرب المضللة على البيض كانت نسبيا مثالا لطيفا لذلك. لم يتم الإعلان عن أن البيض غير دستوري، والأشخاص الذين يأكلونه لم يتم السخرية منهم في العلن، ولم يتم فصلهم من وظائفهم. ولكن عبارة "العلم يقول" ليست لطيفة دائما هكذا.
تحذير: هذا الكتاب غير مقبول سياسيا، وربما يكون خطرًا. إذا شوهدت وأنت تقرأه في الحرم الجامعي، ربما تعرض وظيفتك للخطر. لذلك ربما تريد أن تخفيه عن طريق غلاف مختلف. الملحق الأخير يوضح لك كيف تصنع غلافا عاديا من الورق.
كيف يمكننا أن نعرف إذا كان أحد الأشياء التي نسمع فيها "العلم يقول" حقيقة أم لا؟ في النهاية، سيكون عليك أن تدرك الحقيقة بنفسك. هذا لا يعني أنه لا توجد حقيقة موضوعية وأن كل شيء ذاتي. ولكن الناس في بعض الأحيان –حتى اللطفاء منهم والأذكياء– يربطون أنفسهم بأفكار تبدو منطقية لكنها تشوه الحقيقة الموضوعية. حينما يأتي الأمر للعلم، سيقال لك شيئا واحدا من مؤسساتنا العلمية والتعليمية التي تتمتع بالثراء البالغ والسلطة الهائلة، وكذلك من وسائل الإعلام الرئيسية التي تعمل كأبواق لهم. ولكنك ربما تتعلم شيء آخر تماما إذا نظرت إلى الأدلة نفسها؛ تلك هي الحقيقة الموضوعية.
وقبل أن نمضي قدما، دعونا ننظر في بعض الطرق التي يستعمل الناس فيها كلمة "العلم".
ما هو العلم؟
العديد من الناس يميلون لاحترام العلم والثقة في أحكامه. ولكن العلم قد يعني أشياء مختلفة. فمن ناحية، العلم هو عملية البحث عن الحقيقة من خلال صياغة فرضيات واختبارها بمقابلتها بالأدلة. إذا اختبرت الفرضية مرارا ووجدناها في توافق مع الأدلة، ربما نميل مؤقتا لاعتبارها حقيقة. وإذا وجدناها مرارا في عدم توافق مع الأدلة، فيجب أن نتراجع عنها أو نرفضها لكونها خاطئة. نسمي هذه العملية بالعلم التجريبي. عند مستوى معين جميعنا علماء بهذا المعنى، لأنه في حياتنا اليومية نحن نقارن بين أفكارنا وخبراتنا ونراجعها إن اقتضى الأمر، وغالبا بدون تردد.
ومن ناحية أخرى، يرى الناس العلم على أنه التطورات الحديثة في الطب والتكنولوجيا التي أثرت حياتنا. تلك التطورات نشأت من إبداع الإنسان وتصميمه، ولكن تطبيقاتها العملية تتضمن اختبارها من خلال مقابلتها بالأدلة لنرى إن كانت ستعمل. إذن، التطورات في الطب والتكنولوجيا لها جانب تجريبي كما لها جانب إبداعي. دعنا نسمى ذلك بالعلوم التكنولوجية.
ومن ناحية ثالثة، يشير العلم إلى المؤسسة العلمية، والتي تتكون من أشخاص مدربين وموظفين لإجراء الأبحاث في المجالات المختلفة. دعنا نسمى ذلك بعلم المؤسسات، أو فقط العلم. غالبية آراء هذه المجموعة يشار إليها أحيانا بـ"الإجماع العلمي"، وهذا الذي يعبر عنه في بعض الأوقات بـ"كل العلماء يتفقون..." (بالرغم من أن بعضهم عادة لا يتفق)، أو بـ"العلم يقول...".
على مدار التاريخ، غالبا ما تم إثبات أن الإجماع العلمي غير جدير بالثقة. في عام 1500، انعقد الإجماع العلمي على أن الشمس تدور حول الأرض، الرأي الذي هدمه نيكولاس كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي. وفي عام 1750، انعقد الإجماع على أن بعض الكائنات الحية (كالديدان) تنشأ من خلال التولد الذاتي، الرأي الذي هدمه فرانشيسكو ريدي ولويس باستور. وهناك العديد من هذه الأمثلة في تاريخ العلم.
ومن ناحية رابعة، يعرّف بعض الناس العلم على أنه عملية تقديم تفسيرات طبيعانية لكل شيء، أي؛ تفسير كل الظواهر من ناحية الأشياء المادية والقوى الفيزيائية الموجودة بينها. هذا يسمى أحيانا بـ"المنهجية الطبيعانية"، الفكرة التي ترى أن العلم محصور في التفسيرات المادية، لأن تكرار التجارب يمكن أن يجرى فقط على الأشياء المادية والقوى الفيزيائية.
من حيث المبدأ، المنهجية الطبيعانية ليست ادعاء حول الواقع، ولكن تقييد للمنهج. هي لا تلغي وجود المجالات غير المادية. ولكن عمليا، العديد من العلماء يفترضون أنهم إذا قاموا بالبحث لفترة كافية، سيجدون تفسيرًا ماديًا لأي شيء يفحصونه.
هذا الافتراض بأن هناك تفسيرات مادية لكل شيء ليس متعلق فقط بالمنهج، ولكنه معادل للفلسفة المادية التي تعتبر أن الأشياء المادية والقوى الفيزيائية هي الحقائق الوحيدة.(11)(12) أما العقل، والإرادة الحرة، والروح، والإله، فتعتبر أوهام. التصميم الذكي، الفكرة التي ترى أن بعض خصائص العالم هي نتاج سبب ذكي وليس عمليات طبيعية غير موجهة، هي أيضا تعتبر وهم.
ليس كل العلماء اليوم ماديين، والحق أن العلم الحديث بدأ أساسا على يد مسيحيين[*] أوروبيين مؤمنين بالإله. وبالرغم من ذلك، العلم اليوم يحكم بواسطة الفلسفة المادية. الأولوية تعطى لتقديم والدفاع عن التفسيرات المادية بدلا من اتباع الأدلة إلى حيث تقود. هذه الفلسفة المادية التي تتنكر في صورة العلم التجريبي، أنا أسميها العلم الزومبي.
أنا لا أسمي العلماء (أو أي أشخاص حقيقيين غيرهم) زومبي. ولكن حينما يصر الناس على الدفاع عن التفسيرات المادية بعدما يتم توضيح كونها غير متوافقة مع الأدلة، وهي بالتالي ميتة تجريبيا، فهم يمارسون العلم الزومبي.
ونحن نجد أكثر عروض العلم الزومبي الملفتة للنظر في البيولوجيا التطورية.
ما هو "التطور"؟
التطور هو الآخر مصطلح يمكن أن يعني العديد من الأشياء: التغير البسيط عبر الزمن، تاريخ الكون، تقدم التكنولوجيا، نمو الثقافة، أو حقيقة أن العديد من النباتات والحيوانات التي تعيش اليوم مختلفة عن تلك التي عاشت في الماضي. بهذه المعاني العامة، التطور لا جدال فيه.
التطور يمكن أن يعني أيضا التغيرات الصغيرة داخل النوع الموجود من جيل إلى جيل. هناك أدلة وفيرة على هذه التغيرات، وهي جلية في عائلاتنا. والناس أيضا يرصدون تلك التغيرات في الأنواع الأخرى منذ آلاف السنين؛ بالتأكيد منذ استئناس النباتات والحيوانات. لذلك التطور بهذا المعنى هو أيضا لا جدال فيه.
في عام 1859، اقترح تشارلز داروين أن الاختلافات الصغيرة في النوع الموجود يحتفظ بها أو يتم التخلص منها من خلال الانتقاء الطبيعي (البقاء للأصلح)، وبإعطائها وقت كاف تلك العملية تنشأ نوعًا جديدًا، وأعضاء، ومخططات جسدية. ورأى داروين أن الاختلافات والانتقاء غير موجه، وبالتالي نتائج التطور متروكة لعمل ما سماه بالصدفة. كتب مرة: "يبدو أنه لا يوجد تصميم في تباين الكائنات الحية، أو في عمل الانتقاء الطبيعي، أكثر من ذلك الموجود في الاتجاه الذي تهب فيه الرياح".(13)
التطور كعلم مادي
وصف داروين كتابه الأشهر (نشأة الأنواع) بأنه "حجة واحدة مطولة".(14) كانت أساسا حجة ضد الخلق من خلال التصميم، وأخذت الشكل التالي: حقائق البيولوجيا "غير قابلة للتفسير من خلال نظرية الخلق" ولكنها معقولة في نظريته عن الانحدار والتعديل.(15) منذ الطبعة الرابعة لكتابه ذهب داروين إلى أبعد من ذلك، وجادل أن فكرة أن الكائنات الحية خلقت وفقا لخطة "ليست تفسيرًا علميًا".(16) يمكننا القول أن التصميم تم استبعاده رسميا من القاعة.
غالبا ما يُزعَم أن الناس اتبعوا نظرية داروين في القرن التاسع عشر لأنه قدم العديد من الأدلة على صحتها، ولكن هذا غير حقيقي. أحد أسباب ذلك أن داروين لم يستطع تقديم أدلة على الانتقاء الطبيعي، فقط "واحد أو اثنين من الأمثلة التخيلية".(17) وعلى عكس عنوان كتابه الشهير، فشل في تفسير نشأة الأنواع. كان السبب الأساسي في تحول الناس للاقتناع بنظرية داروين هو أنها تتناسب مع الإطار المادي واسع الانتشار في ذلك الوقت.
كتب المؤرخ (نيل سي جيليسبي Neal C. Gillespie) أنه "أحيانا يقال إن داروين حوّل العالم العلمي للتطور عندما أظهر لهم العملية التي يحدث من خلالها. ولكن التحفظات الصعبة على الانتقاء الطبيعي بين معاصري داروين، والرفض واسع النطاق له من 1890 حتى 1930؛ رجح أن هذه رؤية متواضعة جدا للمسألة. إصرار داروين البالغ على التفسيرات الطبيعية الكاملة هو الذي أكسبه ولائهم، وليس الانتقاء الطبيعي".(18)
هذا يفسر لماذا نسمع القليل عن المكتشف المشارك للانتقاء الطبيعي، ألفريد راسيل والاس. بالرغم من أن نظريات الاثنين نشرت للمرة الأولى للعامة في اليوم نفسه في عام 1858، ولكن والاس كان متشككا في أن تكون التغيرات غير موجهة، وفي قدرة مفهوم البقاء للأصلح على تفسير أشياء مثل "المخ، أعضاء الكلام، اليد، والشكل الخارجي للإنسان". وتوصل بدلا من ذلك إلى أن التطور يجب أن يكون موجها من خلال "ذكاء مهيمن".(19)
كان داروين مرعوبا من هذه الفكرة. وكما يوضح المؤرخ (مايكل فلانري Michael Flannery)، فكرة والاس تحدت الإطار الكامل لداروين، "الإطار الذي عَمِل ليس فقط كسند للميتافيزيقا المادية، ولكن في الواقع تم تقديمه كبرنامج العمل الرسمي الفعًّال". "النتيجة الحتمية"، وفقا لفلانري، هي "أن التطور الدارويني، أبعد بكثير من أن يكون نظرية علمية (أو تجريبية)، وأن «الحجة الواحدة المطولة» هي لإثبات صحة قبلية a-priori ميتافيزيقية".(20)
إذن "الثورة الداروينية" كانت انتصارا للفلسفة المادية.(21) وبالرغم من ذلك، لم تشتهر نظرية داروين في البيولوجيا حتى ثلاثينيات القرن العشرين، حينما تطفلت على نظرية الجينات التي كانت مدعومة بأدلة تجريبية أفضل بكثير (أنظر الفصل الرابع). مزيج الاثنين أصبح معروفا باسم "التركيبة الحديثة" أو الداروينية الحديثة".
التطور الكبير والتطور الصغير
في ثلاثينيات القرن العشرين، استخدم البيولوجي الدارويني (ثيودوسيوس دوبچانسكي Theodosius Dobzhansky) كلمة "التطور الصغير" للإشارة إلى التغيرات الصغيرة ضمن النوع الواحد، وكلمة "التطور الكبير" للإشارة إلى نشأة الأنواع الجديدة والأعضاء ومخططات الأجساد. وكتب: "لا توجد وسيلة لفهم آليات التغيرات التطورية الصغيرة، التي تحتاج لوقت على المقياس الجيولوجي، إلا من خلال استيعاب كامل للعمليات التطورية الصغيرة الملاحظة في دورة حياة الإنسان، والتي غالبا ما تكون محكومة بإرادته. لهذا السبب نحن مجبرين في ظل المستوى الحالي من المعرفة أن نضع كرها علامة التساوي بين آليات التطور الكبير والصغير، وأن نُكمِل مع هذا الافتراض، لكي نمضي قدما بتحقيقاتنا حيثما سمحت لنا هذه الفرضية أن نمضي".(22)
كما رأينا بالأعلى، التطور الصغير ليس مثيرًا للجدل. ولكن داروين لم يكتب كتابا بعنوان (كيف تتغير الأنواع الموجودة عبر الزمن). فالذي كتبه هو كتاب بعنوان (نشأة الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي). ورغم أنه لم يستعمل كلمات دوبچانسكي (لأنها ظهرت لاحقا)، لكن نظريته كانت عن أنه إذا أعطينا التطور الصغير الوقت الكافي فسينتج لنا التطور الكبير. وعلى الرغم من الكم الهائل من الأبحاث البيولوجية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، ظلت "علامة التساوي" بين التطور الصغير والتطور الكبير لا تتعدى كونها فرضية، كما أسماها دوبچانسكي. وبالفعل، ظلت فرضية تتضور جوعا بسبب قلة الأدلة. المتحدثون باسم الإجماع العلمي الحالي غالبا ما يخلطون بين أدلة التطور الصغير والتطور الكبير ويشيرون إليهم ببساطة بكلمة التطور؛ مجرد تلاعب بالألفاظ، بدلا من إيجاد أدلة "علامة التساوي" بين الاثنين التي تمناها دوبچانسكي. هذا الخلط مؤسف، ولكنه شائع الحدوث.
الإجماع العلمي أيضا يتفق مع داروين في الإصرار على أن التطور غير موجه، على الرغم من أن أنصاره قد يصبحوا مراوغين في هذه النقطة عندما تتناسب مع أغراضهم الخطابية في إقناع الناس. أود في هذه الصفحات أن أزيل اللبس قدر الإمكان، ولكني أيضا أود أن أتجنب اللغة الثقيلة، لذلك سأستخدم كلمة "التطور" طوال الكتاب للإشارة إلى "التطور الكبير غير الموجه"، إلا إن صرحت بخلاف ذلك.
لا شيء في البيولوجيا
في 1973، كتب دوبچانسكي مقالا بعنوان "لا شيء في البيولوجيا يفهم إلا في ضوء التطور".(23) وبالتطور دوبچانسكي يعني التطور الدارويني الحديث. تصريحه هذا أصبح مبدأً إرشاديًا في حياة العديد من البيولوجيين. وهو الآن افتراض أساسي داخل معظم الأبحاث والكتابات في هذا التخصص.
أولئك الذين يؤمنون بتصريح دوبچانسكي يصرون أنهم يفعلون ذلك بسبب الأدلة، ولكن ما سنعرضه بالأسفل سيظهر أن الأمر ليس كذلك.(24) ليس شرطًا أن يؤمن الشخص بالمادية لكي يؤمن بالتطور، ولكن التطور قصة مادية. وبما أن القصة المادية تنتصر على الدليل، فنحن أمام العلم الزومبي.
أيقونات التطور
وفقا للإجماع العلمي الحالي، هناك "أدلة ساحقة" على صحة التطور. والأدلة عادة ما تقدم من خلال الصور، والتي من كثرة ما تم استخدامها اكتسبت مكانة "الأيقونات". في عام 2000، كتبت كتابا يحلل عشرة منهم(25):
تجربة (يوري-ميلر): تجربة عام 1953 التي من المفترض أنها أظهرت كيف من الممكن أن تكون اللبنات الكيميائية للحياة تشكلت تلقائيا في تاريخ الأرض المبكر.
شجرة الحياة لداروين: رسم بياني لشجرة متفرعة تستعمل لشرح مفهوم الانحدار مع التعديل لكل الكائنات الحية من أسلاف مشتركة.
التشابه في أطراف الفقاريات: التشابه في عظام الأطراف تستعمل كدليل على أن الفقاريات (الحيوانات التي لها عمود فقري) انحدرت كلها من سلف مشترك.
أجنة هيكِل: رسومات التشابهات للأجنة المبكرة التي تستعمل كدليل على أن كل الفقاريات (بما فيها البشر) تطورت من حيوانات شبيهة بالأسماك.
أركيوبتركس: حفرية طائر له أسنان في فمه ومخالب في أجنحته، غالبا ما الاحتجاج بها على أنها الحلقة المفقودة بين الزواحف القديمة والطيور الحديثة.
العث الإنجليزي المنقط: صور العث المستلقي على سيقان الأشجار، يفترض أنها تقدم دليلا على التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي.
عصافير داروين: ثلاثة عشر نوعا من العصافير على جزر الجالاباجوس والتي تستعمل كدليل على نشأة الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي.
ذباب الفاكهة رباعي الأجنحة: ذباب الفاكهة الذي له زوجين إضافيين من الأجنحة والذي يفترض أنه يقدم دليلا على أن طفرات الدنا DNA تقدم المواد الأولية الخام للتطور الكبير.
أحافير الأحصنة: الحفريات التي استعملت مرة لإظهار أن التطور يسير في خط مستقيم واستعملت مرة أخرى لإظهار العكس.
الأيقونة العظمى: رسومات المخلوقات الشبيهة بالقرود التي تتطور تدريجيا إلى البشر، والتي تستعمل لإظهار أننا مجرد حيوانات تم إنتاجنا بالأسباب الطبيعية التي ليس لها غاية.
كل "أيقونات التطور" هذه تحرف الأدلة، وكما سنرى، يعرف العديد من البيولوجيين ذلك منذ عقود. إذن بحلول عام 2000، كان يجب أن تحذف الأيقونات من كتب البيولوجيا المدرسية. ولكنها كانت، وما زالت، تستعمل لإقناع الطلاب أن التطور حقيقة.
ينظر الفصل الثاني في الأيقونات التي تقبع في قلب النظرية التطورية؛ شجرة الحياة لداروين، ويفحص الفصل أيضا كيف أفسد التطور مفهوم التشابه البنيوي (التناظر). يلخص الفصل الثالث لماذا الأيقونات الثمانية الأخرى ماتت في عام 2000، ويوثق كيف أنها بالرغم من ذلك ما زالت تستعمل حتى اليوم. ومن الفصل الرابع حتى الثامن أقدم ستة أيقونات إضافية للتطور والتي –مثل العشرة المذكورة بالأعلى– تستعمل لتضليل الناس وتلقينهم التطور. وأخيرا، يشرح الفصل التاسع كيف أن العلم الزومبي انتشر أبعد من العلم إلى الدين والتعليم، وكيف يستمر في تحريف العلوم بشكل عام.
ولكن، كما سأوضح أيضا، هناك شعاع أمل.
[*] يشير المؤلف بالطبع إلى فترة نيوتن وكيبلر وجاليليو وغيرهم، لكن لا شك أن في المسألة خلاف تاريخي بين المسلمين والمسيحيين حول متى ظهرت الممارسة العلمية. لكن سواء كانوا مسلمون أو مسيحيون، فهذا لا ينقض دعوى كونهم مؤمنين بالإله ورافضين للفلسفة المادية.
(1) John W. Gofman and Frank Lindgren, “The role of lipids and lipoproteins in atherosclerosis,” Science 111 (1950): 166–171. doi:10.1126/science.111.2877.166. PMID:15403115.
(2) Ancel Keys, “Atherosclerosis: A problem in newer public health,” Journal of Mount Sinai Hospital, New York 20 (1953): 118–139. PMID:13085148.
(3) Jacob Yerushalmy and Herman E. Hilleboe, “Fat in the diet and mortality from heart disease; a methodologic note,” New York State Journal of Medicine 57 (1957): 2343–2354. PMID:13441073.
(4) David Kritchevsky, “History of recommendations to the public about dietary fat.” Journal of Nutrition 128 Supplement (1998): 449S–452S. PMID:9478046.
(5) Irvine H. Page, Edgar V. Allen, Francis L. Chamberlain, Ancel Keys, Jeremiah Stamler, and Fredrick J. Stare, “Dietary fat and its relation to heart attacks and strokes,” Circulation 23 (1961): 133–136. doi:10.1161/01.CIR.23.1.133.
(6) U. S. Senate Select Committee on Nutrition and Human Needs, Dietary Goals for the United States (2nd edition; Washington, DC: U.S. Government Printing Office, 1977). http://zerodisease.com/archive/Dietary_Goals_For_The_United_States.pdf.
(7) U.S. Department of Agriculture, The Food Guide Pyramid (Washington, DC: Human Nutrition Information Service, Home and Garden Bulletin No. 252, 1992). http://www.cnpp.usda.gov/sites/default/files/archived_projects/FGPPamphlet.pdf.
(8) U.S. Department of Agriculture, USDA’s Food Guide: Background and Development (Washington, DC: Human Nutrition Information Service, 1993). http://www.cnpp.usda.gov/sites/default/files/archived_projects/FGPBackgroundAndDevelopment.pdf.
(9) U.S. Department of Agriculture, Scientific Report of the 2015 Dietary Guidelines Advisory Committee (February, 2015): 17. http://www.health.gov/dietaryguidelines/2015-scientific-report/PDFs/Scientific-Report-of-the-2015-Dietary-Guidelines-Advisory-Committee.pdf.
(10) Anahad O’Connor, “Nutrition panel calls for less sugar and eases cholesterol and fat restrictions,” The New York Times (February 19, 2015). http://well.blogs.nytimes.com/2015/02/19/nutrition-panel-calls-for-less-sugar-and-eases-cholesterol-and-fat-restrictions/.
(11) Alvin Plantinga, “Methodological Naturalism?” Origins & Design 18:1 (1997). http://www.leaderu.com/orgs/arn/od-esign/od181/methnat181.htm.
(12) Alvin Plantinga, “Methodological Naturalism? Part 2,” Origins & Design 18:2 (1997). http://www.arn.org/docs/odesign/od182/methnat182.htm.
(13) Francis Darwin, ed., The Life and Letters of Charles Darwin, Including an Autobiographical Chapter (London: John Murray, 1887), I:309. http://darwin-online.org.uk/content/frameset?itemID=F1452.1&viewtype=text&pageseq=327.
(14) Charles R. Darwin, On the Origin of Species by Means of Natural Selection, 1st ed. (London: John Murray, 1859), 459.
(15) Ibid., 372.
(16) Charles R. Darwin, On the Origin of Species by Means of Natural Selection, 4th ed. (London: John Murray, 1866), 513.
(17) Darwin, Origin of Species (1859), 90.
(18) Neal C. Gillespie, Charles Darwin and the Problem of Creation (Chicago: University of Chicago Press, 1979), 147.
(19) Alfred Russel Wallace, “Sir Charles Lyell on geological climates and the origin of species,” Quarterly Review 126 (April 1869): 359–394, 391 and 394. http://people.wku.edu/charles.smith/wallace/S146.htm.
(20) Michael A. Flannery, Alfred Russel Wallace: A Rediscovered Life (Seattle, WA: Discovery Institute Press, 2011), 67.
(21) Jonathan Wells, “Darwin’s straw god argument,” Discovery Institute (2008). http://www.discovery.org/a/8101.
(22) Theodosius Dobzhansky, Genetics and the Origin of Species (New York: Columbia University Press, 1937), 12.
(23) Theodosius Dobzhansky, “Nothing in biology makes sense except in the light of evolution,” American Biology Teacher 35 (1973): 125–129. doi:10.2307/4444260.
(24) Stephen Dilley, “Nothing in biology makes sense except in light of theology?” Studies in History and Philosophy of Biological and Biomedical Sciences 44 (2013): 774–786. doi:10.1016/j.shpsc.2013.06.006.
(25) Jonathan Wells, Icons of Evolution: Science or Myth? (Washington, DC: Regnery Publishing, 2000).