مقدمة
مرة أخرى، نعود لنشارك أنصار التطور رحلتهم الشاقة تنقيبا عن الحلقات المفقودة، ونتابع واحدة من أكثر قصص التطور شهرة وغرابة، والتي تعد من الأحداث الكبرى في تاريخ التطور، نعود لنلقى نظرة مختصرة على أحد أهم فصول هذه القصة.
من خلال هذا الطرح نرصد تأريخ السجل الأحفوري لذلك الحدث الملحمي الذي يحكى لنا كيف تطورت وحوش اليابسة، التي كانت تسير على أربع، إلى وحوش البحار المهيمنة (الحيتان).
قصة تطور الحوت
الحيتانيات –الحيتان والدلافين– هي إحدى أضخم الثدييات، لكنها خلافا لمعظمها –التي تعيش على الأرض– تعيش حياتها كاملة في الماء، مع ذلك فهي ليست من الأسماك.
كان محتما على أنصار التطور حل تلك المعضلة، ووضع السيناريو الخاص بكيفية تطور هذه الثدييات وانتقالها إلى البحر مرة أخرى، بعدما غادرته قديما. لذلك افترض الطرح التطوري أن الحيتان ككل الثدييات تطورت من الزواحف، والتي تطورت بدورها عن البرمائيات، التي غادرت هي الأخرى المحيطات بعدما تطورت عن الأسماك، وذلك من حقب زمنية سابقة، حيث تركت الزواحف –أسلاف الثدييات– البحر منذ حقب زمنية سحيقة في تاريخ التطور، ونمت لها الأرجل، وكساها الفراء وتطورت الرئتان.
الأعجب هنا، هو إصرارها مرة أخرى على العودة إلى البحر، وذلك في حدث ملحمي استثنائي، لتفقد أرجلها وفرائها، وتبقي على رئتيها ونظام تكاثرها رغم هذه التحولات الجذرية التي طالت بنيتها.
ولدعم هذا الطرح، كان على أنصار التطور تقديم الأدلة والتنقيب في طبقات الأرض القديمة بحثا عن تسلسل انتقالي زمني بسجل أحفوري لأسلاف منقرضة كانت تسير على الأرجل، تظهر تدرجا وأشكالا وسيطة بين ثدييات الأرض وثدييات البحر، لكن ملامح ذلك السلف الأرضي القديم للحيتان ظلت شبحية برغم الافتراض السابق لداروين في مصنفاته –على استحياء– أنه كان دبا.
ولم تتكشف ملامح قصة تطور الحوت إلا بحلول عام 1966، حين قام عالم الأحافير فان فالينVan Valen أثناء فترة عمله بمتحف نيويورك للتاريخ الطبيعي برصد بعض التشابهات بين عظام مجموعة من آكلات اللحوم المنقرضة المسماة بوسطية الحوافرMesonychids مع أحافير وعظام الحيتان Cetacea.
هذه الحيوانات المنقرضة الشبيهة بالذئاب والمسماة بـ(Mesonychids) امتلكت أسنان ثلاثية شبيهة بتلك التي في الحيتان المعاصرة، واستنتج فالين من تلك المشاهدة أن الحيتان انحدرت منها.(1)
منذ ذلك الحين توجهت بوصلة أنصار التطور وعلماء الأحافير للبحث في ذلك الاتجاه الذي اقترحه فالين عن عظام أسلاف الحوت، التي تمتلك صفات مورفولوجية (هيكلية– تشريحية) مرتبطة بمجموعة وسطية الحوافر Mesonychids، وكان رائد البحث في هذا الاتجاه هو عالم الأحافير جنجريتش Gingerich، المتخصص ببحثه عن أسلاف الحوت، والذي بدأ رحلته في البحث خلال عقد السبعينيات من القرن المنصرم، واستمر لأكثر من عقدين في رسم الأطر العامة لسجل تطور الحيتان وتبعاته، وتزامنت معه كشوفات حفرية أخرى ودراسات متعددة لعلماء أخرين، والتي نتج عنها تأطير للخطوط العريضة لذلك المسار عبر سجل أحفوري مفترض، اصطفت خلاله سلسلة كاملة من الحيوانات المنقرضة واحدا بعد الآخر في تتابع زمني، وفقا للفترات الجيولوجية التي كانوا يعيشون فيها، ووصفت بأنها أشكال انتقالية متسلسلة بين الثدييات البرية والثدييات المائية بالكامل على نحو ما، كما يظهرها المخطط التالي.
قبل 50 مليون سنة | باكيسيتوس Pakicetus الأرضية بالكامل |
قبل 49 مليون سنة | أمبيلوسيتوس Ambulocetus شبه المائية |
قبل 46 مليون سنة | Rodhocetus Protocetid شبه المائية |
قبل 37 مليون سنة | باسيلوسورس Basilosaurus المائية بالكامل |
هكذا يحكى التطور قصة تحول الحوت بمخططات رائعة وقصة مثيرة، وهذا النوع من القصص يروقنا جميعا.
لكن دعونا نتعمق مع تلك القصة بجرعة أكبر من الإثارة، ونحاول إلقاء نظرة مدققة على هذا المقترح الذى يسجله السجل الأحفوري كعنصر وحيد للطرح، ولا ضير من أن نفتح أثناء عروجنا داخل أعماق تلك القصة أكثر من نافذة، نرى من خلالها مغالطات متأصلة وعامة في أصل المنهج التطوري، وقبل أن نبدأ بعرضنا هذا، أعدوا لأنفسكم فنجانا من القهوة وانعشوا ذاكرتكم ببعض التركيز لمتابعة تسلسل الأحداث.(2)
(1) Van Valen, “Deltatheridia, A New Order of Mammals,” Bulletin of the American Museum of Natural History 132 (1966): 92.
digitallibrary.amnh.org/dspace/handle/2246/1126
Van Valen, "The Deltatheridia, a new order of mammals." Bull. Am. Mus. Nat. Hist, 1321-126. L. 1966.
icb.oxfordjournals.org/content/41/3/487.full#ref-36
(2) J. G. M. Thewissen and E. M.Williams, "The Early Radiations Of Cetacea (MAMMALIA): Evolutionary Pattern and Developmental Correlations", Annu. Rev. Ecol. Syst. 2002. 33:73–90.
www3.neomed.edu/DEPTS/ANAT/Thewissen/pdf/2002ThewWillAnnRev.pdf