مقدمة
"أبي، أهذا أنت؟!" قالها ولدي ذو الأربعة عشر عامًا والدهشة تملؤه حين نظر في الجريدة بحثًا عن نتائج البيسبول، بينما ننتظر لندفع ثمن مشترياتنا في المتجر الصغير، كانت دهشته مضاعفة لرؤية وجهي في الصفحة الأولى لجريدة سياتل المحلية ولمعرفته لمكاننا1، على جزيرة شاو في أكثر المناطق النائية من سلسلة سان خوان شمال بوجيت ساوند؛ حيث كان هذا المتجر هو المؤسسة التجارية الوحيدة.
ولم يفُت زوجتي أن تلاحظ ما في الموضوع من مفارقة، فرفعت حاجبيها وقالت: "ظننت أننا قدمنا إلى هنا لنكون بمنأى عن هذا كله"، نعم اعتقدنا ذلك، ولكن كيف لي أن أعلم أن جريدة سياتل المحلية ستعيد نشر خبر الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تايمز البارحة عن برنامج العلماء الذي أدرْتُه والجدل الذي أحاط بأبحاثنا؟2
ذلك الجدل الدائر عن نشأة الحياة وعن نشأتها من عمليات مادية غير موجهة أو من نوع ما من التصميم الذكي، ليس بالأمر الجديد؛ فهذا الجدل يعود في الحضارة الغربية لعصر الإغريق على أقل تقدير، ذاك العصر الذي أنتج مفكرين مدافعين عن كلا المدرستين، لكن الجدل حول نظرية التصميم الذكي المعاصرة وتحديها الضمني لنظرية التطور التقليدية أصبح خبرًا جديدًا هامًّا منذ عام 2004 و2005، ولقد وجدت نفسي (لحسن الحظ أو سوئه) في خضم هذا الجدال.
ولقد أشعلت ثلاثة أحداث شرارة اهتمام الإعلام الشديد بهذا الموضوع؛ كان الأول في آب/أغسطس من عام 2004؛ حيث نشرت صحيفة مختصة في متحف سميثسونيان بواشنطن Smithsonian [اسمها: محاضر الجمعية البيولوجية في واشنطن Proceedings of the Biological Society of Washington] مقالًا مُحكمًا هو الأول من نوعه يقدم بصراحة نظرية التصميم الذكي في مجلة علمية بارزة، بعد نشر هذا المقال، احتدم الجدل داخليًّا في متحف "سميثسونيان" للتاريخ الطبيعي، وانتفض العلماء سخطًا على محرر المجلة –وهو عالم بيولوجيا تطورية حائز على شهادتي دكتوراه– معارضين سياسته التحريرية ومطالبين بمعاقبته، ولكن سرعان ما تسرب الجدل للمجلات العلمية؛ حيث ظهرت أخبار جديدة عن المقال وعن قرار المؤلف في مجلات عدة مثل Science وNature و The Scientist و Chronicle of Higher Education.3
شاع الخبر في الإعلام من شدة إحراج معهد سميثسونيان؛ مما أدى إلى موجة ثانية من الاتهامات المضادة؛ فعُزل المؤلف ريتشارد ستيرنبرغ Sternberg Richard، ومُنع من الحصول على عينات علمية، ونُقل بعد ذلك ليعمل تحت مشرف يُكنُّ له العداوة، بعدما حقق مكتب التحقيقات الخاصة في الولايات المتحدة في قضية ستيرنبرغ –وهي منظمة مراقبة حكومية– ولجنة الإصلاح الحكومي –وهي لجنة تشريعية– كُشف النقاب عن أعمال أخرى مشبوهة،4 خلص كلا التحقيقين إلى أن مدراء المتحف قاموا باستجواب زملاء ستيرنبرغ عن معتقدات ستيرنبرغ الدينية والسياسية، وأثاروا حملة نشر للمعلومات الكاذبة للنيل من سمعته العلمية ودفعه للاستقالة،5 لم يستقل ستيرنبرغ من منصبه البحثي، ولكن خُفّضت رتبته بعد ذلك.
ومع انتشار نبأ إساءة معاملة ستيرنبرغ، بدأت وكالات الأخبار الشعبية بنشر أخبار قضيته، وعادةً عندما أقرأ أخبارًا كهذه أكتفي بهز رأسي في أسى وأكمل قراءة باقي الأخبار، لكنني لم أستطع فعل ذلك حينها؛ فقد كنت أنا كاتب هذا المقال المزعج، وجاءني بعض الصحفيين المهتمين بسوء المعاملة التي يلقاها ستيرنبرغ محملين بالأسئلة؛ وأرادوا معرفة المزيد عن نظرية التصميم الذكي وسبب الفزع الذي أثارته في الأوساط العلمية.
لاحقًا في كانون الأول/ديسمبر من عام 2004، أثار حدثان آخران اهتمام العالم بهذه النظرية؛ وكان الأول إعلان الفيلسوف البريطاني المشهور أنتوني فلو Anthony Flew تبرؤه من الإلحاد بعد عمر طويل قضاه ملحدًا، مستشهدا بالأدلة على التصميم الذكي في جزيء الدنا6 (بالإضافة لعوامل أخرى)، وقد أشار فلو إلى تشابه مذهل بين آرائه عن نشأة الحياة وما أعلنه "منظرو التصميم الأمريكيون"، ومجددًا، كان التصميم الذكي في واجهة الأخبار، لكن هذه المرة وجدت نفسي على قناة بي بي سي أجادل عالمًا بارزًا في البيولوجيا التطورية حول النظرية.
لاحقًا في ذات الشهر، أعلن اتحاد الحريات المدنية الأمريكي ACLU عن مقاضاة هيئة تدريس إحدى المدارس في مدينة دوفر غربي بنسلفانيا؛ حيث أعلنت الهيئة أنها تنوي أن تسمح لطلاب المدرسة بتعلم نظرية التصميم الذكي، وللقيام بذلك اقترحت الهيئة إعلام الطلبة بوجود كتاب في مكتبة المدرسة، يُطرح فيه الدليل على التصميم الذكي في مواجهة النظريات التطورية المعتادة المقدمة في كتب علم البيولوجيا الحالية، ومع إعلان الاتحاد نيته مقاضاة المدرسة، انهالت وكالات الأنباء بالجملة على المدينة.
لا شك أن جحافل الصحفيين المنشغلين بتغطية هذه الأحداث كانوا على علم بقصة محاكمة سكوبس Scopes المعروفة بـ"محاكمة القرد" في عام 1925، وربما عرفوا بها من فيلم الخيال لسبنسر تريسي "ورثة الريح Inherit the Wind"، إن لم يكن من مصدر آخر، وفي المدينة كان هناك شعور أنه الآن تُصنع تتمة لذلك الفيلم، وخلال عام 2005 نشرت كل شبكات الأخبار الأمريكية التلفزيونية الرئيسية منها والمحلية مقتطفات عن نظرية التصميم الذكي، أو النزاع في دوفر، أو كليهما، وقد انتشرت هذه القصص على صفحات الجرائد حول العالم، من التايمز Times اللندنية، مرورًا بسيكاي نيبو Sekai Nippo في طوكيو، والتايمز الهندية، ودير شبيغل Der Spiegel، ووصولًا إلى جيروسالم بوست Jerusalem Post.
ثم في آب/أغسطس 2005 عندما لاحت نهاية الاهتمام الإعلامي بهذه القضية، ألقى العديد من القادة الدينيين والسياسيين –من أمثال الدالاي لاما، والرئيس جورج بوش، وبابا الفاتيكان– خطاباتٍ داعمة إما للتصميم الذكي أو للسماح للطلاب بتعلم المزيد عن الجدل المحيط بها، وعندما نشرت التايمز مقالًا آخر عن ذلك الجدل، عادت هواتفنا لاستقبال الكثير من الاتصالات من جديد.
مع اقتراب انتهاء فصل الصيف، قررت وزوجتي أنه قد حان الوقت لأخذ إجازة مع العائلة؛ حيث إن بعض الأصدقاء قد عرضوا علينا أن ننزل في منزلهم على تلك الجزيرة، ولكن خلال أسبوعي الإجازة نشرت صحيفة نيويورك تايمز New York Times في صفحتها الأولى مقالتين عن برنامجنا في معهد ديسكفري، وكذلك صحيفة الواشنطن بوست Washington Post نشرت أخبارًا عن آخر التطورات في قضية ستيرنبرغ، أما افتتاحية النيويورك تايمز فقد عرضت نقدًا لستيرنبرغ بقلم رئيس تحريرها،7 وعندما قرر ستيرنبرغ الظهور على برنامج أوريلي فاكتور The O’Reilly Factor،علمنا أنه لا بد من العودة إلى سياتل.8
لقد أعطتني سوء السمعة التي حظيتُ بها منصة لي ولزملائي كنا بأمس الحاجة إليها لننطلق في تصحيح الأفكار المغلوطة حول نظرية التصميم الذكي؛ فقد خلطت العديد من المقالات والتقارير بين التصميم الذكي والخلقوية التوراتية بتفسيرها الحرفي لسفر التكوين، في حين ردَّدت مقالات أخرى الأفكار نفسها التي طرحناها في نقدنا، وصوّرت عملنا على أنه "خذلان للعلم" أو محاولة خبيثة للتحايل على المنع القانوني الذي أقرّته المحكمة العليا سنة 1987 ضد تعليم نظرية الخلقوية في المدارس العامة.
مع ذلك، كنت مدركًا أن النظرية المعاصرة للتصميم الذكي لم تطوّر كتدبير قانوني، وهي بالطبع لم تُطوّر لتخدم نظرية الخلقوية، بل كان أول من تناولها مجموعة من العلماء – مثل تشارلز ثاكستون Charles Thaxton، والتر برادلي Walter Bradley، روجر أولسن Roger Olsen في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات– كتفسير محتمل للغز المستعصي على الحل في علم البيولوجيا: نشأة المعلومات الرقمية المرمزة على طول شريط جزيء الدنا.9
وضّحت مرارًا للمراسلين ومقدمي البرامج التلفزيونية أن نظرية التصميم الذكي ليست مبنية على نص ديني، حتى وإن كان فيها ما يدعم الاعتقاد بالإله (وهو ما سأعود إليه لاحقًا في الفصل 20)، على العكس، تعتبر هذه النظرية علميةً ومبنيةً على البرهان بأن نشأة الحياة يتحدى بالتحديد نظريات التطور المادي.
تتحدى نظرية التصميم الذكي معتقدات معينة في نظرية التطور المعاصرة؛ فبحسب علماء الداروينية الجديدة مثل ريتشارد دوكينز Richard Dawkins من أوكسفورد، فإن النظم الحية "تعطي انطباعًا بأنها صممت لغرضٍ ما"، ولكنّ بالنسبة لدوكينز والداروينيين الجدد فإن مظهر التصميم هذا خادع تمامًا؛ لأنهم يرون أن العمليات غير الموجهة تمامًا كالانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية يمكن أن تنتج البُنىً ذات مظهر التصميم الموجودة في الأنظمة الحية، ومن وجهة نظرهم، يمكن للانتقاء الطبيعي أن يحاكي قدرات التصميم الذكي دون أن يكون موجهًا بأي شكل.
على العكس من ذلك، فنظرية التصميم الذكي ترى أن هناك خصائص ذات دلالة في النظم الحية والكون برمته، وأفضل تفسير لها هو سبب ذكي (أي أنها نشأت باختيار واعٍ لكائن عاقل) وليس العمليات غير الموجهة، إما أن الحياة ظهرت نتيجةً لعمليات غير موجهة تمامًا، أو أن ذكاءً موجهًا لعب دورًا في ذلك، ويدافع أنصار التصميم الذكي عن الخيار الثاني بالاعتماد على أدلة من العالم الطبيعي، وهذه النظرية لا ترفض التطور بمفهوم العام [أنه التغير مع الزمن، أو حتى مفهوم السلف المشترك]، ولكنها تشكك في الفكرة الداروينية بأن كل التغييرات البيولوجية عشوائية تمامًا وغير موجهة على الإطلاق، وعلى الرغم من ذلك، فالنظرية غير مبنية على معتقد إنجيلي؛ فالتصميم الذكي ما هو إلا استنتاج من الأدلة العلمي، وليس استنتاجًا من مصادر دينية.
لقد شعرت دائمًا وكأن هناك عملًا لم ينجز بعد، رغم الفرصة التي حصلتُ عليها في الإعلام لتوضيح موقفي.
وبحلول عام 2005 كنت قد كرّست ما يقرب من عشرين عامًا من حياتي لتطوير قالب للتصميم الذكي بناءً على اكتشاف خصائص حمل المعلومات (الرمز الرقمي) التي يتمتع بها جزيء الدنا. وكتبت سلسلة من المقالات العلمية والفلسفية لتطوير هذه الفكرة،10 ولكن لم تكن هذه المقالات منشورة ولا مجموعة في مجلد واحد، الآن أجد نفسي كثيرًا في موقف المدافع عن حجة ما من خلال تسجيلات قصيرة، ولا يعلم المستمعون عنها ما يكفي لتقديرها، وكيف لهم ذلك؟ ربما لم تتمتع الحجة الأساسية في التصميم الذكي –وهي الفكرة التي دفعتني لتبني الفرضية أساسا– بالشرح الكافي لجمهور مثقف علميًّا بشكل عام.
بالتأكيد، مع حلول العام 2005 كانت قد ظهرت العديد من الكتب والمقالات الممتازة (ومنها عددٌ من الكتب المحكّمة المهمة) التي ألمّت بنواحٍ مختلفة من النظرية، وفي عام 1996، قدم عالم الكيمياء الحيوية من جامعة ليهاي مايكل بيهي Michael Behe طرحًا مفصّلًا لأدلة على التصميم الذكي بناءً على اكتشاف تقنية النانو في الخلايا (مثل محرك السوط الجرثومي الشهير حاليًا ومحركه الدوار المؤلف من ثلاثين قطعة)، بيعت من نسخ كتابه "صندوق داروين الأسود" أكثر من ربع مليون نسخة، ويمكن القول أن الكتاب استطاع بمفرده تقريبًا أن يجعل لفكرة التصميم الذكي مكانًا على الخارطة العلمية والثقافية.
وفي عام 1998، أتبعه ويليام ديمبسكي William Dembski (عالم الرياضيات والفيلسوف الحاصل على شهادتي دكتوراه إحداها من جامعة شيكاغو) بنشر عمل مزلزل عن آليات رصد التصميم "استنتاج التصميم The Design Inference"، ونُشِر بدار نشر جامعة كمبردج، وبذلك أسّس لطريقة علمية لتمييز آثار الذكاء من آثار العمليات الطبيعية غير الموجهة، أسّس عمله لمؤشرات ثابتة للتصميم الذكي، ولكنه لم يطرح أي حجة لصالح وجود التصميم الذكي في الكائنات الحية بناءً على وجود تلك المؤشرات.
كانت تلك الأعمال هامة جدًا، ولكنني اقتنعت أكثر بالنظرية بطريق آخر. فمع مرور الزمن، بدأت أطور حجة متعلقة، ولكنها مستقلة. ولكن للأسف لدي ولعٌ بكتابة مقالات طويلة في مجلّاتٍ غامضة، حتى أن مقالتي في محاضر المجتمع البيولوجي بواشنطن استقطبت الكثير من الانتباه بسبب الجدل في متحف سميثسونيان وليس بسبب حجتي ذاتها، ولكن هذا الأمر ليس بالغريب في بعض الدوائر العلمية.11
على أي حال، لم أستطع أن أقنع وكالات الأنباء التي اتصلت بي أن تنشر عن السبب الذي جعلني اعتقد أن في الدنا إشارات للتصميم الذكي، ورفض المراسلون تغطية المناقشة في مقالاتهم أو مؤتمراتهم الصحفية، وتعمد خصوم المناظرات تجنب الرّد عليّ، وبدلًا من ذلك استمرّوا في عرض كلامهم عن مخاطر "نظرية التصميم الذكي الخلقوية"، بل حتى القاضي في قضية دوفر حكم في الصلاحية العلمية للنظرية دون التطرق لدليل الدنا.
على الرغم من ذلك لم أكن أفضل أن يحكم قضاة الدولة على جدارة أي موضوع علمي –فضلًا عن قضية علمية أناصرها– ولكن محاكمة دوفر والتغطية الإعلامية المرافقة لها نبهتني بأن عليّ أن أعرض حجتي بطريقة بارزة.
اعترف العديد من علماء البيولوجيا التطوريين بعجزهم عن تفسير نشأة الحياة الأولى، وفشلت النظريات الرائدة فشلًا ذريعًا لأنها لم تستطع أن تفسر نشأة المعلومات الغامضة في الخلية، وبهذا بدا أنه لا يوجد أي حجج مضادة جيدة لما طرحته، ومع ذلك ظلت استراتيجيات التجنب هي الخطة الفعالة ضد الحجة لأنها لم تحظ بشهرة كافية بين العامّة تجعل من اللازم الرد عليها؛ حيث لم يعلم سوى القليل جدًّا من العامة والمجتمع العلمي والإعلام عن الموضوع، وبالرغم من ذلك فقد قدّمت حجتي أحد أهم الأسباب المهمة والجوهرية التي تدفع لأخذ نظرية التصميم الذكي بعين الاعتبار.
لم يكن أيّ من ذلك مفاجئًا أبدًا؛ فمنذ الحرب العالمية الثانية شدّد العلماء على أهمية نشر أعمالهم في المجلات المتخصصة المُحكّمة، ولكن عبر ماضي العِلم كانت النظريات والأفكار التي تتبنى "تغييرًا فكريًّا جذريًّا" تنشر في الكتب، ومنها العديد مما نطلق عليه اليوم "المنشورات التجارية" (بدلًا من المنشورات الأكاديمية).
هنالك عدد من الأسباب وراء ذلك، ومنها أن الكتب تمكّن العلماءَ من صياغة حجج قوية ووافية للأفكار الاصطناعية الشاملة، وقد وضّح فيلسوف العلم مارتشيللو بيرا Marcello Pera الإيطالي، أن العلماء عادة ما يتجادلون حول تفسيرات متنافسة للدليل،12 على الرغم من ذلك يتم بنجاح أحيانًا في المقالات القصيرة (كما فعل آينشتاين في إثبات النسبية العامة والخاصة، وما فعله واطسون وكريك في مقالهم المؤلف من تسعمائة كلمة والذي طرحا فيه فكرة البنية الحلزونية المزدوجة للـدنا) إلا أن الكتب كانت الأسلوب المتّبع غالبًا لطرح وتقييم الحجج الجديدة للتفاسير الاصطناعية الشاملة للأدلة.
ربما كان أفضل مثال على هذه الوسيلة من وسائل الخطاب العلمي هو ما قدّمه تشارلز داروين نفسه، وهو الذي وصف عمله في كتاب "عن نشأة الأنواع بالانتقاء الطبيعي On the Origin of Species by Means of Natural Selection" بأنه "حجّةٌ واحدة طويلة"13؛ حيث قدّم داروين تفسيرًا شاملًا لنواحٍ متعددة من الدليل، كما حاجج لصالح القدرة التفسيرية المتفوقة لفرضيته وما اشتملت عليه من طرحين أساسيين: 1) القدرة الخلاقة للانتقاء الطبيعي، و2) انحدار كل أشكال الحياة من سلف مشترك.
وكجزءٍ من حجته حاجج أيضًا ضد كفاية التفسيرات المنافسة للأدلة ودحض حججها، وهناك علماء آخرون فضّلوا استعمال الكتب لتقديم حججهم العلمية المبتكرة التي تهدف لتفسيرات جديدة وشاملة للأدلة العلمية، مثل نيوتن وكوبرنيكوس وغاليليو ولايل Lyell وجملة ممن هم أقل منهم شهرة.
هنالك العديد من الأسباب لاستخدام الكتب لطرح الأفكار التي تدعو لتغيير جذري، فعادةً ما تُصنع الفرضيات العلمية الحديثة من عدد كبير من الأدلة من عدة تخصصات علمية رئيسية أو فرعية، ولذلك عادةً ما تكون ذات بُعد يتداخل مع الاختصاصات المختلفة، ففي كتاب أصل الأنواع نجد بيانات مُدرَجَة من عدّة تخصصات منها علم الأجنة والأحافير والتشريح المقارن والجغرافيا الحيوية، بينما المجلات العلمية المعاصرة تركز عادةً على موضوعات ضمن تخصص ضيق ومحدد؛ ولذلك نادرًا ما تسمح بالمراجعة الشاملة وتقييم الدليل اللازمَيْن لطرح منظومة تفسيرية جديدة.
بالإضافة لذلك، يمكن بالكتاب –أو بالكتاب التجاري المشهور تحديدًا– أن تخلق جمهورًا أوسع لفكرة جديدة، ومن خلال ازدياد الاهتمام بها يمكنك أن تتخطى المؤسسات المستغلقة وتجبر العلماء على إعادة تقييم أي فرضية سابقة، وقد قام داروين بذلك عندما نشر أصل الأنواع مع جون موراي John Murray (إعلامي بارز في بريطانيا الفكتورية)، وقد فعل مايكل بيهي الأمر ذاته، فقد بنى حجته لصالح التصميم الذكي على أمثلة عديدة من علم النانو في الخلية ووضع ذلك في كتابه، واستقطب الكتاب كامل الانتباه العالمي ليركز على المعضلة التي شكلتها النظم المعقدة أمام الداروينيين الجدد، وأمدّت النظرية في الوقت نفسه بدعم من العامة والعلماء.
هذا الكتاب يطرح حجة لصالح نفس الفكرة، ولكن على أساس مختلف من الأدلة: إنها المعلومات المخزّنة (الرمز الرقمي) في الدنا والجزيئات الحيوية الأخرى الكبيرة، ولأن قضيتي التي طرحتُها أقل شهرةً من قضية بيهي، فقد كانت شيئًا جديدًا كليًّا بالنسبة للكثيرين، ولكنها لم تكن مبنية على اكتشاف جديد، بل على واحد من أشهر اكتشافات علم البيولوجيا الحديث: إنه اكتشاف قدرات جزيء الدنا على حمل المعلومات عام 1953، وهو ما أسميه "التوقيع في الخلية".
في عام 2005، وجدت نفسي في موقف المدافع عن نظرية التصميم الذكي في الإعلام مراتٍ عدة، ولم تكن أكثر حجة أود أن أطرحها ذات دعم شعبي كبير، فكتبت هذا الكتاب لإصلاح ذلك الخلل، وحاولت أن أطرح حجةً شاملة متداخلة بين عدة تخصصات لوجهة نظر جديدة عن نشأة الحياة، إن هذا الكتاب يمثل "حجة واحدة طويلة" لصالح نظرية التصميم الذكي.
لقد شغلت منصب أستاذ جامعي لمدة اثني عشر عامًا قبل أن أنتقل للعمل بدوام كامل في معهد ديسكفري، ووجدت خلال التدريس أن كثير ما يكون من السهل فهم أية نظرية علمية عندما يراجع المرء التسلسل التاريخي لتطور الأفكار الذي أدى لتشكيلها، فتتبع قصص الاكتشافات ليس مشوقًا فحسب، بل يمكن أيضًا أن يوضح عملية التفكير التي أوصلت الباحثين إلى استنتاجاتهم؛ ولهذا السبب قررت طرح حجتي للتصميم الذكي في إطار تاريخي وشخصي روائي أوسع.
وبالتالي، فإن كتاب "التوقيع في الخلية" ليس طرحًا لحجة فحسب، بل يحكي كذلك قصة، قصة لغز وقصتي معه، ويحكي عن الغموض الذي أحاط باكتشاف الرمز الرقمي في الدنا وكيف أن هذا الاكتشاف أربك محاولات كثيرة لتفسير نشأة أول حياةٍ على الأرض، وسأسمي هذا الغموض خلال هذا الكتاب بـ"لغز الـدنا".
كلمة موجزة عن تصميم الكتاب: في الفصلين 1 و2 شرحت القضايا العلمية والفلسفية المتعلقة بلغز الدنا، وذكرت شيئًا من الخلفية التاريخية للنقاش الكبير حول نشأة الحياة، وشرحت في الفصول 3 و4 و5 الغموض المحيط بالدنا بتفصيل أوسع لتوضيح ما يتوجب على أي فرضية لنشأة الحياة أن تفسّره، وقمت في الفصلين 6 و7 بدراسة ما اعتقده العلماء في الماضي نشأة البيولوجيا وكيف يبحث العلماء حاليًا في هذه الأمور، ثم في الفصول من 8 حتى 14 فحصت التفسيرات المتنافسة لنشأة المعلومات الحيوية.
وفي الفصلين 15 و16 قدمت حجة إيجابية في صالح التصميم الذكي باعتبار أنه التفسير الأفضل لنشأة المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى، وأخيرًا، في الفصول 17 وحتى 20، دافعت عن النظرية بمواجهة اعتراضاتٍ متنوعة مشهورة، وفي الخاتمة، أظهرت أن نظرية التصميم الذكي تمثل منهجًا مثمرًا للبحث العلمي المستقبلي؛ فهي لا تكتفي فقط بتوضيح بعض الاكتشافات الحديثة والمفاجئة في علم الجينات، وإنما تقدّم أيضًا موضوعات جديدة للبحث العلمي في العديد من الاختصاصات الفرعية في علم البيولوجيا.
لقد بدأ شغفي بلغز الدنا منذ خمسٍ وعشرين سنةٍ تقريبًا، ورغم أنه كانت هناك أوقات شعرت فيها بالاستياء من نفسي (بالأخص عام 2005) لأنني لم أكتب هذا الكتاب بعد، ولكن الجدول الزمني الممتد للعمل على الكتاب كانت له فائدتان على الأقل غير مقصودتين؛ أولاهما؛ أنه أعطاني الفرصة لإجراء محادثات شخصية ومناظرات عامة مع رموزٍ علمية رائدة لها علاقة بهذا الجدال؛ وهذا مكّنني من تقديم ما آمل أن يكون تحليلًا متعمقًا غير عادي للتفسيرات المتنافسة لنشأة المعلومات في الخلايا الحية.
وثانيهما؛ أنه بسبب وقت إصداره فقد يستطيع الكتاب أن يساهم في عملية إعادة التقييم الجارية للإرث الذي تركه داروين، في نفس الوقت الذي يقوم فيه العلماء والمثقفون والمراسلون وغيرهم بذلك، يصادف هذا العام –عام 2009– الذكرى المائتين لولادة داروين والذكرى المائة والخمسين لإصدار "أصل الأنواع"، الذي أتم فيه داروين عدّة أمور، وقدّم إطارًا جديدًا لفهم تاريخ الحياة، وأوضح آلية جديدة للتغيرات الحيوية.
وبحسب العديد من المثقفين والعلماء؛ فقد دحض أيضًا الحجة العلمية لصالح التصميم، من خلال طرحه تفسيرًا ينفي التصميم عن كل أثر يفترض أنه قد أنتجه ذكاء مصمم فعلًا، وفي المقابل وضّح أن "مظاهر التصميم" هذه كانت نتيجة عمليات غير موجهة يمكن بالفعل أن تحاكي قدرة العقل المصمم، وكما قال مؤخرًا عالم البيولوجيا التطوري فرانشيسكو أيالا Francisco Ayala: فإن داروين فسّر ظهور التصميم دون اللجوء إلى مصمم فعلي، وأنه قد أعطانا "تصميمًا من غير مصمم".14
ولكن هل ذلك صحيح حقًا؟ حتى لو سلّمنا بحجة داروين في كتابه، فهل ذلك يعني أنه دحض فرضية التصميم حقًا؟ هذا الكتاب يقدّم منظورًا جديدًا لهذا السؤال من خلال دراسة أحد أكثر الأمور المستمرة في إثارة الغموض في علم البيولوجيا المعاصر.
1. Wilgoren, “Seattle Think Tank Behind ‘Intelligent Design’ Push.”
2. Wilgoren, “Politicized Scholars Put Evolution on the Defensive.”
3. Holden, “Random Samples,” 1709; Giles, “Peer-Reviewed Paper Defends Theory of Intelligent Design”; Stokes, “Intelligent Design Study Appears”; Monastersky, “Society Disowns Paper Attacking Darwinism.”
4. Klinghoffer, “The Branding of a Heretic”; Price, “Researcher Claims Bias by Smithsonian”; “Unintelligent Design Hostility.”
5. “Intelligent Design and the Smithsonian,” New York Times, August 20, 2005, Editorial/ Letters, national edition; Powell, “Darwinian Debate Evolving.”
6. Ostling, “Lifelong Atheist Changes Mind.”
7. Powell, “Editor Explains Reason for ‘Intelligent Design’ Article”; “Intelligent Design and the Smithsonian,” New York Times, August 20, 2005, Editorial/Letters, national edition; Wilgoren, “Politicized Scholars Put Evolution on the Defensive.”
8. The O’Reilly Factor (Fox News), “Brutally Criticized,” August 25, 2005.
9. Thaxton, Bradley, and Olsen, The Mystery of Life’s Origin.
10. Meyer, “The Origin of Biological Information and the Higher Taxonomic Categories.” See also Meyer, “The Cambrian Information Explosion”; “DNA and the Origin of Life”; “Evidence of Design in Physics and Biology,” 53–111; “The Scientific Status of Intelligent Design”; “Teleological Evolution”; “DNA by Design”; “The Explanatory Power of Design”; Meyer, Nelson, and Chien, “The Cambrian Explosion.”
11. Meyer, “The Origin of Biological Information and the Higher Taxonomic Categories.”
12. Pera, The Discourses of Science.
13. Darwin, On the Origin of Species, 481–82.
14. Ayala, “Darwin’s Greatest Discovery.”